قبل أن يعيّن إيهود أولمرت، يوم 16 كانون الثاني/ يناير 2006، قائمًا بأعمال رئيس حزب "كديما" (إلى الأمام)، وفور أن حلّ مكان أريئيل شارون كرئيس للوزراء الإسرائيلي بالوكالة، اعتبر المرشح الرائد ليحل محلّ شارون في هذين المنصبين بعد أن تمكّن المرض من هذا الأخير. وبإجماع المراقبين فإن لدى أولمرت المؤهلات لذلك، لديه القدرة القيادية ولديه تجربة حزبية، سياسية وأمنية. لكن ليس لديه ما كان لشارون، وهو شيء كبير. فهو غير محبوب وغير مرغوب. وعندما طلب من المشاركين في مجموعات العمل، التي انعقدت خلال الأسابيع الأخيرة في "كديما"، تحديد مشاعرهم إزاء الشخصيات الرائدة في السياسة، جاءت النتيجة كالتالي: شارون، شمعون بيريس وتسيبي ليفني في مقدمة القائمة "باعتبارهم يحظون بالتقدير والود".
وتم تعريف أولمرت بأنه موضع تقدير لكنه ليس موضع ودّ. وفي استطلاعات الرأي التي أجريت بعد معالجة شارون السابقة، وضع بيريس وليفني من قبل ناخبي "كديما" على رأس قائمة المرشحين المفضلين لخلافة شارون عند الضرورة.
ويرى أكثر من معلق للشؤون الحزبية في إسرائيل أن دخول أولمرت إلى منصب رئاسة الوزراء في هذه الظروف، حيث الوضع في غزة على شفا الانفجار، وحيث الوضع عند الحدود الشمالية على عتبة الغليان، وعشية انتخابات مصيرية في السلطة الوطنية الفلسطينية، هو دخول دراماتيكي بأبعاد "شكسبيرية" تقريباً. وقد وصف أحد المعلقين في شبكة "السي إن إن" منصب رئيس الوزراء في إسرائيل كأحد أصعب الوظائف في العالم. وسيدخل إلى هذا المنصب شخص لم يكن يوماً على عتبة رئاسة الحكومة.
ويتفق الجميع على أن أولمرت سيحتاج إلى تعزيز جدي إلى جانبه.
"الحازم"
تحت عنوان "المهام الملقاة على عاتق القائم بالأعمال" أنشأت صحيفة "هآرتس"، يوم 8/1/2006، افتتاحية، كتبت تقول فيها:
"لم يتوقع إيهود أولمرت بالتأكيد أن يتم صعوده إلى القيادة القومية في مثل هذه الظروف المأسوية عندما استدعي في منتصف الليل لاستبدال رئيس الوزراء المريض. خلال السنوات الثلاث الأخيرة برز أولمرت، خصوصا، كهامس في أذني أريئيل شارون، وكمن شجعه على السير في خطوات تاريخية مثل إخلاء المستوطنين من قطاع غزة وتفكيك الليكود وتشكيل حزب كديما.
أولمرت كان مقتفي الأثر الذي أعد الرأي العام للانعطافة في مواقف رئيس الحكومة، إلا أن الكلمة الأخيرة بقيت دائماً في يد شارون.
الآن، ولأول مرة في حياة أولمرت السياسية، تلقى المسؤولية العليا على كتفيه، ليست لديه مائة يوم من الصبر والتسامح، ومن المشكوك فيه حتى أن تكون لديه مائة ساعة كهذه. المهمات التي يقف أمامها معقدة: تعيين وزراء جدد، مواجهة الانتخابات (في 28/3/2006) على رأس "حزب نجوم" بلا هيكل عظمي وجهاز حزبي، وفوق كل ذلك ـ إقناع الجمهور الإسرائيلي بأنه خليفة جدير لشارون بعد فترة التعليم والتمرس التي قام بها وهو إلى جانبه.
ولكن من قبل أن يمتثل أولمرت لحكم الناخبين يتوجب عليه أن يجتاز اختبارات غير بسيطة في إدارة الدولة وعلاقاتها مع الفلسطينيين والمستوطنين. على رأس قائمة المشكلات الملحة تقف قضية إجراء انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني في 25/1/2006، وأوامر الإخلاء التي أُصدرت للمستوطنين الذين سيطروا على سوق الجملة في الخليل. وبالطبع، ردود الأفعال على الأعمال الإرهابية الفلسطينية والتصعيد المحتمل في الشمال.
أولمرت سيحسن صنعاً إذا لم يقع في إغراء تأجيل القرارات لاعتبارات سياسية مريحة. الحكومة برئاسته ملزمة بإبداء الحزم في مواجهة مستوطني الخليل من أجل إنهاء ظلم امتد لسنوات وكذلك للتلميح بأنه لا يطيق خروقات القانون التي تتم خلف الخط الأخضر. التسويف في تنفيذ الأوامر والذي سيبرر بالصدمة الوطنية الناجمة عن مرض شارون، لن يؤدي إلا إلى إضعاف موقف الحكومة التي ستتشكل بعد الانتخابات ـ حيث ستوضع على المحك قضية تراجع إسرائيل خلف حدودها الجديدة، الأمر الذي سيستوجب إخلاء مستوطنات كثيرة في الضفة.
في الدرجة نفسها تجدر إعادة النظر في معارضة إسرائيل لتصويت الفلسطينيين في شرقي القدس، والتي عللت برفض شرعية مشاركة حماس في الانتخابات. الإدارة الأميركية المعنية بإجراء الانتخابات في موعدها تضغط على إسرائيل لإزالة العقبات التي تمنح محمود عباس ذريعة للتأجيل. أولمرت سيتصرف بصورة صحيحة إذا وجد حلاً سريعاً للتصويت في القدس كما تم في الانتخابات السابقة (1996 ـ 2005) وأن لا يخشى الانتقادات من اليمين.
عشية الانتخابات ليست توقيتا ملائما لاتخاذ قرارات إستراتيجية. وخصوصاً ليس إبان وجود حكومة انتقالية لم ينتخب رئيسها في صناديق الاقتراع وأغلبية حقائبها شاغرة. أولمرت الذي أظهر قدرته على اتخاذ القرارات في مناصبه السابقة ونجح في حشد أغلبية المسؤولين في "كديما" من خلفه بسرعة، سيختبر من خلال معالجته للأزمات التكتيكية. الطريقة التي يتصرف بها، وخصوصا الحزم الذي سيبديه، ستكون حاسمة في بلورة مواقف الناخبين قبل الانتخابات.
بإمكان أولمرت أن يتعلم من سلفه أن الجمهور يحترم أكثر من أي شيء آخر القرار والفعل ويكافئ من يقف وراءهما من خلال ازدياد شعبيته ودعمه في صناديق الاقتراع".
حتى الآن نستطيع القول إن أولمرت أبدى "الحزم المطلوب" في قضيتي مستوطني الخليل والانتخابات في القدس الشرقية، من وجهة النظر الإسرائيلية الصرفة. وهو ما يجعل غالبية التنبؤات بشأن نتائج الانتخابات البرلمانية المقبلة ترجّح أن يكون الفوز حليفه سوية مع حزب "كديما".
أزمة "العمل" و"الليكود"
ينضاف إلى ما تقدّم عاملان آخران، يتعلقان بما يحدث في الحزبين المتنافسين مع "كديما" على صدارة النتائج، وهما "العمل" و"الليكود".
فبعد أن أصبح شارون خارج الصورة، حانت فرصة زعيم "العمل" الجديد عمير بيرتس لإصلاح الخطأ الكبير الذي كلفه خمسة إلى ستة مقاعد، ومحاولة إعادة شمعون بيريس إلى البيت. لكن هذا الأخير سرعان ما أعلن أنه باق في "كديما" تحت زعامة أولمرت. وقد قام بيريس سوية مع زميليه الهاربين من "العمل" إلى "كديما"، حاييم رامون وداليا إيتسيك، بتقديم استقالتهم من الكنيست لكي يكون في وسعهم دخول الكنيست القادمة على لائحة "كديما".
الوضع الجديد الذي نشأ حمل في طياته أيضاً فرصاً جديدة لبنيامين نتنياهو، الزعيم الجديد- القديم لحزب "الليكود". لكن نتائج المنافسة على لائحة الحزب في مركز "الليكود" أظهرت أن الشرخ هناك كبير جداً. ويبدو أنه لا يمكن إعادة "كديما" إلى الوراء.
وفي ذروة حالة الإرباك واللايقين، التي تسيطر على هذين الحزبين، كان الشعور السائد في الوسط السياسي أن حزب "كديما" لن ينهار بعد شارون.
صحيح أن خصومه أحبوا تسميته "حزب الرجل الواحد"، لكن كديما ليس حزب الرجل الواحد أكثر مما هي الحال عليه في حزب العمل برئاسة بيرتس أو في الليكود برئاسة نتنياهو. ثمة في كديما عدد كبير من الأشخاص الأكفاء، المخضرمين والمناسبين. بعضهم سار وراء الفكرة، وبعضهم سار وراء الرجل، وبعضهم سار لأسباب تتعلق بالمصلحة. ما ينقص كديما اليوم، من دون شارون، هو المادة اللاصقة الموجودة في أحزاب أخرى: مؤسسات، منتسبين، تراث، جذور، ناشطين وفروع.
وفي رأي معلق الشؤون الحزبية يوسي فيرتر فإنه "إذا تم خلال الأسابيع القادمة إيجاد صيغة توفر بديلاً مناسباً لكل هذه الأمور، وإذا لم تشر استطلاعات الرأي إلى انهيار وتحطم وهروب سريع للناخبين، فإن من شأن هذا الحزب البقاء".
إيهود أولمرت- نبذة عن حياته
إيهود أولمرت من مواليد فلسطين- سنة 1945.
خريج الجامعة العبرية في القدس- علم النفس، الفلسفة والمحاماة. متزوج وأب لأربعة أبناء. قبل دخوله المعترك السياسي عمل في المحاماة في "مكتب المحامين إيهود أولمرت وشركاه".
في سنة 1973، وهو في الثامنة والعشرين من عمره، انتخب للمرة الأولى لعضوية الكنيست (الثامن). ومنذ ذلك الوقت انتخب بصورة متواصلة للكنيست سبع مرات أخرى. أشغل بين السنوات 1981- 1988 عضوية لجنة الخارجية والأمن في الكنيست. ومنذ 1988 بدأ يشغل وظيفة وزير في حكومات إسرائيل- بداية في حكومة إسحاق شامير كوزير لشؤون الأقليات وكوزير للصحة بين السنوات 1990- 1992. في تشرين الثاني/ نوفمبر 1993 انتخب رئيسًا لبلدية القدس، بعد انتصاره في الانتخابات البلدية على منافسه العمالي (الأسطوري) تيدي كوليك وفوزه بـ60 بالمائة من أصوات الناخبين في المدينة.
في انتخابات الكنيست الرابع عشر انتخب عضوًا في البرلمان ضمن قائمة الليكود- تسومت- جيشر. كما خاض انتخابات بلدية القدس التي جرت في 1998 وفاز برئاستها لدورة ثانية. ولاحقًا قرّر عدم خوض المعركة في انتخابات الكنيست الخامس عشر في 1999. لكنه عاد إلى الكنيست ضمن قائمة الليكود برئاسة أريئيل شارون في انتخابات الكنيست السادس عشر في كانون الثاني/ يناير 2003. وفي شباط/ فبراير 2003 استقال من منصبه كرئيس لبلدية القدس.
في يوم 27 شباط/ فبراير 2003 عيّن أولمرت وزيرًا للصناعة والتجارة في حكومة أريئيل شارون الثانية. وفي موازاة هذا التعيين تسلم صلاحيات أخرى في هذه الحكومة منها: القائم بأعمال رئيس الوزراء، مسؤول عن مديرية أراضي إسرائيل، عضو المجلس الوزاري المصّغر (الكابينيت) و"المطبخ السياسي"، شريك في المفاوضات السياسية ومسؤول مديرية التخطيط (التي كانت خاضعة لوزارة الداخلية) ومديرية سلطة البث.
أولمرت معروف بكونه أحد أعضاء الكنيست الأكثر حضورًا وقوة: في 1978 صوّت ضد اتفاقات كامب ديفيد. وفي 1992، وفي إطار انتخابات الليكود الداخلية، أيد ترشيح بنيامين زئيف بيغن لرئاسة الحزب. وفي 1993 انتخب لرئاسة بلدية القدس بدعم من الحريديم والكتل اليمينية. وقد عمل كرئيس للبلدية على تطبيق الأيديولوجية اليمينية في تخوم مدينة القدس. وله بصمات واضحة على القرارات الإشكالية التي اتخذتها الحكومة الإسرائيلية في هذا الشأن، مثل موضوع البناء في جبل أبو غنيم (هار حوماه) ورأس العامود وموضوع فتح النفق تحت المسجد الأقصى. كما حارب مظاهر السيادة الفلسطينية في القدس الشرقية. وعمل على إغلاق مكاتب المؤسسات الفلسطينية في القدس الشرقية، وفي طليعتها بيت الشرق. عارض نشر أي رمز فلسطيني على كتب التدريس في مدارس المدينة الشرقية، ودأب على هدم أي بناء فلسطيني بحجة عدم حصوله على ترخيص. كما أنه من كبار مؤيدي نقل السفارة الأميركية إلى القدس.
من ناحية أخرى عمل أولمرت على نقل ميزانيات إلى هيئات حريدية وعلى تعيين مندوبي الكتل الدينية في وظائف مفتاحية في البلدية، ما عبّد الطريق للمرّة الأولى أمام وصول مرشح حريدي إلى سدّة رئاسة بلدية القدس.
في ضوء المارّ ذكره لا يعتبر إيهود أولمرت غريبا عن الحياة السياسية الإسرائيلية، فهو برلماني عتيق ويعتبر حاليًا الذراع الأيمن وواحدا من أقرب المقربين لرئيس الوزراء أريئيل شارون.
وكان أولمرت قد أبدى كامل الدعم لخطة شارون بشأن سحب القوات الإسرائيلية من قطاع غزة.
كما أنه وقف إلى جانب شارون في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي عندما ترك حزب الليكود اليميني لإنشاء حزب "كديما" المحسوب على تيار الوسط.
وقد تبنى أولمرت خطا معتدلا نوعا ما خلال السنوات الأخيرة، مقارنة مع كبار المسؤولين في حزب "الليكود" الذي كان ينتمي إليه.
واكتسب أولمرت بصفته قائمًا بأعمال رئيس الوزراء سمعة بتعميم الأفكار المثيرة للجدل، وهو ما كان يسمح لشارون بضمان وجود ردود فعل وتطوير إستراتيجيته.
فك الارتباط
عندما كان أولمرت لا يزال رئيسًا لبلدية القدس عام 2001، تحدثت أنباء صحافية عن وجود تقارب في وجهات النظر بينه وبين شارون الذي كان يفصله عن موعد الشروع في تشكيل الحكومة الجديدة ستة أشهر.
وقد وعده شارون بمنحه حقيبة وزارية أساسية عرفانا منه لمساندته خطة فك الارتباط.
وقد أثار أولمرت ضجة كبرى في الأوساط السياسية عام 2003 عندما اقترح أن تنسحب إسرائيل من كامل الضفة الغربية وقطاع غزة. وقال في مقابلة أدلى بها لصحيفة "يديعوت أحرونوت" إن الانسحاب هو السبيل الوحيد أمام إسرائيل للإبقاء على طابعها الديمقراطي وهويتها اليهودية.
وحذر من أن التزايد السكاني للفلسطينيين يعني أن السكان العرب سوف يتجاوزون اليهود في الأراضي الخاضعة لإسرائيل.
وقال إن إسرائيل إذا أرادت الحفاظ على هويتها كدولة يهودية فإن عليها أن تعيد رسم الحدود بحيث يكون أكبر عدد من اليهود في الجانب الإسرائيلي.
وكان زملاء له في الحكومة آنذاك يمثلون سكان المستوطنات قد اتهموه بالإستسلام للإرهابيين.
وبالرغم عن الطابع المثير لتلك التصريحات وما تلاها من جدل، فقد أصبحت فكرة فك الارتباط فكرة حكومية تدعمها الغالبية العظمى من الإسرائيليين.
ضابط سابق
يعتبر إيهود أولمرت من ألد خصوم بنيامين نتنياهو الذي حل محله كوزير للمالية في شهر آب/ أغسطس من عام 2005 عندما انسحب هذا الأخير من الحكومة احتجاجا على خطة الانسحاب من غزة.
إلا أن المراقبين يعتبرون أنه بالرغم عن الخلافات القائمة بينهما فإن هناك قواسم مشتركة تجمعهما. فكلاهما زعيم بالفطرة وخطيب بارع وذكي في التعامل مع الصحافة ووسائل الإعلام.
وقد ولد إيهود أولمرت في بلدة بنيامينا عام 1945. وتلقى تكوينه في مجال المحاماة. وكان والده أيضا عضوا في الكنيست الإسرائيلي.
وقبيل انتخابه لعضوية الكنيست، وهو في سن الثامنة والعشرين، عمل أولمرت في الجيش الإسرائيلي ضابطا لوحدة من وحدات المشاة.
وعندما كان رئيسًا لبلدية القدس أنفق أموالا طائلة بين الأعوام 1993 و2003 لتطوير البنى التحتية من طرق ومياه شرب وصرف صحي.
كما كان من أكبر المدافعين عن فكرة توسيع المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية المحيطة بالمدينة.
في الوقت نفسه اهتمت الصحافة الإسرائيلية بإبراز "الطابع السياسي" لبيت أولمرت، فهو تقريبا اليميني الوحيد في بيته. زوجته، عليزا، يسارية ومؤيدة لحركة "السلام الآن" الإسرائيلية، ونجله الأصغر أريئيل رافض للخدمة العسكرية، ويتلقى دروسه الجامعية في السوربون في فرنسا، وله ابنة أخرى أيضا ذات توجهات يسارية وهي أستاذة جامعية.
وقدّر محللون أن التحولات السياسية لدى أولمرت، على رغم محدوديتها، متأثرة قطعا بأجواء بيته.
تذكير- "مبادرة أولمرت" السابقة لخطة شارون
في 5/12/2003 أدلى إيهود أولمرت، بصفته القائم بأعمال رئيس الوزراء الإسرائيلي، بمقابلة إلى صحيفة "يديعوت أحرونوت" دعا فيها إلى "انسحاب أحادي الجانب" من غالبية المناطق الفلسطينية في الضفة والقطاع، بما في ذلك الانسحاب من "بعض الأحياء العربية القصيّة" في القدس الشرقية المحتلة، طبعاً من دون"التفريط" بأن "تبقى القدس الموحدة عاصمة لإسرائيل (الى الأبد)"، ومن دون العودة إلى حدود 4 حزيران 1967. وجاءت هذه المقابلة في وقت أجمع فيه العديد من المحللين على أن انسحاباً أحادي الجانب، من قبيل ما يدعو له أولمرت أو غيره، بات هاجساً إسرائيلياً تحت إلحاح حاجات صهيونية مخصوصة تزكيها دوافع عديدة، ليس أقلها أهمية بكل تأكيد استمرار الانتفاضة والمقاومة الفلسطينية و"تلهي" الادارة الأميركية البوشية عن دعم إسرائيل، في إطلاقيته الفاقعة، بنتائج نزف عسكر عدوانها في العراق، يوماً يوماً على مدار الساعة.
ومع أن أولمرت لم يفصح بالتفصيل عن "خريطة طريق" دعوته السالفة، إلا أنه نطق بالجوهر الواقف في صلبها وهو الحفاظ على "دولة إسرائيل" مع "ميزان ديمغرافي" تظل فيه نسبة اليهود 80 بالمائة ولا تتعدى نسبة العرب الفلسطينيين الـ 20 بالمائة، إلى ناحية تثبيت المفهوم الصهيوني المتمسك باستمرار كونها "دولة يهودية" ذات "ديمقراطية" مفصلة على مقاسها، كما لا يخفى على القارىء اللبيب.
لاحقًا تبين أن تصريحات أولمرت كانت بمثابة تمهيد لخطة شارون بشأن "فك الارتباط" عن قطاع غزة وبعض مستوطنات شمال الضفة الغربية. وقبل ذلك قيل وكتب الكثير منذ أن أطلق أولمرت دعوته هذه. ومن هذا الكثير يمكن تقطير ما يلي:
1- وصف مقرّب من رئيس الوزراء الاسرائيلي، أريئيل شارون، ما أسماه "قنبلة أولمرت" بأنها بالون اختبار منسَّق أو متفق عليه مع شارون، حسب ما ذكرت الصحف الإسرائيلية يوم 9/12/2003.
2- الانسحاب الأحادي الجانب لا يعني إحراز "تسوية ما" للنزاع الإسرائيلي- الفلسطيني، طبقاً لما يقوله المعلق في صحيفة "هآرتس" يوئيل ماركوس وغيره. وبالتالي فهو لن يكون مقبولاً على العالم طرًّا، ولا حتى على الإدارة الأميركية، إذا كان غير مقرون باتفاق. وعدم القبول به لا يرجع فقط إلى كونه يهيل التراب على خطة "خريطة الطريق"، وإنما لأنه لا احتمال البتة لأن تنسحب إسرائيل بإرادتها إلى حدود "الخط الأخضر" وتمضي مع مائة ألف مستوطن كولونيالي إلى داخل تخوم إسرائيل. ومن غير خطوة كهذه، في الحدّ الأدنى، لن يكون هناك تعايش بين "دولة يهودية" وبين دولة فلسطينية.
3- قيل منذ قديم الزمان إن "الحاجة أم الاختراع". أما في "مبادرة أولمرت" فإن "الحاجة" إلى "دولة يهودية شبه نقية من العرب" أو على وجه الدقة "دولة يهودية مع نسبة مضبوطة من العرب" لا تعدّ أمّا لأي اختراع، بل هي عودة مكرورة إلى "تقليد صهيوني عريق" في سيرورة النزاع، تمثل في حوسلة "الجغرافيا" (أي تحويلها إلى وسيلة) لخدمة غايات "الديمغرافيا".
وإذا كانت المصادفة قد جعلت "دعوة" أولمرت محايثة لذكرى قرار التقسيم من يوم 29/11/1947، فان استعادة وقائع صهيونية ناجزة محاذية لذلك القرار من شأنها أن تنطوي على أكثر من عبرة ودلالة.
من تلك الوقائع، مثلاً، أن البحث في القرار المذكور، من طرف الحركة الصهيونية، جاء على ركام من نقاشات حيال فكرة التقسيم ذاتها دججت، في نوع من الصيرورة، موقفاً يقبل بالتقسيم كمرحلة وقتية، لازمة، في سبيل تكريس ما يتضاد معه، جملة وتفصيلاً. ويجدر هنا استعادة حقيقة تاريخية مؤداها أن التفكير الصهيوني إزاء الفلسطينيين في تلك الفترة (1947) كان قد تبلور تماماً حول غاية العلاقة العسكرية العدائية، من جهة، وحول غاية بسط السيطرة الصهيونية على "فلسطين الكاملة"، من جهة أخرى. وهذا ما عبر عنه القائد الصهيوني الأعلى سلطة وقتذاك، دافيد بن غوريون. أكثر من هذا فإن بن غوريون نفسه جيَّش قبوله لاقتراح "لجنة بيل" حول تقسيم البلاد من سنة 1937 لصالح هذه السيطرة، عندما كتب يقول إن دولة يهودية في "جزء من فلسطين" (بموجب اقتراح "لجنة بيل") هي مرحلة في سياق أطول يفضي إلى "دولة يهودية في فلسطين كلها".
وفي أكثر من مناسبة ثار السؤال حول ما إذا كان قبول بن غوريون وتياره (تيار العمل) لقرار التقسيم من سنة 1947 صادقاً؟.
في إحدى هذه المناسبات سجَّل الباحث الفلسطيني وليد الخالدي، جواباً على هذا السؤال، حقيقتين أساسيتين هما :
الأولى - أن التقسيم أصبح الهدف التكتيكي لقيادة التيار الرئيسي في الحركة الصهيونية، منذ "لجنة بيل". إلا أن السنوات التي أعقبت ذلك شهدت انزياحاً عن هذا الهدف التكتيكي لصالح تأييد هدف "المعسكر التنقيحي" بزعامة زئيف جابوتنسكي، وهو إقامة دولة يهودية على ضفتي نهر الأردن بقوة السلاح. وهذا ما جرى التعبير عنه في "برنامج بلتيمور" الذي صاغه بن غوريون في 1942 . إلا أنه عاد، في 1946، وتبنى التقسيم بشكل تكتيكي.
الثانية- حذر بن غوريون زملاءه- كما أورد ذلك واضعو سيرته الذاتية- من أن قبوله التقسيم لا يندرج ضمن التنازل عن الدولة اليهودية في "فلسطين الكاملة" وإنما يشكل انتقالاً إلى ما أسماه بـ"الصهيونية العميقة" وقوامها مذهب التطبيق المتدرج للأيديولوجية الصهيونية الكلاسيكية.
وإذا أضيفت إلى هاتين الحقيقتين الخطط العسكرية المختلفة لإقامة "الدولة اليهودية" وطرد الفلسطينيين من وطنهم الأصلي فإن النتيجة التي لا بد من استخلاصها هي أن قبول بن غوريون بقرار التقسيم من 1947 لم يكن صادقاً.
وإننا نجد مصداقاً لما يقوله الخالدي، من زاوية أخرى تستحق بدورها المزيد من البحث والاستقصاء، فيما تقوله الباحثة الإسرائيلية "أنيتا شبيرا" في كتابها "النضال الخائب" (صدر في 1977) من أن "تشكل مناطق استيطان يهودية منعزلة أدى، في نهاية الأمر، إلى التنازل عن تلك المناطق من فلسطين التي لم تتشكل فيها أغلبية يهودية".
أما عالم الاجتماع الإسرائيلي "جرشون شفير" فقد كان، بشأن ما تقوله "شبيرا"، أكثر وضوحاً واتهاماً حين كتب يقول : إعطاء أفضلية للدمغرافيا (أغلبية يهودية في جزء من فلسطين) على الجغرافيا (أقلية يهودية مسيطرة على كل أجزاء فلسطين) تحوّل إلى ماركة متميزة للتيار المركزي في حركة العمل الصهيونية.
وتمثلت المصلحة الديمغرافية لحركة العمل في زيادة كثافة السكان اليهود. ونظراً لأن الهجرة اليهودية لم تزود "الأعداد" المطلوبة فإنه لم يكن ممكناً إحراز النتيجة المنشودة إلا عبر الاكتفاء بمنطقة سيطرة يهودية مقلصة نسبياً. ورغم أن جميع الصهيونيين ، بلا استثناء، كانوا في البداية من أنصار "أرض إسرائيل الكاملة" فإنه في سنوات الثلاثين (في 1937 ضمن سياق برنامج التقسيم للجنة بيل) وفي سنوات الأربعين (في 1947 ضمن التجاوب مع قرار التقسيم الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة) ظهرت جاهزية لدى جزء كبير من حركة العمل لقبول تقسيم البلاد بين دولة يهودية وبين دولة فلسطينية أو أردنية. هذه الجاهزية لم تكن ناجمة عن اتجاهات سلمية متأصلة في قيم حركة العمل- حسبما يميل إلى الاعتقاد باحثون إسرائيليون كثيرون- وإنما كانت ناجمة بالذات عن نزعتها الحربية.. ويمكن القول إن حركة العمل، من منطلق دفاعها العدواني عن المصالح الاقتصادية للعاملين اليهود، انتهجت إستراتيجية تقطيع أوصال السوق وإقصاء العمال العرب منه. واستهدفت هذه الإستراتيجية، بالأساس، تقليص المصاعب الاقتصادية التي كانت ماثلة أمام الاستيطان الصهيوني من جراء الواقع الديمغرافي الذي يشكل الفلسطينيون فيه أغلبية السكان (من كتابه "الأرض، العمل والنزاع الإسرائيلي- الفلسطيني" الصادر في 1989).
ما يقوله شفير يلوّح، إلى حد بعيد، بالخلفية التي مهدت لاحتلال 1967، والذي يرى كثير من المؤرخين والباحثين، الفلسطينيين و"الإسرائيليين الجدد" على حدّ سواء، أنه جاء لكي يكمل ما لم تستطع الحركة الصهيونية أن تنجزه في 1948.. وهذا موضوع آخر.
لكن بوضعنا ما تقدّم من كلام أمامنا لا تبدو "دعوة" أولمرت أكثر من كونها برنامجاً آخر لإعادة انتشار تحتمه "ظروف موضوعية" ليست خافية على أحد. وهو نفسه يؤكد، مع دعوته إلى "الانسحاب الأحادي الجانب"، أن "بيت إيل وعوفرا وجبال يهودا والسامرة هي (بالنسبة له) أرض إسرائيل.. وهي ليست للفلسطينيين. ولم تكن لهم البتة، بل لم تكن جزءاً من تاريخهم ومن ذكرياتهم".
في هذه النقطة بالذات سيبقى الصراع على أشدّه، من ناحية أولمرت، حتى بعد "انسحابه" من طرف واحد، كما كانت الحال بالنسبة لشارون.
مستقبل "كديما"
لا ترّكز التعليقات الإسرائيلية كثيرًا على الأجندة السياسية لإيهود أولمرت، باعتبارها الأجندة السياسية نفسها التي انتهجها أريئيل شارون والتي يتوقع أن يواصلها خليفته. ويأتي عدم التركيز على الأجندة السياسية لصالح التمحور حول حظوظ حزب "كديما" بزعامة أولمرت في الفوز في الانتخابات البرلمانية المقبلة وأكثر فأكثر حول حظوظه في البقاء طويلاً ضمن المشهد السياسي الحزبي الإسرائيلي، خلافًا لسائر حركات وأحزاب الوسط السياسي الإسرائيلي التي لم تعمّر طويلاً وسرعان ما اندثرت.
في هذا الشأن يمكن الإشارة إلى رأيين مهنيين:
الرأي الأول عبّر عنه أستاذ العلوم السياسية والدبلوماسي السابق شلومو أفنيري، الذي رأى أن حزب "كديما" يختلف عن جميع أحزاب وحركات الوسط الإسرائيلية، ولذا فإنه سيبقى في الخارطة السياسية الإسرائيلية "مثلما بقيت الديغولية في فرنسا بعد غياب ديغول".
ويرجع أفنيري هذا الاختلاف إلى عاملين رئيسيين:
الأول أن حزب "كديما"- مع شارون أو بدونه- لا يأتي من هامش السياسة وإنما من مركزها، وهو ليس في حاجة لأن يبني وسطًا سياسيًا لكونه الوسط السياسي القائم، الذي يقضم بصورة جوهرية نفوذ الحزبين الكبيرين التقليديين (العمل والليكود).
الثاني أن حزب "كديما" ليس حركة احتجاج، كما كانت حال سائر حركات الوسط (داش، حزب مردخاي- مريدور- شاحك، شينوي، مثلاً)، وإنما يمثل سياسة جرى تطبيقها بشكل مثير للانطباع رغم المصاعب الكبيرة، وقادته يحتفظون بإيصالات حول أعمالهم.
أما الرأي الثاني فقد عبّر عنه الأستاذ الجامعي أفيعاد كلاينبرغ ويرى أن حزب "كديما" يحظى بشعبية غير مسبوقة فقط على خلفية الانهيار الأخلاقي والبنيوي للأحزاب الأخرى- شينوي، العمل، الليكود، وحتى ميرتس والجبهة الديمقراطية. وهو يؤكد أنه بعد فوز "كديما" في الانتخابات، الذي يراه شبه مؤكد، ستطهر الشروخات الداخلية في هذا الحزب وتبدأ الحروب بين قادته.
أجندة أولمرت
إذا تحققت نتائج الاستطلاعات فإن الاعتقاد الغالب هو أن رئيس الحكومة المقبل لإسرائيل سيكون زعيم "كديما" إيهود أولمرت. لكن السؤال الأساس هو ما إذا كان أولمرت سيواصل طريق آريئيل شارون، أم أنه سيختار نهجاً مستقلاً.
المؤكد أن أولمرت سيقول إنه ينوي تطبيق خطط شارون بعد الانتخابات. أما عملياً، فإن شارون لم يكشف أبداً كل أوراقه السياسية، كما يؤكد معلق الشؤون العسكرية في "هآرتس" زئيف شيف.
ويضيف: اجتاز أولمرت أيضاً انقلاباً فكرياً في السنوات الأخيرة، على غرار يمينيين غير قليلين. فقد أيّد فك الارتباط الأحادي الجانب عن قطاع غزة، تلك الخطوة التي قادها شارون. ولكن خلافاً لشارون، لا يملك أولمرت حساباً دموياً مع الفلسطينيين وإن كان هو أيضاً لا يميل إلى الثقة بهم. ومن أقواله في السنتين الأخيرتين يبدو أنه توصل إلى الاستنتاج بأنه لا يمكن لإسرائيل أن تبقى دولة ديمقراطية يهودية ما لم تغيّر سياستها التقليدية. ولا ريب أن الخوف من الديمغرافيا السلبية التي تتطور بين إسرائيل والفلسطينيين توجه خطواته. ولهذا فهو يوافق على التخلص من مناطق لا يكون فيها لإسرائيل أغلبية يهودية كبيرة.
يخشى أولمرت من أن يتواصل الإرهاب الفلسطيني حتى بعد توصل إسرائيل إلى اتفاقات حل وسط أليمة مع الفلسطينيين، في حال حصولها، سواء فعلوا ذلك عن عمد أم لأنهم غير قادرين على الإيفاء بوعودهم بوقف أعمال العنف. هذا ما حصل للفلسطينيين في الأردن وفي لبنان أيضاً، حيث تسببوا بحروب أهلية. فقد اعتقد شارون أنه سيكون بوسعه إحلال وقف تام للإرهاب بالقوة، ولكن هذا لم يحصل. وتشجع هذه الحقيقة أولمرت على التفكير في مواصلة خطوات إسرائيلية كبيرة أحادية الجانب كما في قطاع غزة.
ويرى شيف أنه بعد الانتخابات ستقف الحكومة برئاسة أولمرت أمام بضع إمكانيات. كل واحدة منها ستملي إستراتيجية مختلفة.
إحدى الإمكانات هي أن الفلسطينيين سيواصلون الإرهاب. حكومة إسرائيل ستنتظر تطبيق خريطة الطريق من قبل الفلسطينيين، وفي هذه الأثناء سترد بإجراءات عسكرية. وواشنطن سترى في ذلك حرباً دفاعية ولكنها ستطلب من أولمرت تطبيق وعد شارون بتفكيك المواقع الاستيطانية غير القانونية ووقف توسيع الاستيطان القائم. هذا المطلب قائم في خريطة الطريق وفي الوعود التي قطعها شارون في رسائله إلى الرئيس بوش ووزيرة الخارجية كوندوليزا رايس.
ثمة إمكانية إستراتيجية ثانية وهي أمر أصعب ولذا فهي ذات احتمالات أقل. وهي السعي مباشرة إلى اتفاقات دائمة. من المشكوك فيه أن تكون منظمة التحرير الفلسطينية قادرة وحدها على الوصول إلى اتفاق كهذا مع إسرائيل، فضلاً عن أن حماس ستزيد قوتها في الانتخابات. ومن دون مساعدة حقيقية من الدول العربية الرائدة فإن عربة المفاوضات ستعلق، مثلما حصل مع إيهود باراك وياسر عرفات في كامب ديفيد.
الإمكانية الإستراتيجية الثالثة تعيد أولمرت وحكومة إسرائيل إلى الخطوات الأحادية الجانب. في هذه الإمكانية ستحاول إسرائيل أن تقرر بنفسها الحدود المؤقتة، المذكورة في خريطة الطريق، تجاه السلطة الفلسطينية التي ستصبح في طور دولة. إسرائيل لا يمكنها أن تفعل ذلك من دون انسحابات أخرى، أو فقط بواسطة جدار الأمن والفصل. ومن هنا، فإن الحديث يدور قبل كل شيء عن انسحاب من مستوطنات منعزلة ومن مواقع استيطانية غير قانونية. وفي السياق أيضاً انسحاب من أحياء عربية في شرقي القدس. هذا بعيد جداً عما كان أولمرت مستعداً له في حينه كرجل الليكود. لكن هذه المرة ستمنح له فرصة تاريخية لتحقيق ما هو أهم لدولة إسرائيل: الحفاظ على استقلالها اليهودي وعلى الديمقراطية وضمان أمنها.
المصطلحات المستخدمة:
الصهيونية, الخط الأخضر, يديعوت أحرونوت, هآرتس, لجنة الخارجية والأمن, باراك, كديما, الليكود, شينوي, داش