المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • المكتبة
  • 1512

لا يوجد اجماع عام وشامل حول كون مصطلح "طهارة السلاح" جزءًا لا يتجزأ من قائمة القيم في جيش الدفاع الاسرائيلي ، كما هي الحال بالنسبة ل "المصداقية" او "المسؤولية الشخصية".

هذا ما كتبه رونين افيهو في مقالته "طهارة السلاح – ظهور وتطور المصطلح" في مجلة "سكيرا حودشيت" (عرض شهري) 2-3 (نيسان 1991) . واضاف ان تبني طهارة السلاح معناه تحديد القتال والمحاربة، اي وجود تصادم بين المفاهيم الرسمية وبين تلك غير الرسمية لكل تنظيم عسكري. وبمعنى اخر وجود صراع داخلي قوي بين ما هو مطلوب من الجندي ان يؤديه وبين ما هو حاصل على ارض الواقع في ميدان القتال.

وتعني طهارة السلاح - بكونها نمطاً عسكرياً- سلب حياة ابرياء بدون حق، بحيث ان العقوبة تجاه هذه الخطوة قاسية وثمنها باهظ.

ورغم ان مسألة طهارة السلاح ما زالت غامضة ويعتريها الصمت واجواء التستر، الا ان هذا الموضوع بدأ منذ عقدين من الزمن يفتح ابوابه امام الباحثين الاسرائيليين وغيرهم، او بكلمات وتعابير اكثر دقة، ان مجموعة من المؤرخين وباحثي العلوم السياسية الاسرائيليين قد فتحوا الباب بأيديهم. اضف الى ذلك ان التخبطات السياسية والتساؤلات حول قضايا واحداث وجرائم ومجازر ارتكبتها المنظمات اليهودية والجيش الاسرائيلي ما زالت تقض مضاجع اسرائيليين لهم علاقة مباشرة او غير مباشرة بالموضوع.

وتشهد الاحداث التاريخية، التي يعالجها كتاب "طهارة السلاح، أخلاق وأسطورة وواقع" لمؤلفه دان ياهف(*)، خاصة في الفترة الزمنية الواقعة بين الاعوام 1936 و 1956 ، ان المنظمات (العصابات) اليهودية- الهاغناه والايتسل والليحي- قد وجهت كل جهودها نحو انهاك المقاومة الفلسطينية والقضاء عليها وشرذمتها، ومواجهة القوات البريطانية في فلسطين (على الاقل من قبل الايتسل والليحي في فترة الحرب العالمية الثانية ، حيث ان الهاغناه نادت بإتباع سياسة ضبط النفس). كل هذا كان بهدف تهيئة الاجواء للإعلان عن اقامة اسرائيل.

ان مواجهة المنظمات اليهودية للفلسطينيين قد بدأت في فترة مبكرة برؤية مستقبلية مدروسة وهي تنفيذ تطهير عرقي واسع في فلسطين في الوقت المناسب وبالادوات المناسبة . وبالفعل حصل هذا المشهد في عام 1948 عندما اعلنت القيادة الحربية البريطانية عن خطة انسحابها من فلسطين، فشرعت المنظمات اليهودية بتنفيذ التطهير العرقي في كل قرية ومدينة فلسطينية بكافة الوسائل والطرق المتاحة لديها. وتم كل هذا تحت نظر او سمع الانجليز الى حين مغادرتهم فلسطين في منتصف ايار 1948، وبعد هذا التاريخ تابع الجيش الاسرائيلي (الجيش الاسرائيلي هو عبارة عن توحيد كافة الاجسام العسكرية اليهودية في هيئة واحدة حملت اسم " جيش الدفاع الاسرائيلي"، واكبر هيئة فيها هي منظمة الهاغناه) تنفيذ المجازر والمذابح ضد الفلسطينيين، سواء داخل الخط الاخضر او في الضفة الغربية وقطاع غزة.

*****

يعالج هذا الكتاب ظهور وتطور مصطلح "طهارة السلاح" منذ بداية الحركة الاستيطانية اليهودية (عام 1882) من خلال عرض مسهب لأبرز الاحداث التي وقعت في فلسطين في كل ما له علاقة بقتل العرب الفلسطينيين ونهب وسلب ممتلكاتهم ومضايقتهم وملاحقتهم ومصادرة اراضيهم وتهجيرهم وتدمير بيوتهم واقتلاع مغروساتهم الخ...اي ان اقامة دولة يهودية قد تحقق بتنفيذ ما ذكر سالفا، فالغاية تبرر الوسيلة.

واشار مؤلف الكتاب دان ياهف، من خلال رسم خط تاريخي- زمني واضح، لظهور وتطور فكر وممارسة اشكال من التطهير العرقي الذي اتبعته المنظمات اليهودية- الصهيونية ضد الفلسطينيين العُزّل والابرياء .

ويستعين ياهف بمحور زمني يمتد على اكثر من قرن من الزمان مثقل بالمجازر والمذابح والاعتداءات التي قامت بها المنظمات اليهودية او افراد من اليهود المعتنقين عقائد ومذاهب عنصرية متطرفة للغاية .

ويشدد ياهف على الربط المحكم بين الايديولوجية الصهيونية وبين الممارسة على ارض الواقع بتوضيح ان فكرة طرد العرب (الترانسفير) هي الضمانة الوحيدة والاكيدة لتحقيق اقامة الوطن القومي اليهودي في فلسطين.

وتنكر الرواية الاسرائيلية الرسمية ان يكون للمنظمات اليهودية قبل عام 1948 او للجيش الاسرائيلي بعد هذا العام او للحكومة الاسرائيلية بمجملها ووزارة الدفاع بشكل خاص اي دور او مساهمة في طرد الفلسطينيين وتهجيرهم وتدمير قراهم ومدنهم الا من باب الدفاع عن النفس .

ولكن هذا الكتاب - اسوة بعدد ليس بقليل من الكتب المماثلة الصادرة مؤخراً- يدحض هذه الرواية ويميط اللثام عن وجود خطة يهودية – اسرائيلية شاملة ومحملة بالتفاصيل لتنفيذ تطهير عرقي واسع ضد المجتمع العربي الفلسطيني في فلسطين، لتكون هذه البلاد من نصيب اليهود ليقيموا عليها دولتهم ويصبحوا فيها الاغلبية الساحقة.

من جهة اخرى، فإن الرواية الاسرائيلية الرسمية تدّعي ان القوات اليهودية- الاسرائيلية قامت بتنفيذ هجمات دفاعية ووقائية وليس من منطلقات اخرى. الا ان الوقائع والحقائق والبيانات الاخرى المشفوعة بالوثائق والتي يقدمها الكتاب تبين عكس ذلك. فكيف يمكن تفسير المجازر في دير ياسين وعيلبون والصفصاف والدوايمة وغيرها والتي ذهب ضحيتها ابرياء فلسطينيون من هذه القرى على أيدي مجرمين من اعضاء المنظمات اليهودية والجيش الاسرائيلي؟.

ويرفض المؤلف المقولة الشائعة في الاوساط الاسرائيلية ان الفلسطينيين هم الذين يتحملون مسؤولية خروجهم من فلسطين، فيبين مسلسل الجرائم الذي نفذته المنظمات اليهودية والذي من منطلقاته ونتائجه اخلاء الاراضي الفلسطينية من سكانها الاصليين واصحابها الشرعيين تحت شعار "عرب اقل وارض اكثر".

ويبين ياهف ان مفهوم طهارة السلاح ضبابي في صفوف المنظمات اليهودية وكذلك في بعض الحالات في الجيش الاسرائيلي بحيث ان عمليات قتل واغتيالات قد نفذت بحق شخصيات يهودية لأقل شبهة الصقت بها ، ويورد قوائم تفصيلية لمثل هذه العمليات .

*****

ورغم ان النقاش كان محتدماً في اوساط المنظمات اليهودية قبل العام 1948 بخصوص استعمال السلاح، ضد من ؟ ومتى؟ وكيف ؟ الا ان هذه المنظمات كانت متفقة على ضرورة تحقيق هدفين، هما: تصفية الاحتلال البريطاني في فلسطين، والحيلولة دون قيام دولة عربية فلسطينية. ويكفي ان هذين الهدفين هما في صلب الفكر السياسي والعسكري لهذه المنظمات، ليكونا البوصلة الموجهة لنشاطاتها في مختلف الاصعدة والمستويات.

مما لا شك فيه ان ادبيات الحروب والمعارك الاسرائيلية قد اظهرت المحارب الاسرائيلي المتمسك بالقيم الانسانية وفي مقدمتها "طهارة السلاح"، وأن الجوانب الانسانية فيه تسمو على تلك عند الفلسطيني الذي تصوره هذه الادبيات بالهمجي والبدائي والمتخلف والخالي من كل حس انساني . الا ان كتاب "طهارة السلاح" يبين الوجه الاخر الحقيقي والواقعي للمحارب الاسرائيلي النهم للدم والمتعطش للقتل والتدمير والتخريب بإسم العقيدة والمبدأ. ولا يأتي المؤلف في توجهه هذا من مجرد تصور او طرح عابر للاحداث، انما من خلال اعتماده على وثائق ومستندات كثيرة استقاها من الارشيفات الاسرائيلية.

ولا يترك ياهف مجالاً للشك او التردد والتراجع في الوقائع والحقائق التي يوردها في كتابه. فكل حادثة ولو كانت صغيرة للغاية، مثل اطلاق عيار ناري، يوردها مدعومة بوثيقة او مستند يمكن العودة اليه.

لا يتوقف الامر عند هذا الحد، بل انه يُحطم اسطورة الجيش المنزّه عن الخطأ، ويكشف الحقيقة التي طالما حاول الاسرائيليون نبذها وتهميشها والغاءها وفرض حقائق زائفة او اظهار وقائع وكأنها الحقيقة بعينها. الوقائع التي يوردها تبين ان الجيش الاسرائيلي لم يكن متمسكا بطهارة السلاح، كما يحلو لكثيرين تصويره.

الواقع هنا ان ياهف ينحو في طريق المؤرخين الاسرائيليين الجدد، بالإصغاء الى الرواية الاخرى، ويظهر استعداده لفتح باب المحرمات الاسرائيلية الخاص بعام 1948 على وجه التحديد.

ان فتح هذا الباب منوط بثمن غال وباهظ، انه ثمن الحقيقة، وعلى ما يبدو فإن الحقيقة مؤلمة وموجعة للغاية لأن ما حدث في عام 1948 وحواليه، ليس حالة وهمية من الكذب والخداع اراد العرب تسويقها للعالم، كما يدعي عدد كبير من الاسرائيليين من رسميين وغيرهم، بل العكس هو الصحيح، ان ما جرى في ذاك العام لا يمكن طيه في صفحات الماضي التاريخي اسوة بالاحداث التاريخية العادية، انه عام مختلف في تاريخ الفلسطينيين والاسرائيليين، فبالنسبة للفلسطينيين وقعت فيه النكبة ودمر الوطن المأمول لهم، وبالنسبة للاسرائيليين فإنهم نجحوا في اقامة وطنهم على ارض الواقع بعد أن كان حلما، ولكن على اشلاء جريمة ارتكبت بحق شعب هذه البلاد.

بإعتقادي ان هذا الكتاب ليس المحطة الاخيرة في ميدان مناقشة الارهاب الصهيوني- الاسرائيلي ضد الفلسطينيين خاصة والعرب عامة، بل هو حلقة في مسلسل اسرائيلي اخذ على عاتقه عرض الحقائق بشكلها الطبيعي والحقيقي وبمنظور موضوعي وفق اسس وقواعد البحث التاريخي الموثق. وايضا فالكتاب بكافة فصوله وجداوله ومعطياته يفتح آفاقاً جديدة امام دارسي هذا الموضوع او المرحلة التاريخية الحاسمة في تاريخ الصراع الصهيوني- الاسرائيلي، ومن المؤكد ان استنتاجات مغايرة لتلك التي كانت مألوفة ستُطرح على بساط البحث وتترك اثاراً.

وعلينا الاشارة هنا - للتوضيح فقط- ان تيار المؤرخين الاسرائيليين الجدد وما يطرحونه، هو ليس تيارا جارفاً. بمعنى انه لم يُحدث نقلة نوعية او تغييرا عميقا على اجندة الحياة السياسية الاسرائيلية، فما زال هذا التيار حبيس الاكاديمية وبعض المقالات والابحاث والمؤتمرات .

وينخرط في هذا التيار نخبة من الباحثين الاكاديميين الذين يتعرضون يوميا لنقد لاذع وشديد من اوساط اكاديمية اسرائيلية بينها اليسار والتقدمي.

رغم كل هذا ، علينا الاستفادة من هذه الخبرة التاريخية والسياسية ومعرفة كيفية استثمارها في حالات الضرورة والحاجة .

(*) الترجمة العربية الكاملة لهذا الكتاب تصدر قريبًا عن "مدار"

المصطلحات المستخدمة:

الصهيونية

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات