تسنى لي مؤخرا مشاهدة فيلم "صالح هنا أرض إسرائيل" والالتقاء والتحاور عن قرب مع مخرج الفيلم الصحافي دافيد درعي. ومن الجدير بالذكر أن الفيلم عرض مؤخرا مع تعديلات واضافات في إطار سلسلة تلفزيونية من أربع حلقات في قناة ريشت (قناة 13). وقد شارك بإنتاج العمل كل من روت يوفيل ودورون جليزر وقرأ بعض النصوص الصحافي يارون لندن.
واستغرق العمل على الفيلم ست سنوات متواصلة. إضافة إلى ذلك لا يمر يوم منذ عرض الفيلم وبثت السلسلة إلا ويكتب مقال مؤيد أو معارض أو مبرر أو عارض لصورة مركبة، أو يسمع تصريح أو يتخذ قرار من قبل شخصية سياسية (على سبيل المثال قرار وزيرة العدل أييلت شاكيد بفتح الأرشيفات السرية) أو تعقد ندوة أو لقاء في وسائل الإعلام المتعددة، وذلك نتيجة للحضور والصدى الكبيرين اللذين أحدثهما وحققهما الفيلم كمنتج ثقافي.
الفيلم وثائقي يتناول موضوع هجرة اليهود الشرقيين الذين هاجروا في الخمسينيات والستينيات (أو أجبروا على الهجرة من قبل الحركة الصهيونية) إلى البلاد وتوزيعهم السكاني وتوطينهم من أجل منع عودة اللاجئين الفلسطينيين. وقد وُطن المهاجرون الشرقيون، من قبل الحركة الصهيونية والدولة واليهود الأوروبيون (الأشكناز)، فيما يسمى "مدن التطوير" والتي وصل عددها إلى 26 بلدة باختيار من الجيش ليشكلوا "خط دفاع بشري" أولا.
يركز المخرج في الفيلم على بلدة "يروحام" قرب بلدة رحمة البدوية في النقب، ويروي سيرة الأشخاص الذين أجبروا على السكن هناك، واصفا التنكيل والعنصرية والعنف واستخدام الشرطة والقوائم السوداء والابتزاز والاستعلاء والخداع والفوقية التي مارسها اليهود الأشكناز على اليهود الشرقيين المهاجرين من دول شمال أفريقيا المسلمة، الذين كانوا يعيشون بكرامة وأمان في أوطانهم.
وأبرز المخرج قصة والديه وقصص أشخاص يعرفهم (وهم ناس عاديون وشعبيون) مقابل شهادات مختلفة من شخصيات أكاديمية مهمة مثل البروفسور إيرز تسفاديا والدكتور آفي بيكار والبروفسور سامي شالوم شطريت الذين دعموا وأكدوا ادعاءاته، وشهادة مهندس ومخطط ومنفذ مشروع "التوزيع السكاني" البروفسور الأشكنازي إليشع إفرات.
في الحقيقة فإن الفيلم لم يفاجئني رغم قوته ولم يجدد لي فقد قرأت والتقيت العديد من الشخصيات الشرقية في حياتي والتي تحدت الرواية الإسرائيلية المهيمنة أمثال مؤسسي وناشطي القوس الشرقي الديمقراطي وجيل من الشباب الشرقيين من الجبهة الشرقية وآخرين. لكن الجديد في الفيلم هو الاستناد إلى وثائق ومستندات للوكالة اليهودية ووزارة الاستيعاب تُكشف لأول مرة بعد منع كشفها لكونها "سرية" تثبت بشكل واضح العنصرية والتمييز والاستعلاء والاستخفاف واحتقار اليهود الشرقيين من خلال فضح وكشف محاضر الجلسات التي وصفتهم بالبدائيين والحمقى والاغبياء بل أرادوا (بدءًا من بن غوريون وحتى الموظفين في الحقل) تنشئتهم ليكونوا خدامين وعمالا وأسكنتهم في براكيات ومن ثم في إسكان عام ليس بملكيتهم لتحد من حرية تحركهم وانتقالهم بينما عاملت المهاجرين من شرق أوروبا في ذات الوقت بأسلوب حضاري وأسكنتهم في مواقع مركزية وفي مساكن بملكيتهم يحق لهم بيعها.
من الجدير بالذكر أيضاً أن من قام بهذه الأفعال ضد الشرقيين هم أشخاص كانوا واعين ومدركين لما يقومون به لا بل أصبحوا فيما بعد رموزًا في الدولة وسميت مستشفيات وشوارع ومرافق عامة على أسمائهم ونالوا جوائز كالبروفسور إفرات الذي حصل على جائزة إسرائيل.
بلا شك الفيلم مؤثر وصادم ومحزن. ويكشف جهازا منظما ومنهجيا لتضليل وخداع المهاجرين منذ خروجهم من قراهم في المغرب وحتى وصولهم وتوطينهم. وكلما مر الوقت وكانت هناك منالية للأرشيفات فسوف تتضح حقائق مدهشة جديدة حول ما نُفذ ضد الفلسطينيين وضد آخرين ومنهم الشرقيون.
طوال الفيلم كنت مشغولا بمجموعتين: الأولى، الفلسطينيون الذين بقوا في الوطن وكانوا يعيشون تحت حكم عسكري جائر حتى عام 1966. والمجموعة الثانية اللاجئون الفلسطينيون الذين في الوقت الذي كانت تهندس الحركة الصهيونية الأرض وتوزع السكان وتستقبل المهاجرين كانوا يذوقون مرارة التهجير والطرد والتنكيل. والآن بعد سبعين عاما وإن كان التمييز ما زال قائما إلى حد معين ضد الشرقيين إلا إنهم استطاعوا أن يستقروا ويندمجوا بينما بقي اللاجئون يعيشون الشتات والمنفى في مخيمات وفي ظروف قاسية جدا ويعانون أشد أنواع المعاناة.
لا أقلل من أهمية إسماع صوت الشرقيين ومعاناتهم وتحديهم للهيمنة الأشكنازية لكن الحقيقة والرواية الأهم التي ينبغي على المجتمع الإسرائيلي كله معرفتها هي الرواية الفلسطينية.
أضف إلى ذلك أنني أفهم طبعا حنق الشرقيين على حزب مباي التاريخي وقادته الذين اضطهدوهم وأفهم دعمهم وتأييدهم فيما بعد لمناحيم بيغن (الذي أقيمت إبان حكمه هو أيضا مدن لتهويد الجليل وجرت عملية توزيع سكاني)، لكن في الوقت ذاته لا أفهم رضاهم وخضوعهم ودعمهم حتى الآن لقيادات أشكنازية مثل نتنياهو، وتدافع وتنافس سياسيين مثل الوزيرة ميري ريغف وأعضاء الكنيست أورن حزان ودافيد بيطان ودافيد أمسالم وآخرين لتقديم مشاريع قوانين عنصرية وتصريحات بغيضة مدفوعة بكراهية عميقة ضد العرب، إلا لكون الضحية ترغب في تقليد جلادها.
والأنكى من ذلك أن الشرقيين الذين اضطهدوا من قبل الحركة الصهيونية والدولة مارسوا نفس الأساليب لا بل الأصعب منها وكانوا في مقدمة من اضطهد الفلسطينيين في جميع المواقع وخصوصا أثناء فترة الحكم العسكري وبعد الاحتلال في عام 1967 الذي ما يزال مستمرا.
يتعين على اليهود الشرقيين إدراك أنه قد تم محو لغتهم وثقافتهم العربية وتمت عملية بترهم ونزعهم عن محيطهم العربي الطبيعي وجرت عمليات لتهجينهم وتغيير وكي وعيهم، وهو الشيء الذي نجح لدى الأغلبية الساحقة، وعلى سبيل المثال تذويت الدونية لدى رئيس بلدية سديروت السابق إيلي مويال وآخرين من الذين يتنكرون للواقع (ادعى مويال في إثر عرض الفيلم أنه لو هاجر الشرقيون أولا إلى فلسطين لكانت أقيمت مملكة عبرية على غرار البلدان العربية!! منكرا حقيقة أنه لم تكن حاجة أصلا في ذلك الوقت لهجرة الشرقيين!!).
أعتقد أن فيلم دافيد درعي مهم جدا لا يدع المشاهد غير مبال بل يحفزه على التفكير والمقارنة واستنباط التبصرات والتأمل في الماضي والحاضر، ويستشرف المستقبل ويفتح نوافذ لبحث السياسات العامة والهويات والظلم والقهر والكبت والقمع وهندسة البشر وتزوير التاريخ وافتعال الأحداث وإخفاء الحقائق وتبدل الأجيال والحروب والصراعات وما يقال وما لا يقال في الأفلام ووجهات النظر المتعددة والغضب والاستسلام والكذب والخداع والصورة المجزوءة والاستيطان الكولونيالي و"الرجل الأبيض".