يتواصل الجدل في الأوساط الإسرائيلية حول استمرار ارتفاع كلفة المعيشة، خاصة بعد 7 سنوات على اندلاع حملة الاحتجاجات الشعبية، التي شهدتها المدن الكبرى، وخاصة تل أبيب، في صيف العام 2011، واستمرت لبضعة أسابيع. وكانت الأسعار في تلك المرحلة تراجعت بهدف امتصاص الغضب الجماهيري، لكن التراجع كان من خلال حملات بادرت لها الشركات،
وليس بسبب تخفيض أساسي في كلفة الإنتاج وربحيته. وقد وصل الأمر إلى حد أن الموضوع ظهر في تقرير مراقب الدولة السنوي الأخير، الذي أشار إلى أن أسعار منتوجات الحليب في العام 2015، كانت أعلى بما بين 63% إلى 234%، من معدلات الأسعار لذات المنتوجات في العالم.
وقضية أسعار المواد الغذائية هي من أكثر القضايا الحارقة في القضية الأوسع: كلفة المعيشة. وحسب سلسلة من التقارير والأبحاث التي تصدر على مر السنين، فإن أسعار المواد الغذائية في السوق الإسرائيلية، أعلى بنسبة تتراوح ما بين 20% وحتى 30%، من المعدل القائم في الدول المتطورة، قياسا أيضا بمعدلات المداخيل ومستوى المعيشة، وفي بعض الأصناف الغذائية ترتفع النسبة إلى أعلى من 30%.
وتساهم سلسلة من العوامل في ارتفاع الكلفة، وقد يجد كل واحد من هذه العوامل شبيها له في مكان كهذا أو آخر في العالم، إلا جانب الصرف على الطعام الحلال اليهودي، بمعنى الكلفة العامة التي يتكبّدها المنتجون، وتتدحرج كلها على عاتق المستهلك، كي يحصلوا على شهادة "الحلال".
خلفية حملة الاحتجاجات
وكانت إسرائيل قد شهدت، في أوائل صيف العام 2011، حملة احتجاجات، بدأت باحتجاج شابة، ومن ثم مجموعة شبان وشابات في مدينة تل أبيب على غلاء البيوت وإيجاراتها، فحملت الأولى امتعتها وانتقلت إلى خيمة نصبتها في أحد ميادين المدينة، ليلحق بها آخرون، وخلال أيام تطور الاحتجاج، من احتجاج يقتصر على أسعار السكن، إلى الاحتجاج على غلاء المعيشة، وبضمنه ارتفاع أسعار منتوجات الحليب، التي أخذت لها اسما رمزيا "جبنة الكوتيج"، وهي من الأجبان المصنعة وسعرها عال.
وكان واضحا منذ البداية أن التنظيم غائب عن تلك الاحتجاجات، فسعت عدة أطر للتدخل بهدف التنظيم وحتى فرض أجندات. وشهدت تلك الحملة مظاهرات ضخمة، بلغت ذروتها بخروج ما يقارب نصف مليون نسمة في عدة مظاهرات في ليلة واحدة، كانت أكبرها في مدينة تل أبيب.
إلا أن عملية تفجيرية واحدة على الحدود مع سيناء، في شهر آب من العام ذاته، كانت كفيلة بأن تلغي نشاطات الاحتجاج في الأسبوع ذاته، الذي سبقه أسبوع الذروة، ولم تنجح كل محاولات استنهاض الحملة لإعادتها إلى تلك الذروة، لتتلاشى الحملة تدريجيا بعد بضعة أسابيع على اندلاعها. كما أن المحاولات لاستنهاضها في صيف العام التالي 2012، باءت بالفشل الذريع.
وكان هذا موضوع عدة أبحاث، منها ما أجري في بنك إسرائيل المركزي. ولم تنجح تلك الأبحاث في تفسير عدم مبالاة الجمهور في استمرار ارتفاع غلاء المعيشة، وبشكل خاص في أسعار البيوت، خاصة وأن كل الاجراءات المحدودة التي تبعت تلك الحملة، ومن بينها خفض بعض أسعار المواد الغذائية، قد تلاشت. وكانت حكومة بنيامين نتنياهو في حينه قد تفاجأت من الحملة، وسعت بكل الطرق إلى اسكاتها، بداية بمهاجمتها، ومن ثم بتشكيل لجنة خاصة "لجنة تراختنبرغ" لفحص كيفية خفض غلاء المعيشة، وقد خرجت اللجنة بسلسلة توصيات، إلا أن الحكومة لم تتعامل معها بكامل الجدية، إذ أنه ما أن أنهت اللجنة عملها حتى تلاشت الحملة.
تقرير مراقب الدولة
ويقول تقرير مراقب الدولة، الصادر في النصف الأول من الشهر الجاري- أيار، بحسب استعراض المحللة الاقتصادية ميراف أرلوزوروف، إنه في العام 2015 كان سعر الزبدة في السوق الإسرائيلية، أعلى بنسبة 63% من معدل سعرها في الأسواق العالمية، في حين أن اللبن (الزبادي) كان سعره في ذات العام أعلى بنسبة 234% من معدل سعره في العالم.
ويقول التقرير إن ما يساهم في رفع الأسعار هو سعر المنتوج الخام، الحليب، في الحظائر. إذ أن سعر الحليب في الحظائر كان في العام 2017 أعلى بنسبة 32% من سعره في العالم، وهذه نسبة أعلى مما كانت عليه قبل ثلاث سنوات من الآن.
ويضيف مراقب الدولة في تقريره أنه خلال السنوات العشرين الأخيرة، عملت كل الدول المتطورة على تغيير سياساتها بشأن دعم المواد الغذائية، من دعم غير مباشر، إلى دعم مباشر للمستهلكين. لكن في إسرائيل الآلية معكوسة، وحجم الدعم غير المباشر في ارتفاع مستمر، ولكنه لا يحقق شيئا. لا بل حسب المراقب، فإن هذه سياسة تورط إسرائيل أمام العالم، وتهدد استقرار سوق الحليب، ما ينعكس سلبا على المستهلك.
وتقول المحللة أرلوزوروف إن سوق الحليب ومنتوجاته واحدة من سوقين، تخضعان لتخطيط من قبل الدولة، والثانية هي سوق البيض. ففي قطاع البيض أيضا، لدى إسرائيل سلسلة من المعطيات السلبية: فمزارع الدجاج فيها هي الأصغر في العالم، ونجاعتها بائسة جدا، وهذا ما يساهم في التلويث البيئي، خاصة بسبب ظروف الحياة الوحشية للطيور. وغالبية منتجي البيض لا يحققون الأرباح بالمستوى المطلوب، ولهذا فإن ظروفهم الاقتصادية صعبة. وإذا كان كل هذا لا يكفي، فإن المستهلك يدفع سعرا للبيضة أعلى بنسبة 18% من معدل الأسعار في الأسواق العالمية.
وتضيف أرلوزوروف أن الفشل الإسرائيلي في مجال التخطيط الزراعي لا يتوقف عند هذا الحد، فإسرائيل وقعت في العام 1995 على ميثاق دولي تلتزم فيه بحجم ما في دعمها للزراعة. وهذا الدعم يقسم إلى قسمين، دعم مباشر للمزارعين، ودعم غير مباشر من خلال التخفيض الجمركي، ورغم ذلك فإن الجمارك تبقى عالية. وفي العام 2008 وبين العامين 2011 و2014، خرقت إسرائيل الاتفاق، وزادت من مستوى الدعم، ما من شأنه أن يدخلها إلى نزاع مع منظمة التجارة العالمية. وليس هذا وحده، بل إن إسرائيل تخرق أيضا اتفاقيات دولية تتعلق بشكل دعم سوق الحليب، ومستوى الأسعار فيه.
وتقول المحللة الاقتصادية عادي دوفرات، في صحيفة "ذي ماركر"، إن الإسرائيليين سينفقون في العام الجاري مئات الملايين، أكثر مما صرفوه في العام الماضي 2017، بموجب مسح أجراه أحد المعاهد الاقتصادية، الذي يرتكز على تقارير شركات التسوق الكبرى والوسطى في البلاد. وبموجب تلك المعطيات، فإن أسعار منتوجات الحليب على أنواعها، ارتفعت في منتصف الربع الأول من العام الجاري بنسبة 3% بالمعدل. إذ يتبين أنه في حين أن كمية منتوجات الالبان ارتفعت في ذات الفترة بنسبة 5ر1%، مقارنة مع ذات الفترة من العام الماضي، فإن كمية الأموال ارتفعت بنسبة 5ر4%، ومن هنا يأتي الاستنتاج بأن الأسعار ارتفعت بنسبة 3%.
وتقول دوفرات إن سوق الحليب ومنتوجاته تشكل حوالي 20% من إجمالي سوق الأغذية. وبلغ حجم مبيعات الحليب ومنتوجاته في العام الماضي 2017، ما يقارب 9ر7 مليار شيكل، وهذا ما يعادل 22ر2 مليار دولار. وحسب ذات التقرير، فإن أسعار الحليب ومنتوجاته، من شركة تنوفا، كبرى الشركات الإسرائيلية، التي تحتكر 50% من السوق (90% حتى قبل اقل من عقدين من الزمن)، ارتفعت بنسبة 2ر5% بالمعدل، في الربع الأول من العام الجاري. في حين أن أسعار منتوجات شركة شتراوس ارتفعت بنسبة 5ر0%، وشركة طيرا بنسبة 1%. إلا أن بيع منتوجات تنوفا سجل في الربع الأول نسبة 1%، بينما كمية الأموال المتدفقة عليها ارتفعت بنسبة 1ر4%.
وتضيف دوفرات أن قسما من مسببات ارتفاع الأسعار يعود إلى أن المستهلكين استأنفوا شراء كميات أكبر من منتوجات الحليب المصنعة، ذات الكلفة العالية. وقالت إن ارتفاع الأسعار يأتي بعد فترة من الزمن، سجلت فيها الأسعار تراجعات، ولكن معظمها إذا لم تكن كلها يعود إلى حملات تخفيضات بادرت لها الشركات في إطار المنافسة، وقد توقفت عن هذا بدرجة عالية في العام الماضي.
OECD تحذر
وفي شهر شباط الماضي، صدر تقرير دوري عن منظمة التعاون بين الدول المتطورة OECD، يقارن بين مستويات الأسعار لسلة منتوجات وخدمات في عشرات الدول، المشاركة في المشروع العالمي، لقياس مستوى المعيشة الفعلي، بمقاييس القوة الشرائية المحلية.
ولغرض اجراء المقارنة، يبلور مكتب الإحصاء التابع لمنظمة OECD، وبالتعاون مع مكتب الإحصاء في الاتحاد الأوروبي، والبنك الدولي، سلة مشتريات تضم حوالي 3 آلاف منتوج وخدمة، تستخدمها العائلات. ويجري المسح الكامل مرّة كل ثلاث سنوات، ويتم تعديله جزئيا كل بضعة أشهر. وفي شهر شباط الماضي، تم نشر المعطيات شبه النهائية لمسح الأسعار، الصحيح للعام 2014، وكانت النتيجة بالنسبة للمستهلك الإسرائيلي قاسية. والتعديلات التي جرت في العام 2017 لم تدل على تحول للإيجاب. فإسرائيل تحل في المرتبة 12 من أصل 47 دولة، من حيث غلاء المعيشة، بحيث أن المرتبة الأولى هي الأغلى.
فسلة المشتريات للعائلة الإسرائيلية كلفتها أعلى بنسبة 25% من معدل سلة المشتريات في الدول المتطورة الأعضاء في OECD. وهذا يعني أنه من أجل شراء سلة منتوجات وخدمات ثابتة، فإن العائلة الإسرائيلية تدفع 125 شيكلا، مقابل كل 100 شيكل تدفعها العائلة بالمعدل في دول OECD. ففي ألمانيا الفارق 104 شواكل، وفي فرنسا 109 شواكل، وفي النمسا 112 شيكلا، وفي الولايات المتحدة الأميركية 100 شيكل.
ويقول المحلل سيفر بلوتسكر، في مقال سابق له، إنه بعد سبع سنوات من نصب الخيام في جادة روتشيلد في تل أبيب، وبعد سبع سنوات من الكفاح المتواصل ضد غلاء المعيشة، الذي خاضته الحكومات ووزراء المالية، فإن إسرائيل بقيت دولة ذات كلفة معيشة عالية، كما كانت. وللدقة أكثر، فإنها باتت ذات كلفة أعلى مما سبق. فإسرائيل كانت محسوبة في الماضي، كما غالبية الدول المتطورة، أقل كلفة نسبيا. فسلة المشتريات الإسرائيلية كانت أقل كلفة مقارنة مع الدول الأوروبية، إلا أن هذا الحال لم يبق على حاله. فكلما تعززت قيمة الشيكل، وتعزز الاقتصاد الإسرائيلي ككل، انتقلت إسرائيل إلى فئة الدول الأكثر غلاء، والآن حتى ذات كلفة عالية جدا.
وحسب بلوتسكر، فإن أحد الأسباب هو ضريبة القيمة المضافة، فالنسبة المفروضة في إسرائيل 17%، أيضا على المواد الغذائية. ففي الدول الأعضاء في OECD، تتمتع المواد الغذائية بضريبة قيمة مضافة بنسب أقل، وحتى صفر بالمئة، والإعفاء الضريبي يؤثر بطبيعة الحال على مستوى الأسعار. فانظروا أسعار الخضراوات والفواكه المعفية من ضريبة القيمة المضافة في إسرائيل، فهي أقل كلفة من الكثير من الدول. كذلك فإن أصناف من سلة المشتريات والخدمات التي عليها ذات نسب الضرائب تقريبا، قريبة من المعدل في OECD، مثل الملبوسات والأحذية، وخدمات مختلفة.
والسبب الثاني هو الاحتكار في اصدار شهادات الحلال. فمتطلبات الحلال تزداد تشددا، من عام إلى آخر، وهذا يرفع أسعار المواد الغذائية. والاثبات غير المباشر لهذا، يكفي أن ننظر إلى أسعار الخضراوات والفواكه، فهي كما هو معروف معفية من ضريبة الحلال، ولذا فإن الأسعار أرخص نسبيا.
ما تجدر الإشارة له أن الجدل حول كلفة المعيشة تسيطر عليه الصحافة الاقتصادية، التي هي مملوكة أصلا لكبار الأثرياء، أو أنها على ارتباط بحيتان المال ومصالحهم، بمعنى أن كل واحدة من وسائل الإعلام تحاول ابراز أسباب بشكل يخدم مصالح كبار المستثمرين، دون أن تتمسك بالجوهر. فعلى سبيل المثال، في مجال قطاع الألبان والأجبان، فإن المطلب الأكثر شيوعا في الصحافة الاقتصادية، هو فتح السوق من دون قيود، امام الاستيراد لمنافسة البضائع المحلية، رغم أن هذا سيؤدي إلى ضرب الإنتاج المحلي، وبالتالي تقليص أماكن عمل، وقذف الآلاف إلى سوق البطالة. وكذا أيضا في مسألة أسعار البيوت، فإن الاتهام هو للحكومة لكونها لا تبيع الأراضي للمقاولين بأسعار صفرية. ويبقى الجانب الغائب هو الربحية للمستثمرين، إن كان في سوق الاغذية أو أسعار البيوت وغيرها، وهي نسب أرباح عالية جدا. كما أن هذه الصحافة تتغاضى عن حقيقة الضريبة الشرائية العالية جدا على المواد الغذائية، باستثناء الخضراوات والفواكه.