المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

أكثرية الخبراء- معظمهم من أصحاب الفكر الاقتصادي التابع للمدرسة الليبرالية الجديدة- يؤكدون أن ميزانية 2005، لا تبشر بالخير للأكثرية الساحقة من السكان، بل تساعد على مواصلة نهج تعميق الفوارق ما بين الأغنياء والفقراء وتساعد على تعميق الفقر لدى العمال أو ما يسمى "بالعمال الفقراء"، أولئك العمال الذين يعملون يومياً لكنهم يعيشون وعائلاتهم في فقر مدقع ...

ترى لماذا يحدث ذلك؟ وأين ذهب شمعون بيريس صاحب التصريح الناري القائل بأن هذه الميزانية وكل السياسة الاقتصادية الحكومية هي سياسة رأسمالية خنزيرية؟ أم أنه يتذرع بتأييد فك الارتباط كمصلحة وطنية عليا، ليشغلنا بأوهام السلام القادم وبالمقابل تتواصل سياسة الاستيطان والاحتلال بلا هوادة .

الوزراء يشتكون

عندما قرأنا بعض البروتوكولات للجنة المالية في الكنيست، التي بحثت في بنود الميزانية لبعض الوزارات، وجدنا أن وزراء الحكومة نفسها يهاجمون الميزانية بشكل عنيف بل مقلق جداً. وكان في مقدمة هؤلاء القائم بأعمال رئيس الوزراء إيهود أولمرت الذي لم يتورع عن وصف ميزانية وزارته، وزارة التجارة والصناعة والعمل، بأنها "قاتلة" لا تعطي الجواب الشافي للمطالب الواقعية من أجل الدخول في نمو حقيقي ، يؤدي إلى تغيير الحالة الاقتصادية (21/02/05) .

أما الوزير داني نافيه، وزير الصحة، فكان أكثر صراحة وهاجم اقتراح الميزانية بلا هوادة ليؤكد للقاصي والداني أن سياسة الحكومة الحالية التي ينتمي لها هي سياسة معادية للعمال، وللشرائح الضعيفة، بل معادية لكافة المواطنين، حيث تقوم بتقليص ميزانيات الصحة والخدمات الصحية وسلة الخدمات الصحية بما في ذلك الأدوية لدرجة أن حالة الجهاز الصحي أصبحت في وضع متدهور وغير محتمل. وقال الوزير في جلسة لجنة المالية في الكنيست يوم 24/02/05 ما يلي : "الجهاز الصحي العام يتواجد في منزلق، انه يتدحرج خلال العقد الأخير. وهو يتقلص وبالمقابل فإن الجهاز الصحي الخاص يتوسع". ولم يتوقف الوزير عند هذا الحد بل هاجم السياسة الحكومية التي تقلص ميزانية الصحة من سنة لأخرى ومنذ تشريع قانون الصحة الحكومي. ووصف ما يجري في الجهاز الصحي وفي سلة الخدمات الصحية بأنه "جريمة". كما وصف ما يحدث في الحكومة بخصوص الميزانية بأنهم يقفون كالمتسولين أمام وزارة المالية.

وزيرة المعارف ليمور ليفنات وطاقمها حاولوا في البداية تهدئة الأوضاع من أجل الحصول على دعم لخطة "دوفرات" لكنهم سرعان ما كشفوا عن حقائق مذهلة بخصوص تقليص ميزانية التربية والتعليم بمبلغ 2,766 مليار شيكل خلال الفترة ما بين 2001-2004، أي فترة تولي الوزيرة نفسها هذا المنصب (بروتوكول لجنة المالية للكنيست يوم 28/02/05).

وزارة الرفاه أيضاً عارضت ممارسات وزير المالية نتنياهو بخصوص تقليص ميزانية خدمات الرفاه للشرائح الضعيفة وذلك يوم 27/02/05 . واستكملت اللجنة أبحاثها بهذا الخصوص يوم 7/03/05 حيث كشف يغآل بن شالوم، مدير عام مؤسسة التأمين الوطني، عن حقائق مذهلة جداً، بخصوص ما تقوم به الحكومة من تقديم " الهدايا" لأرباب العمل والرأسمالية، على حساب ابناء الطبقة العاملة وكافة الشرائح الضعيفة في المجتمع. وبلغت قيمة هذه " الهدايا" مبلغ 130 مليار شيكل وهي ناتجة عن التخفيضات التي أقرتها الحكومة على مدار العقدين الأخيرين، بتخفيض مدفوعات أرباب العمل للتأمين الوطني، تحت شعارات مختلفة مثل "التخفيض من أجل إيجاد فرص عمل جديدة" والتخفيض في حصة أصحاب العمل في التأمين الصحي وأخيراً وضمن الميزانية المقترحة تخفيض بنسبة 1,5% لفترة ثلاث سنوات "من اجل تشجيع النشاط الاقتصادي ورفع نسبة النمو ..". والسؤال: عن أي نمو يتحدثون وعن أي نشاط ؟!! أين هي أماكن العمل التي وفرها أرباب الرأسمالية من "الهدية" الثمينة التي حصلوا عليها من الحكومة بمبلغ 130 مليار شيكل، من أجل ايجاد أماكن عمل للعاطلين عن العمل؟؟.

ميزانية كارثية

لم نكن بحاجة لأقوال الوزراء هذه ولا لشهادة مدير عام مؤسسة التأمين الوطني كي نعرف مدى الكارثة التي تحملها هذه الميزانية القادمة علينا من حكومة الكوارث، هذه الميزانية التي تكرس الفوارق الاجتماعية وتعرض مشاريع القطاع العام للخصخصة، بل تقدم تلك المرافق "هدية" أخرى لأرباب الرأسمالية محلياً وعالمياً، ميزانية تسلب كافة شبكات الأمان الاجتماعية وتترك الشرائح الضعيفة بدون أي ضمان أو امن معيشي، حتى في الحد الأدنى.. ميزانية تعمق ضائقة العمال وسط مواصلة الهجوم الذي تقوم به الحكومة على اتفاقيات العمل ومحاولة سلب العمال كافة الحقوق والضمانات الاجتماعية لتتركهم بدون أية حماية أمام بطش أصحاب العمل واستغلالهم .

سبق أن اطلعنا على تقرير الفقر السنوي، ووجود حوالي مليون ونصف مليون إنسان يعيشون تحت خط الفقر وأن حوالي نصف العائلات العربية تعيش في فقر مدقع وكل ولد ثان من الأولاد العرب هو ضمن دائرة الفقر... بل نعرف جميعاً أن سياسة هذه الحكومة وغيرها من الحكومات هي سياسة مواصلة تكريس التمييز تجاه الأقلية العربية خاصة ومعها الشرائح الضعيفة في المجتمع اليهودي، وليس صدفة أن إسرائيل تحتل المكان الأعلى في بون الفوارق في المداخيل ما بين الأغنياء والفقراء، لأن ذلك هو نتاج طبيعي لتلك السياسة الرأسمالية التي تدور في فلك سياسة العولمة الاقتصادية لقوى الرأسمالية العالمية التي تستغل قوتها من أجل تعميق الاستغلال والعودة بنا الى مفاهيم العبودية بعينها . وصدق ما قاله الباحث الاجتماعي اليساري أوري رام في كتابه الذي صدر هذه الأيام تحت عنوان "عولمة إسرائيل": عدم المساواة ليس "ظاهرة" تبحث عن علاج بل هو نتاج سياسة اجتماعية مبادر لها، لذلك فإن تغيرها يلزم سياسة فعالة. والباحث رام يحلل ما تعرض له الاقتصاد والمجتمع الإسرائيلي خلال السنوات الأخيرة من تغييرات تتعلق بالقوى العولمية وارتباطه بها ما أدى إلى تعميق الفوارق الطبقية وتحول الطبقة الغنية إلى صاحبة رأس مال كبير يتلاءم مع الرأسمالية العولمية التي تتعامل معها . وتستغل خيرات الشعب والدولة والمجتمع من اجل مواصلة هذا الاستغلال الرأسمالي الفظيع .

لن نواصل مشوار البحث والتمحيص في بنود الميزانية لأنها بمجملها ميزانية كوارث لنا جميعاً. النمو الذي يتحدثون عنه هو نمو أرباح البورصة لكبرى الرأسماليين... البطالة التي يقولون لنا إنها انخفضت لم تنخفض بل إن قوانين القمع التي شرعتها الحكومة أدت إلى "اختفاء" عدد كبير من العاطلين عن العمل من الإحصاء الرسمي.. لكن المشكلة ما زالت قائمة.. خصخصة التعليم.. خصخصة الجهاز الصحي.. خصخصة المواصلات العامة.. خصخصة وسائل النقل والطاقة والمياه. كل هذه الأمور جميعاً ستؤدي إلى تحويلنا أسرى دائمين لقوى الرأسمال هذه التي تتلقى الدعم كما قال الباحث رام من قوى العولمة الدولية...

نضالنا ضد هذه الميزانية هو محطة واحدة من محطات النضال، ونجاح حكومة الليكود- العمل بالحصول على أكثرية في التصويت على الميزانية لا يعني أن نضالنا قد انتهى، على العكس علينا تكثيف النضال العنيد ضد هذه السياسة الخطيرة.

(*) عضو قيادة الهستدروت- النقابة العامة للعمال في إسرائيل

المصطلحات المستخدمة:

الكنيست, التأمين الوطني

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات