المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

لا تبدو في الأفق بعد طريقة يمكن بواسطتها قياس كميات دموع التماسيح في إسرائيل. والأكاذيب على الألسن الرسمية وشبه الرسمية تتوالى بسرعة لافتة للنظر. فلا يوجد أحد بين السياسيين أو مسؤولي الوزارات والمؤسسات الرسمية لم يقدّم وصلته الخاصة من البكاء الكاذب. سواء كانت دموعًا (متلفزة بالضرورة لضرورات التسويق) على ضحايا الفقر وانتهاك الحق في مكان عمل أو في تلقي العلاج باحترام أو العيش الكريم عامة.

لا تبدو في الأفق بعد طريقة يمكن بواسطتها قياس كميات دموع التماسيح في إسرائيل. والأكاذيب على الألسن الرسمية وشبه الرسمية تتوالى بسرعة لافتة للنظر. فلا يوجد أحد بين السياسيين أو مسؤولي الوزارات والمؤسسات الرسمية لم يقدّم وصلته الخاصة من البكاء الكاذب. سواء كانت دموعًا (متلفزة بالضرورة لضرورات التسويق) على ضحايا الفقر وانتهاك الحق في مكان عمل أو في تلقي العلاج باحترام أو العيش الكريم عامة.

مع ذلك فان المسافة ما بين ذلك الكلام الذي يُطلق مسلّعا معبئـًا بشتى أشكال الرزم فاقعة اللون وناعمة الملمس وبين ممارسة حضرات المتبجّحين، هي كالمسافة ما بين حديث أريئيل شارون مثلا عن "السلام" وبين ما ما تبقره بلدوزوراته في جبال الضفة الغربية لتعميق استعمارها.

مطلع الأسبوع حلّ عيد العمال العالمي، أو يوم التضامن العالمي للطبقة العاملة، أو مع الطبقة العاملة، أو باختصار أوّل أيّار. هذا اليوم جرى تغييبه تمامًا من المشهد الإسرائيلي العام، بالكاد يُذكر وبغير قليل من الاستهتار، وكأنك بالمذيع ينقل خبرًا طريفًا في باب التّسالي. ولا أسوق هذا من باب التعنّت على الطقوس والتقاليد الاحتفالية بل أؤكد أن تغييب هذا اليوم من وعي الإسرائيليين جاء ضمن حملة منظمة تزداد فيها النزعة الاجتماعية الاقتصادية تطرّفا باتجاه اليمين. في هذا الإطار يتم تصفية القطاع العام وخصخصة حتى العلاج الطبي مع الإبقاء على هامش محدود جدًا للتحرك أمام من لا يملك "ثمن العلاج". ولا يحتاج الواحد لكثير من العناء حتى يلاحظ أن هناك نوعين من الطب: طب خاص خصوصي ومخصخص للأغنياء، وطب لمن تبقوا، الغالبية. دور طويل حتى تلقي علاجات معقدة، ومصروف كبير من معاش قليل على أدوية تتجاوز فئة المسكنات والجرعات الرخيصة.

في الوقت نفسه يتواصل ضرب الطبقة العاملة (هذا ليس مصطلحًا من عُمق التاريخ بالمناسبة، ومع كل الاحترام لمن آمنوا بالعصر الأميركي هذا، لا تزال غالبية البشرية أجيرة ومعظمها يعمل لدى من يملك. ربما ليسوا جميعًا بنفس الظروف، لكن تعريفهم الطبقي الأساس لا يزال راهنًا). وهنا، من المهم إيراد ما سجله من معطيات مؤخرًا النقابي الشيوعي الإسرائيلي بنيامين غونين:

هناك 1,4 مليون من المواطنين يعيشون تحت خط الفقر. و 1,2 مليون شخص توجهوا إلى وزارة العمل والرفاه طالبين المساعدة. وفي العام الماضي كان كل مسن ثالث يعيش تحت خط الفقر. وكل مسن خامس عانى من الجوع. وتوجه أكثر من مليون إنسان إلى منظمة "لتيت"، وطلبوا مساعدات غذائية لهم ومنهم من أبناء الطبقة الوسطى. وهناك 25% من 116 ألف عائلة أحادية الوالدين تحت خط الفقر. ووزير المالية ينقل الوقوف بالدور من مكاتب التشغيل إلى بيوت توزيع المواد الغذائية على المحتاجين، ويحول العاطلين عن العمل إلى عبيد، وحسب معطيات دائرة الإحصاء المركزية، فإن أكثر من ثلث العمال يتلقون رواتب أقل من ألفي شاقل في الشهر، وان 24% من العاطلين عن العمل، فتشوا في العام الماضي، لأكثر من سنة عن أماكن عمل، وفي تقرير الفقر، جرى إبراز أن عدد الحاصلين على مخصصات البطالة انخفض في العام الماضي، بنسبة 25% في أعقاب التشدد في المعايير للحصول على المخصصات. ودعاهم بنيامين نتنياهو ساخرا: اذهبوا للعمل ولا تتكاسلوا! وحاليا لا تزال اليد الظالمة مرفوعة، وعلى جدول الأعمال، برنامج فيسكونسين، الهادف إلى تقليص حق الحصول على مخصصات ضمان الدخل بنسبة 35%. وتبين من تقرير بنك إسرائيل، عن السياسة الاجتماعية أن تقليص المخصصات كأنما قلص البطالة من خلال نقل عاطلين عن العمل إلى أعمال جزئية، لكنه زاد عدد الفقراء. وقد ارتفع عدد الفقراء خلال السنوات الخمس الماضية بنسبة كبيرة من 18,8% إلى 22,4%، وارتفع عدد الأطفال الفقراء من 24,9% إلى 30,8% وان التغييرات أي التقليصات التي نفذت خلال العامين الماضيين، لم تؤدّ إلى الخروج من دائرة الفقر، خاصة طالما أن الانتعاش في النشاطات لا يضمن أن يجد العمال من ذوي الأجر القليل، أعمالا برواتب تنقذهم من الفقر. ويقترح التقرير سبسدة العاملين برواتب قليلة ويقر انه بالفعل ازداد العمل في عام 2004، ولكن في الأساس في حجم وعدد الوظائف الجزئية وبرواتب قليلة. ولقد كان 84% من الزيادة في الملاكات في العام الماضي، وظائف جزئية، وهي 77% للرجال و 94% للنساء. وتبين من التقرير أن الأزمة في الجهاز الصحي جاءت في أعقاب التقليصات في المصروفات الرسمية على الصحة وفي مجالات أخرى من التي تنعكس مباشرة على ذوي الدخل المحدود وكذلك الأزمة في السلطات المحلية، جاءت في أعقاب التقليصات في الميزانيات.

وكيف يدعو وزير المالية الناس للخروج إلى العمل، في الوقت الذي فيه يتقلص دائما عدد أماكن العمل؟!
"عدد أماكن العمل والورش التي يتهددها خطر الإغلاق، هو 47250، و15,7% من الشركات في البلاد، في أوضاع خطيرة"، وهذا ما تبين من معطيات نشرتها شركة "بزنس داتا يسرائيل" في 13/4/2005 في صحيفة "هآرتس"، وهكذا فإن دعوة وزير المالية: اذهبوا إلى العمل، لا يوجد لها أي أساس في الواقع وعلى العكس من ذلك، فالوضع قاسٍ جدًا.

في ظل هذه المأساة الاقتصادية الاجتماعية ينزع غالبية أصحاب الشأن والقوّة إلى تمييع أي تحرّك قد يعرقل مسيرة الإفقار المنظمة هذه، التي تشبه جريمة منظّمة. فمثلا، المظاهرة الكبيرة التي نظمها الحزب الشيوعي والجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة يوم السبت الماضي بمناسبة يوم العمّال لم تحظَ إلا بسطور قليلة مقزّمة وهامشية في أحسن الأحوال، وتجاهلها معظم وسائل الإعلام المركزية. وانعكس الأمر بفظاظة في صحيفة "يديعوت أحرونوت" التي انتقد أحد كتّابها تغييب يوم العمال من الذهن الإسرائيلي وتطرّق إلى تلك المظاهرة معتبرًا أنها تنقذ كرامة هذه المناسبة بما تعنيه، لكن الصحيفة لم تبلغ قراءها عنها لا من خلال عنوان ولا صورة بهذه المظاهرة. وبدا أن النقد الذي اسمعه ذلك الكاتب يجد دليلا عليه في نفس عدد الصحيفة التي نشرت ما كتب.

لكن المسألة تتجاوز التغطية الإعلامية. فاتحاد النقابات الكبير "الهستدروت" محا منذ سنوات هذا اليوم من تقويمه. وبعد أن كان يتم إحياؤه بشكل تظاهري في السابق غاب اليوم تمامًا عن برنامج الهستدروت. والسؤال: أي اتحاد نقابات هذا الذي يتنازل عن مناسبة بهذا الحجم؟ وماذا ننتظر من الحكومات إذا كانت الأعلام الحمراء تُداس من النقابات؟

إن هذه الدولة تغوص في مراحل خطيرة من القمع الاجتماعي والفاشية الاقتصادية. لقد قامت في السابق على شعارات وأساطير "وحدة شعب إسرائيل"، وكان فيها حدّ معقول من الضمان الاجتماعي. ولكن حين تقوم حكوماتها (سواء تزعّمها "الليكود" أو "العمل"، فهما في هويتهما الاقتصادية توأمان، واليوم سياميان!) بتمزيق هذا الضمان وتلك المضامين فإن الخطر يصبح كبيرًا. فساستها لن يتنازلوا عن شعار "وحدة شعب إسرائيل" من جهة، ومن جهة أخرى يواصلون إنتاج إسرائيل الغنية وإسرائيل الفقيرة، فوق وتحت. فأيّ صمغ سيتبقى للحفاظ على "الوحدة" سوى الصمغ القومجي والعداء للمحيط العربي لتكرار إنتاج "عدو خارجي" يرصّ الصفوف الداخلية. وهنا نجد أنفسنا أمام حالة نموذجية لعواقب اليمين الاقتصادي على التطرف السياسي والقومي والعسكري. هذه هي إسرائيل 2005.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات