المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

يقود امبراطور أميركا القمم في العالم. من قمة الدول الثماني الى قمة اسرائيلية - فلسطينية، وصولا الى قمة عربية مصغّرة. الامبراطور صار سيد العالم كله والمتحكم المباشر في حاضر العالم العربي. اما الديكتاتور العراقي الذي تهاوت تماثيله وانصابه (يبلغ عددها 3380) فيعيش في المجهول ويصدر البيانات متحسراً على مملكته المتهاوية.

بين الامبراطور الأميركي المصاب بلوثة دينية وهوس شيطاني، والديكتاتور العراقي المُصاب بعظامية فاقعة، ضاع العراق أو يكاد، وشهد العرب المحدثون اكبر خساراتهم. الهزيمة العسكرية كانت حتمية ولم تفاجىء احداً. لكن الأشد هولاً من الهزيمة هو ضياع العراقيين وافتقادهم ارادتهم الوطنية في مواجهة الغزاة.

هذا هو السؤال العربي اليوم، الذي لا يمكن تغطيته بكلامولوجيا "ثقافية" تتكلم لغة هوائية خائفة، وترفض النظر في الصورة المرعبة التي تحتل أرض العراق، وكل أرض العرب.

الصورة تتألف من عنصرين متكاملين:

الامبراطور فوق الأرض بجيوشه ودباباته وتسلطه على الشعب العراقي، وتحكمه بالثروة النفطية.

والديكتاتور تحت الأرض، بالمقابر الجماعية التي بناها لشعبه، والسجون التي تتشقق جدرانها على انين الضحايا.

عالمان يتعايشان في وطن ممزق. تماثيل الديكتاتور التي كانت تحتل المساحة المرئية، غارت الى العتمة، والتحقت بـ"الانجازات" الحقيقية الوحيدة التي صنعتها اجهزة المخابرات: من حُنين وهو الجهاز الذي انشأه صدام حسين قبل تسلم السلطة، الى المخابرات العسكرية التي روّعت البلاد والعباد. وجاءت دبابات الامبراطور لتعلن انها صارت اليوم تماثيل متحركة لـ"الحرية" التي يعد بها الاميركيون الشعب العراقي.

ما كان فوق الارض في الزمن الديكتاتوري صار تحتها اليوم، وما هو اليوم فوق الارض في الزمن الأميركي - الامبراطوري، لا يسعى إلا الى احتلال ما هو تحتها من أنهار نفط.

الديكتاتور والأمبراطور، خاضا معركتهما من اجل هذا التحت أرضي. الأول بنى مقبرة من اجل أن يحكم ويتحكم، والثاني حوّل العراق مقبرة، من أجل أن يهيمن ويتسلط.

عالمان مليئان بالظلال والغموض. اسرار القمع الوحشي الذي مارسه الديكتاتور تتكشف عن اكبر فضيحة اخلاقية صُنعت في العالم العربي، باسم انبعاث الأمة ووحدتها. اما اسرار الاحتلال فمعروفة. يكفي أن يقرأ من له عينان التقارير الأميركية، من أجل أن يرى اللعبة مكشوفة والاوراق مفتوحة. فالبيت الأبيض المحاط بعصبة الأصوليين من المهتدين واشباههم، لا يخفي اهدافه، ولا يتستر على مشروعه الأمبراطوري، الذي جعل من العالم العربي ساحته وموقع بناء انصابه ورموزه.

احتلال فوق الأرض، وذاكرة موت ورائحة جثث وعظام تحتها.

تفكك يصنعه الاحتلال فوق الأرض، وعصبيات يسعى الى استغلالها، وشعب يقوم بتفتيته. وعفن تحت الأرض، لا يعلم أحد مقدار استشرائه وعمق تأثيره على اركولوجيا الوعي العراقي المعاصر.

هذا هو المشرق العربي. ديكتاتور سلّم بلاده الى الامبراطور، وامبراطور يتابع مهمة الموت التي بدأها الديكتاتور منذ ثلاثة عقود.

واللعبة هي أن يبقى العالم العربي ممزقاً بين هذين الطاغوتين. طاغوت يسمح بنبش القبور، لكنه يصنع من البلاد كلها مقبرة للروح والارادة، وطاغوت آخر قابع تحت الأرض، يتابع حفر المقابر الجماعية في متخيله. والاثنان متحالفان في مسألة واضحة هي ضرورة عدم خروج العرب من هذين الكهفين المتداخلين، وبهذا تستمر المهزلة - المأساة الى زمن غير محدد.

السؤال العربي، هو عن العلاقة بين المقبرتين، وعن سُبل الخروج من متاهة الموت التي ارتسمت "خريطة طرق" وحيدة لهذه البلاد المنكوبة.

الجواب عن هذا السؤال لن يصير سياسياً، قبل أن يتبلور في المستوى الثقافي. فالمشكلة الكبرى ثقافية أولاً. كيف يتم اخراج الثقافة العربية من حفل التهريج والارتزاق والموت الذي يأسرها. كيف نقرأ تاريخ الحركة القومية التي ابتليت بالنزعة العسكرية واستولت عليها الفاشية منذ بداياتها، حين اندفع ميشال عفلق الى التنظير للانقلاب، وحين لم ترث تلك الحركة سوى عقلية حلقات الضباط العرب في الجيش العثماني، ومشاريعهم الانقلابية. السؤال كيف ننزع عن كلماتنا ما علق بها من اوساخ القمع والجنون، الذي حوّل المشرق العربي سجناً، وصنع من تماثيل الديكتاتور فزاعة قتلت المجتمع وحولته الى كمٍّ بلا رؤية أو رأي أو قرار.

من اجل أن نقاوم الامبراطور الأميركي يجب أن نزيح اشباح الديكتاتور ونسقط تماثيله ونفتح عقولنا على الحرية، وندرّب اقلامنا على كلمات جديدة، تصنع من اجل الانسان وكرامته.

هذا التحالف المخيف بين عالمين مظلمين: عالم فوق أرضي تعبث به الدبابات الأميركية، وعالم تحت أرضي مصنوع من المقابر، يشلّ كل شيء في المشرق العربي، ويجعل من الكلمات تبناً ومن المواقف اضحوكة. الموقف الوطني يبدأ بمراجعة شاملة لواقع أسود، عهّر اللغة الوطنية، واساء الى الفكرة العربية، قبل أن يسلّم البلاد الى الاحتلال.

ملحق النهار – بيروت – 5 حزيران

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات