المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

كتب برهوم جرايسي:

انشغلت اسرائيل في الأيام الأخيرة في واحدة من أكثر القضايا حساسية في ما يتعلق بنزاهة السلطة ومحاربة الفساد، حين قرر وزير الأمن الداخلي (الشرطة)، جدعون عزرا، اقالة رئيس قسم التحقيقات في الشرطة، موشيه مزراحي، وهو الضابط الذي ينشغل منذ سنوات طوال، منذ ان كان مسؤولا عن وحدة التحقيق في قضايا الغش والفساد، في ملفات تحقيق ضد كبار الساسة في اسرائيل وعلى رأسهم بنيامين نتنياهو واريئيل شارون وافيغدور ليبرمان، وضد كبار اصحاب رؤوس الأموال الذين لهم باع كبير في أجهزة الحكم، من أمثال دافيد آبيل وعوفر نمرودي وغيرهما.

وجاءت اقالة الضابط مزراحي بشكل مفاجئ وفي خضم سلسلة من التحقيقات حول قضايا فساد يشتبه بتورط رئيس الحكومة اريئيل شارون ونجليه عومري وغلعاد فيها، ومن أبرزها تلقي اموال طائلة من رجل الاعمال اليهودي الاسترالي سيريل كيرن، والعلاقة المشبوهة بين دافيد آبيل ونجل شارون جلعاد.

ولكن الى جانب كل هذا، فقد كشف توقيت الاقالة، حتى من ناحية اليوم المحدّد، عن ان الوزير عزرا في عجلة من امره. فقد كان يوم الأحد قبل الماضي، يوم انتخابات داخلية في حزب الليكود (اقرأ مقالا منفردا في هذا العدد حول الانتخابات). والضابط مزراحي هو "أكبر رأس مطلوب" في الليكود. وقد ركزت الغالبية الساحقة من المحللين والمراقبين على ان هذه الخطوة جاءت لارضاء معسكر أو آخر في الليكود. فالوزير عزرا، وحين علم ان الضابط مزراحي لا يستطيع التجاوب مع دعوته للقاء في نفس اليوم وخلال بضع ساعات نظرا لانشغالات هامة، اتفق معه على الالتقاء في محطة شرطة صغيرة في منطقة تل ابيب، وهناك دخلا الى غرفة جانبية وسلمه رسالة الاقالة، وكان بالامكان تعيين موعد آخر وان يتم هذا بانتظام، إلا ان الوزير عزرا قرر "انهاء المهمة" فورا، لتحقيق الاهداف المرجوة منها على الصعيد الحزبي.

واستند عزرا في قراره السريع إلى ملاحظة قديمة سجلت في ملف مزراحي تتعلق بعملية تنصت ضد الوزير السابق افيغدور ليبرمان الغارق في فساد السلطة، وهذا دون ان يحصل على إذن من المحكمة، وعلى الرغم من أن أيًا من المستويات القضائية في اسرائيل لم تطلب اقالة مزراحي، وانما نثروا ملاحظات لا تأمر بشكل واضح بنقل مزراحي من منصبه، كقرار الوزير عزرا.

وبعد ايام قليلة من قرار الوزير المذكور، اتضح ان النيابة العامة والشرطة قررتا تقديم لائحة اتهام ضد نجل شارون، عومري، لدوره في اقامة جمعيات وشركات وهمية لدعم والده في معركة الانتخابات الداخلية في الليكود، في العام 2002، وايضا أذيع قرار الشرطة والنيابة اعادة فتح ملف التحقيق في قضية الاموال التي حصل عليها شارون بشكل غير قانوني من رجل الاعمال سيرل كيرن. ولكن ما هو مهم جدا، وبالدرجة الأولى، هو تحقيق الشرطة مع وزير الشرطة السابق، حتى قبل ثلاثة اشهر، تساحي هنغبي، في مسألة التعيينات في سلك خدمات الدولة على أساس حزبي، ومن بين مقربيه في حزب الليكود، وتحقيقات كهذه بوجود مزراحي المتشدد في عمله ومهنته لن تكون سهلة، ولهذا تقرر لدى البعض في الحكم "إزالة حجر العثرة امام أية تسويات"، كما ألمح لذلك الكثير من المحللين والسياسيين.

لقد عصفت هذه القضية بالحلبة السياسية في اسرائيل ووصلت الى البرلمان (الكنيست) الذي شهد نقاشا عاصفا لم يغير أي شيء بالقرار. ولكن المعركة الاساسية جرت في وسائل الاعلام وكان الانقسام واضحا في الموقف من خطوة الاقالة. فقد وقفت كبرى وسائل الاعلام، باستثناء صحيفة "معاريف"، ضد الخطوة بتحفظ معتبرة ان الخطوة وإن كانت صحيحة إلا ان توقيتها كان سيئا، ويطرح العديد من علامات الاستفهام. أما "معاريف" وحدها كصحيفة كبرى فقد أيدت الخطوة دون اي تحفظ، وهذا إذا اخذنا بعين الاعتبار ان عوفر نمرودي المذكور سابقا هو صاحب "معاريف".

وقد نشر عضو الكنيست البارز يوسي سريد من حزب "ياحد" (ميرتس سابقا) مقالا في اليوم التالي للاقالة في صحيفة "يديعوت احرونوت"، تحت عنوان "انتصار الفاسدين"، قال فيه: "ما كنت اعتقد ان قرارا كهذا كان بالامكان اتخاذه دون موافقة رئيس الحكومة بذاته، فكما هو معروف فإن رئيس الحكومة لم يخطئ في حياته ولم يقف امام محققي الشرطة لا هو ولا نجلاه" (من باب السخرية).

ويقول سريد: "إن أخطأ مزراحي أو لم يخطئ، فما هو معروف عن مزراحي انه شخص مستقيم وشجاع، ونواياه طيبة وهي القضاء على السوء، ولكن في ايامنا فإن السيء هو الأقوى... ومنذ الآن بامكان كل فاسدي البلاد ان يفسدوا كل شيء جيد دون أية اعاقة..".

أما صحيفة "هآرتس" فقد ألمحت في كلمة العدد الى أن خطوة اقالة مزراحي لربما كانت صحيحة على ضوء انه يتولى مهامه منذ اربع سنوات، وان المحكمة العليا قد أفسحت المجال امام خطوة كهذه، ولكن الصحيفة تحفظت من توقيت الاقالة وهذه السرعة التي تمت فيها، فإلى جانب كل ملفات التحقيقات الجارية والمقبلة فقد تم هذا في يوم الانتخابات الداخلية في الليكود.

ويقول المحلل أمير اورن في صحيفة "هآرتس": "أمام هتافات اعضاء حزب الليكود، قطع الوزير عزرا رأس رئيس قسم التحقيقات في الشرطة..".

ولكن هذه الخطوة لا تنته عند اقالة الضابط مزراحي، بل بمن سيخلفه. ولقد كثرت التوقعات بأن عزرا قد يعين المقرب منه، الضابط يوحنان دنينو، في هذا المنصب. ودنينو هذا، وحسب ما ينشر، هو من أكثر الذين طالبوا باقالة مزراحي، وهو ايضا من بين المعارضين لتقديم لوائح اتهام ضد رئيس الحكومة اريئيل شارون، في ملف الرشوى من دافيد آبيل، وهذا ما تم. وإذا ما صدقت هذه التوقعات فإن محاربة الفساد السلطوي المستشري في المؤسسة الاسرائيلية الرسمية ستحسم لصالح الفساد، كما يقول النائب سريد.

قد تكون هذه المسألة مسألة عادية تحدث في أية دولة، ولكن حين نأخذ هذه القضية ضمن ظاهرة استفحال الفساد في السلطة الاسرائيلية فإن مدلولها يكون أكبر. فمنذ النصف الثاني من سنوات التسعين، وبشكل خاص بعيد وصول بنيامين نتنياهو الى رئاسة الحكومة في العام 1996 ، بدأت تصدر في اسرائيل أصوات رسمية وأمنية تحذر من تغلغل العالم السفلي والمافيا ومن ضمنها المافيا الروسية في سدة الحكم الاسرائيلي.

وقد تفوه بهذا الأمر كبار ضباط الشرطة في حينه، ولكن هذه الاصوات خفتت في الآونة الأخيرة، وفي المقابل فإن نشاط هذه العصابات بارز في سدة الحكم، خاصة بعد انتخابات العام 2003 البرلمانية، حيث تبين ان هذه العصابات نشطت بشكل مكثف في مركز حزب الليكود، ونجحت في إيصال مندوبين عنها الى الكنيست.

ومن أكثر الاسماء التي ارتبطت بالمافيا الروسية كان الوزير السابق أفيغدور ليبرمان، وذلك منذ ان كان مديرا عاما لرئاسة الحكومة، في فترة حكومة نتنياهو، وقبلها مديرا عاما لحزب الليكود.

ولم تمر بضعة أشهر في اسرائيل إلا وظهرت واحدة من قضايا الفساد التي استلزمت التحقيقات، وقد ذكرنا بعضها في سياق ما سبق. ولكن نذكر ايضا ان قضية الوزير الاسبق آرييه درعي، وفساده الذي عوقب عليه بالسجن، تشعبت كثيرا وتبين أن لها اذرع كثيرة في السلطة ورجال الاعمال المرتبطين بالعالم السفلي.

وكان مركز "مدار" قد تناول موضوع تغلغل الجريمة المنظمة في الكنيست الحالي ضمن الورقة رقم 20 من سلسلة "أوراق إسرائيلية"، التي اشتملت على ترجمة لمواد ملحق خاص أصدرته صحيفة "هآرتس" حول الكنيست الـ 16. وضمن أشياء أخرى ضم الملحق المذكور نتائج إستطلاع للرأي أجرته الصحيفة (نفذه معهد "ديالوغ") في أواخر نيسان 2004 عشية يوم الاستقلال الأخير، ال 56، لدولة اسرائيل. ودلّ الاستطلاع على كون أكثر من ثلثي الاسرائيليين يعتقدون بأن الإجرام المنظّم تغلغل إلى الكنيست بهذا القدر أو ذاك (43 بالمئة يعتقدون بأن هذه الظاهرة لا تزال في نطاق ضيّق و24 بالمئة يعتقدون بأن نطاقها واسع).

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات