المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

تلوين المدى ديمغرافيًا
منذ تهجير الفلسطينيين في 1948 وفيما بعد التهجير الداخلي والخارجي في الخمسينيات، تقوم حكومات اسرائيل المتتالية بعملية "تلوين المدى" والتي تستهدف تلوينه بالابيض. ولكن، تشوب هذا البياض بعض البقع السوداء التي تحاول الحكومة الاسرائيلية تقليصها بقدر الامكان.

في ايامنا هذه وبعد مرور 56 سنة على قيام اسرائيل، وخضوع الاراضي الفلسطينية لعمليات مصادرة وتملك كثيفة من قبل السلطات الاسرائيلية، والتي بموجبها تقع حوالي 93% من مساحة "الدولة" تحت سلطتها - مع العلم ان ما يقارب 80% من اراضي الدولة ال"بيضاء" غير ال"صالحة" لاي استعمال عربية - تستمر الحكومة في جهودها المكثفة لاعادة ترتيب وتلوين المدى ديموغرافياً من شمال البلاد حتى جنوبها، مستهدفة حتى القليل مما تبقى من البقع "السوداء".

تهجير بدون"عنصر الصدمة"

هكذا طُورت سياسات الارض، التخطيط والديموغرافيا في البلاد لتستهدف القيام بتهجير "خالٍ من عنصر الصدمة" من اجل "اعادة انتشار" العرب مواطني الدولة وتقليص نسبهم في جميع انحائها، ابتداء بالمخططات الهيكلية القطرية، اللوائية والمحلية، مرورا بسياسات توزيع الاراضي وانتهاء بسياسة الهندسة الديمغرافية لمواطني هذه الدولة. هكذا نرى أن الحكومة "تنضغط" من جديد كلما قامت دائرة الاحصاء المركزية بنشر احصائيات للتركيبة الديموغرافية في الدولة. وهي تبدع في إتخاذ قرارات جديدة ومستجدة لتفريغ هذا الضغط! هكذا على سبيل المثال اعادت الحكومة الاسرائيلية قبل حوالي السنة ونصف السنة تفعيل "المجلس الديموغرافي"(1) ، وعملت لسحب الجنسية من مواطني الدولة العرب المتزوجين والقاطنين في الاراضي المحتلة عام 1967، واقرت في ايار 2002 سياسة منع لم الشمل للفلسطينيين المتزوجين من مواطني الدولة(2)، واخيرا وليس آخرا، اقر البرلمان "الديموقراطي" الاسرائيلي في تموز 2003 قانون منع لم الشمل على أساس عرقي(3)..


هذا من ناحية. اما من الناحية الاخرى فتبدع الحكومة ومؤسساتها المختلفة في مجال التخطيط والبناء حيث تحول هذا المجال من اداة لتطوير اجتماعي واقتصادي الى اداة لـ "حرب اثنية" قررت ان تشنها الدولة على مواطنيها العرب لتقليص "البقع السوداء" كما ذكرنا. على سبيل المثال لا الحصر أودع في شهر اب 2001 مخطط جديد للواء الشمال (تمام 2/9) وقد جاء على خلفية فشل المخطط السابق في انجاز تهويد الجليل. وعليه فقد حدد المجلس القطري للتخطيط والبناء انه يجب على المخطط ايجاد حلول لبعض المشاكل، اولها كان "اقلية يهودية في اقسام كثيرة في الجليل"، ثانيها "الاستمرارية الجغرافية لبلدات عربية" وثالثها "الاستيلاء على الارض والبناء غير القانوني". فمثلا حُدد "التوازن الديموغرافي" في المناطق الست التي قسم اليها اللواء، على الوجه الآتي: الا يمس توسيع اية بلدة في اي منطقة من المناطق الست بالتوازن الديموغرافي لهذه المنطقة. النتيجة المرجوة هي إذن الهجرة العربية من لواء الشمال، تحت "ضغط جسدي معتدل" و"قانوني". وهذا ايضا ما هدف إليه المخطط القطري 35 "في سبيل" توسيع الفجوة القائمة بين البلدات العربية واليهودية، حيث يحدد المخطط مناطق تطوير البلدات العربية ويحولها الى "مدن" من حيث كثافة البناء والكثافة السكانية فيها (من دون تطوير البنى التحتية لاستيعاب ذلك طبعا)، وكأننا جميعا نهوى العيش "كقطعان" تتكاثف مع الوقت. والمنطق نفسه ساري المفعول في مخطط لواء حيفا الجديد حيث حدد احد اهدافه "لتوجيه عمليات ازدياد السكان والتغيرات في توزيعتهم"! وعليه فإنه يحدد مناطق تطوير البلدات العربية في وادي عارة ويزيد من كثافتها السكانية.

آفاق الحكومة "تتسع"، جنوبًا

مع انتقالنا جنوبا تتسع "افاق" السياسات الحكومية (كما تتسع بالعادة افاق سياسات الشمال في تعامله مع الجنوب) لتشمل هذة المرة ومجددا مخططات تهجير جماعي ومباشر لاكثر من سبعين الف مواطن عربي، يسكنون منذ 1948 في قرى غير معترف بها اقامها الحكم العسكري، ومع هذا تجرّم الحكومة سكان هذه القرى بكونهم "متسلطين على اراضي دولة" (خلل جذري في المنطق البسيط). فقد اقدمت الحكومة في السنة الاخيرة على تطوير "جيل جديد" من السياسات ضد العرب في النقب، والتي تتميز بالتهجير الجماعي المباشر لسكان القرى غير المعترف بها من اجل توطين سكان يهود وبالتالي زيادة سلطة الحكومة على اكبر مساحة ممكنة من الارض في المنطقة والتأكد من عدم رجوع العرب اليها.


لتطبيق هذة السياسات، أقدمت الحكومة وأذرعها المختلفة، على اتخاذ عدة قرارات حول سياساتها تجاه العرب في النقب، وبالمقابل تجاه اليهود في المنطقة. من اهم هذه القرارات "خطة شارون في النقب" او "القرار الحكومي بموضوع الوسط البدوي في النقب" والذي صادقت عليه الحكومة في نيسان 2003. ومع ان الخطة تصرح بان هدفها تطوير وتحسين اوضاع العرب في النقب وبناء سبع بلدات عربية جديدة وتطوير البلدات العربية القائمة، فهي تستهدف عملياً الاستيلاء على ما تبقى من الاراضي في النقب وتهجير اهالي القرى غير المعترف بها وتركيزهم في 7 مجمعات سكنية، هدم القرى غير المعترف بها، بناء مستوطنات يهودية جديدة في المنطقة، زيادة نسبة السكان اليهود والتي تصل اليوم إلى ما يقارب 75%، وزيادة نسبة الاراضي بحوزة سكان المنطقة اليهود. يذكر انه على الرغم من ان سكان النقب العرب يشكلون 25.2% من سكان المنطقة فإن الاراضي في مناطق نفوذهم تقارب 1.9% فقط. وفي نظرة عامة الى ميزانية الخطة البالغة 1.75 مليار شاقل يتضح ان ما يقارب 40% من هذه الميزانية مخصص لهدم البيوت وتعزيز الاجسام المختلفة الفاعلة في هذا الصدد (كالدوريات الخضراء، جهاز الشرطة، النيابة العامة والجهاز القضائي)، تهجير العرب البدو من اراضيهم ودفع تعويض مقابل التنازل عن ادعاءات ملكية، كما يلاحظ انعدام الميزانيات لتخطيط البلدات الجديدة، تطويرها وبناء البنى التحتية بها!!

شروط القبول: يهودي غني!

بموازاة هذه القرارات قامت الحكومة الاسرائيلية في تاريخ 21.7.02 باقرار اقامة 14 بلدة يهودية جديدة في الجليل والنقب، 7 منها في منطقة النقب، منها 4 في منطقة النقب الشمالي. وفي الاشهر الاخيرة تعمل الحكومة لاقرار اقامة 30 بلدة يهودية جديدة، ايضاً في الجليل والنقب، 50% منها في منطقة النقب. المستوطنات اليهودية الجديدة تستهدف الاستيطان لاخلاء القرى غير المعترف بها وحتى الحد من توسع البلدات المعترف بها، والتسلط الفعلي على الاراضي لمنع اي استعمال عربي لها. لتنفيذ هذه القرارات اقرت الحكومة في نيسان 2002 واذار 2003 "تعزيز" و"تنجيع" سياسة هدم البيوت بحيث اقامت وحدة مركزية في النيابة العامة لتعمل من اجل "تطبيق قوانين التخطيط والبناء ومواضيع الاراضي والقوانين التابعة لها". وهكذا عمل الجهاز التنفيذي لدى الحكومة على هدم ما يقارب 120 مبنى في النقب خلال سنة 2003، بحجة البناء غير المرخص ورش بالمبيدات ما يقارب 24000 دونم من المحاصيل الزراعية منذ بداية 2002.


ومن اجل تأمين استعمال يهودي حصري للاراضي في النقب، اوصت الحكومة في تشرين الثاني 2002 بسياسة اقامة "الاستيطان الفردي" من اجل "الحفاظ على اراضي الدولة". عجلة التنفيذ بدأت فورًا بالتخطيط الذي ولد مخطط "سبيل النبيذ" لاقامة 30 مستوطنة فردية في النقب المركزي، حيث بحث الموضوع في المجلس القطري للتخطيط والبناء في بداية هذا الشهر (آذار). المستوطنات الفردية تشمل عشرات الاف الدونمات التي تعطى (بمبالغ زهيدة) للعائلات (اليهودية الغنية) المستوطنة ليس فقط للسكن، الزراعة او السياحة، فغالبية مساحات هذه المستوطنات الفردية تعطى للعائلات من اجل "حمايتها" من اي استعمال عربي. وهكذا تتحول هذة العائلات الثلاثين الى شرطة "لحماية الارض". بطبيعة الامر ترتبط هذه المستوطنات الفردية بالبنى التحتية وكل ما يلزم لمعيشة الانسان، الحيوان والنبات، من اجل منع تحسين الظروف السكنية والمعيشية للعرب غير المعترف بوجودهم في النقب. وكما صرح القائم باعمال رئيس الحكومة ووزير الصناعة والتجارة، ايهود اولمرت، في شهر شباط الفائت، فإن الدولة سوف "تخلي" القرى البدوية غير المعترف بها في النقب من اجل توطين مئات الاف اليهود، بالتغاضي عن كون المجلس الاقليمي "رمات هنيجب" يشمل 4.3 مليون دونم في منطقة نفوذه (30% من مساحة النقب) من اجل 3700 مواطن يهودي يسكنون في 13 بلدة.

أخيرًا، موت الإستعارة

هكذا، بتحويل مبادىء المساواة والعدل في تقسيم الموارد، الى مبادىء غير مقبولة "مبدئيا" على الحكومة الاسرائيلية، وبترسيخ التشويهات والتناقضات القائمة والدوس على امكانيات ايجاد حل ملائم للغبن القائم - تؤكد "الديموقراطية الوحيدة في الشرق الاوسط" تجذير فصلها العنصري لمواطنيها العرب على مستويي النظرية والتطبيق. وتتحول المقولة الاستعارية بأنه يجب التركيز "على ما يجري على الأرض"، الى مقولة غاية في المباشرة.

(*) محامية تعمل في "عدالة" - المركز القانوني لحقوق الأقلية العربية في اسرائيل

  1. أقيم المجلس الديموغرافي بقرار حكومة اسرائيل من يوم 9.4.1967 لايجاد الطرق لزيادة نسبة مواطني الدولة اليهود مقابل تقليل نسبة المواطنين العرب.
    2. قرار الحكومة رقم 1813 من يوم 12.5.2002 تحت عنوان "معالجة القاطنين غير القانونيين وسياسة لم الشمل- لسكان السلطة الوطنية وللغرباء من اصل فلسطيني".
    3. " قانون المواطنة والدخول الى اسرائيل 2003".
المصطلحات المستخدمة:

تهويد الجليل, رئيس الحكومة

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات