من هي النخب المهيمنة على المجتمع الاسرائيلي؟ ما هي تقسيمة القوّة فيه؟ وهل ينقسم المجتمع بين "يسار" و"يمين"، أم أنّ هناك تقسيمة أفضل توصيفاً له؟ تُطرح هذه الأسئلة بين وفي سطور كتاب "النخب الاستراتيجية في إسرائيل – تقسيم القوة في المجتمع الإسرائيلي"، الصادر مؤخراً في إسرائيل للكاتبين ساغي إلباز، الباحث في مجال الاعلام السياسي، ونيفا جولان- ندير، المحاضرة في جامعة حيفا والتي عملت سابقاً في ديوان رئاسة الحكومة الإسرائيلية.
إعادة إنتاج الثقافة السياسية الإسرائيلية
يتناول الكتاب المجتمع الإسرائيلي من خلال نظرية النخبة (Elite theory)، ويشير إلى وجود ثلاث نخب هي الأكثر قوة في المجتمع الاسرائيلي: السياسية والعسكرية والاقتصادية، ويقوم بتقصّي العلاقات بينها وطريقة هيمنتها على المجتمع، موضحاً أن مجموعات النخب الثلاث تستخدم الإعلام وجهاز التعليم والثقافة من أجل إعادة إنتاج الثقافة السياسية الاسرائيلية وتوفير الشرعية لها ولتبرير استمرار سيطرتها.
يبني الكتاب فرضيته على أنّ حُكم النخب قائم على إعادة إنتاج الثقافة السياسية الإسرائيلية، المبنية على ثلاثة مبادئ أساسية: أولاً، القومية اليهودية، وتجلّيها المؤسساتي في "وثيقة الاستقلال" وإقامة الدولة اليهودية، ودمجها الدين والقومية، بالإضافة إلى اعتبار إسرائيل لنفسها المركز السيادي لليهود في كل العالم. ثانياً، ثقافة الأمن، وهي، من ناحية، متشربة بالثقافة الإسرائيلية منذ ما قبل النكبة أو "فترة الييشوف"، وقام بمأسستها رئيس الحكومة الإسرائيلية الأول دافيد بن غوريون من خلال تثبيت فكرة "حالة الطوارئ" لإسرائيل التي "سوف تعيش تهديداً مستمراً"، ومن ناحية أخرى تهيمن ثقافة الأمن على المجتمع الصهيوني على ضوء فشله في حسم الصراع مع الفلسطينيين. ويشير المؤلفان إلى أن ثقافة الأمن تأسست في الوعي الإسرائيلي، ومع السنوات لم تعد مرتبطة بالضرورة بتهديد مادّي حقيقي. ثالثاً، الليبرالية الاقتصادية، التي أصبحت الفكر الاقتصادي المهيمن منذ الثمانينيات في المجتمع الإسرائيلي.
النُخب الثلاث والعلاقة بينها
تتشكل النخبة السياسية في إسرائيل، بحسب الكتاب، من أعضاء الحكومة والكنيست من الائتلاف والمعارضة. ولرئيس الحكومة القوة الأكبر مقارنة بباقي أعضاء النخبة السياسية، ولرأيه قيمة هامة في أروقة الحُكم في إسرائيل، وتنبع قوّة هذه النخبة من قدرتها على اتخاذ القرارات وبناء السياسات.
اما بخصوص النخبة العسكرية، فيشير المؤلفان إلى أن جميع الأبحاث لا تشكك بوجود دور لجيش الاحتلال في السياسة بل تختلف في حجم هذا الدور فقط. ويقيس الكتاب قوة النخبة العسكرية من خلال أربعة عوامل: أولاً، أن جنرالات الجيش (وبشكل بارز شعبة الاستخبارات العسكرية) هم رأس الحربة في بناء الاستراتيجية الأمنية، وأحياناً السياسات الحكومية. ثانياً، التأثير الكبير لقيادات الجيش على تحديد ميزانية الأمن. ثالثاً، يعمل في كل من ديواني رئيس الحكومة ووزير الدفاع سكرتير عسكري بدرجة جنرال، يُعيّنه رئيس هيئة الأركان بشكل مباشر. رابعاً، تبدأ الأحزاب الإسرائيلية المختلفة بالتنافس على تجنيد العسكريين لصفوفها فور اعتزالهم العمل العسكري مما يظهر الشعبية التي يحظون بها، قبل أن ينطقوا بحرفِ عن آرائهم السياسية. ويشير الكتاب إلى مجموعة وقائع لعلاقة الجنرالات في السياسة منها دورهم في العلاقات مع الدول العربية والسلطة الفلسطينية.
ومن الشهادات التي جمعها الباحثان شهادة للصحافي والمحلل العسكري ألون بن دافيد، الذي قال إنه تلقى اتصالاً من الناطقة بلسان الجيش في 12 تموز 2006 الساعة الثانية عشرة ظهراً تقول فيه إن رئيس هيئة الأركان "سيعيد لبنان 20 سنة للوراء". وعندما تساءل بن دافيد "ألا يريد أن ينتظر حتى جلسة الحكومة في الساعة السابعة مساء؟"، أجابت الناطقة "لا"، وعَرِف بن دافيد لاحقاً أن جلسة المساء كانت بروتوكوليّة فقط، وأن شمعون بيريس كان الوحيد الذي وجّه أسئلة حول الحرب التي على الأبواب (حرب لبنان الثانية)، متلقياً أجوبة مستهترة من رئيس هيئة الأركان.
أما بخصوص النخبة الاقتصادية، التي نشأت على أثر لبرلة الاقتصاد في الثمانينيات، وهو المسار الذي أسسته حكومة مشتركة لحزبي العمل والليكود وبقي المسار العام للأحزاب الإسرائيلية من ذلك الحين، مع اختلافات طفيفة لكن مع تشبّث عام بمبدأ اللبرلة الاقتصادية، فإن الكتاب يشير إلى المصالح المشتركة بين النخبتين الاقتصادية والسياسية، حيث تجد الأولى الطرق للتأثير على الثانية لحماية مصالحها، وتحاول الثانية إرضاء الأولى من أجل الحصول على تبرعات، أو من أجل الحصول على تغطية إعلامية "إيجابية" في وسائل الإعلام التي تمتلكها النخبة الاقتصادية (تجدر الإشارة إلى أن اثنين من ملفات الفساد المشتبه بها نتنياهو تتعلق بمحاولاته الحصول على تغطية جيّدة من قبل صحف اسرائيلية). ويلمّح الكتاب إلى وجود جانب وظيفي للفساد، حيث أن النخبة السياسية تحذر من المس بالمصالح الاقتصادية لرجال ونساء الأعمال حتى لا يقوم هؤلاء بنقل مصالحهم إلى خارج البلاد.
يشير الكتاب إلى القضية الفلسطينية كأحد نقاط الاختلاف بين النخبتين السياسية والاقتصادية، ويحيل ذلك إلى مصلحة النخبة الاقتصادية في وجود عملية سلام لما يشكله ذلك من رافعة لمصالحها، مؤكداً، بشكل مختصر، أن نقطة الاختلاف هذه لا تدق إسفيناً بين النخبتين، وقد يعود ذلك إلى تحوّل الاقتصاد الإسرائيلي إلى الصناعات الذكية حيث لا تشكل حدود الدول عائقاً جدياً أمامها.
*****
لا يكشف هذا الكتاب للقارئ عن معلومات كبيرة وجديدة، لكنه يقوم بربط مجموعة من الخيوط بالتلازم مع مجموعة من الخيارات المعرفية. مثلاً، يقوم الكتاب بموضعة النخب الثلاث على أنها النخب الأساسية والمؤثرة في الحكم، وبلغة الكتاب "النخب الاستراتيجية"، مستثنياً نخباً "عادية" أخرى، كجهاز القضاء ورجال الدين والإعلام، الأقل تأثيراً، وذلك مثلاً بعكس كتاب بن رفائيل شطرنبرج "النخب الجديدة في اسرائيل" (2007) الذي يركّز على 14 نخبة في إسرائيل.
ويؤكد الكتاب أنه بالرغم من التغييرات داخل النخبة السياسية في إسرائيل فإنّ التغييرات في المفاهيم والإيديولوجية السائدة ليست كبيرة ولا تخرج عن الخطوط العريضة للثقافة السياسية المتفق عليها إسرائيلياً، وهي القومية اليهودية والثقافة الأمنية والليبرالية الاقتصادية. ولا يعير الكتاب أي أهمية للمواقف السياسية للنخبة السياسية ولا لهويتها ("يسارية" كانت أم "يمينية") عند الحديث عن علاقتها بالنخبتين الاقتصادية والعسكرية، وذلك لأن بنية النظام هي التي تحدد العلاقة المتينة بين النخب الثلاث، وليس مواقف النخبة السياسية.
لن يطرأ على الحالة الموصوفة في الكتاب أي تغيير من الأسفل، كما يشير المؤلّفان، ولا يوجد في الأفق أي تغيير ستقوده الجماهير في مبنى النخب وفي قيم الثقافة الإسرائيلية الثلاث المؤسِسة، وإن احتمال أي تغيير سيكون من خلال "مفترق طرق كبير" أمام المجتمع الإسرائيلي، من نوعية التغييرات التي تقود إلى تغيير طبيعة النظام نفسها، كالحرب، كما أشارت المؤلفة المشاركة للكتاب جولان- ندير، في مقابلتها مع صحيفة "دي ماركر"، قائلة: "خلال السنوات تتم إعادة إنتاج العمليات، والقيم، والمؤسسات، ومن الصعب زعزعتها من دون صدمة كبيرة، مثل حرب الغفران التي أدّت إلى أزمة أسفرت عن انقلاب سياسي".