*خلال السنتين الأخيرتين ظهرت إشارات مبكرة واضحة استنتج الفلسطينيون وممثلوهم على ضوئها بحق أن "صفقة القرن" التي عرضتها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب تستهدف سلبهم وقضيتهم أية مكانة سياسية*
إشارات مبكرة
ظهرت، خلال السنتين الأخيرتين، إشارات مبكرة واضحة استنتج الفلسطينيون وممثلوهم على ضوئها أن "صفقة القرن" التي عرضتها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب تستهدف سلبهم وقضيتهم أية مكانة سياسية. ثم أضيفت إلى هذه الإشارات، مؤخراً، ما اعتبره الفلسطينيون دليلاً قاطعاً على استنتاجهم ذاك.
وقد شملت تلك الإشارات الواضحة، بصورة أساسية، نقل السفارة الأميركية إلى القدس، إلغاء المعونات المالية الأميركية للسلطة الفلسطينية ولوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين ـ الأونروا (إشارة مكثفة إلى الموقف الأميركي من مشكلة اللاجئين الفلسطينيين)، إغلاق مكاتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، التلميحات بأن الضفة الغربية ليست "أرضاً محتلة" وبأن المستوطنات، عموماً، هي قانونية. وما أثار غضب الفلسطينيين بشكل خاص هو حقيقة أن هذه الخطوات الأميركية قد هبطت عليهم من جانب واحد وكتوطئة لـ "صفقة القرن"، فيما هم يفترضون أن تنسيقاً تاماً يجري في هذا الشأن بين إسرائيل والإدارة الأميركية.
البرهان القاطع، الذي أضيف مؤخراً، هو النية والسعي الأميركيان لإحداث تغيير جوهري في التفسير المعتمد لمصدر التخويل الأكثر أهمية لأي حل سياسي للصراع: قرار مجلس الأمن الدولي رقم 242. فقد تكرس هذا التفسير وترسخ وأصبح، منذ العام 1967، كنزاً نفيساً في الدبلوماسية والقانون الدوليين إلى درجة أن إقراره وتبنيه قد شكّلا شرطاً مسبقاً للانخراط في أية عملية أو تسوية سياسية. ورغم أن القرار لا يتطرق إلى القضية الفلسطينية بصورة مباشرة وصريحة، إلا أن منظمة التحرير الفلسطينية أقرته وتبنته في كانون الأول من العام 1988 في إطار سعيها آنذاك للانضمام إلى دائرة التسويات السياسية.
ظهر، منذ البدايات، خلاف بين إسرائيل والدول العربية حول ما إذا كان المطلب بشأن انسحاب إسرائيل ـ في أعقاب حرب حزيران 1967 ـ يسري على كامل الأراضي المحتلة أم لا. فقد أشارت الصيغة المُلزمة من القرار، باللغة الإنكليزية، في الجزء التنفيذي منه، إلى ضرورة الانسحاب من "مناطق" (territories) وليس من "المناطق" (the territories)، لكن في مقابل ذلك وفي الوقت ذاته، شددت مقدمة القرار على مبدأ عدم مقبولية/ عدم جواز "امتلاك أراض بواسطة الحرب". وقد حددت الوثيقة المبدئية المركزية في اتفاقيات كامب ديفيد بين إسرائيل ومصر، والمسماة "إطار للسلام في الشرق الأوسط"، من أيلول/ سبتمبر 1978، في مطلعها، أن "القاعدة المتفق عليها لتسوية النزاع بين إسرائيل وجاراتها بطرق سلمية هي قرار مجلس الأمن الدولي رقم 242، بكل أجزائه ومركّباته" وأن أية مفاوضات مستقبلية تجرى بين إسرائيل وأي من جاراتها "سترمي إلى تطبيق وتنفيذ جميع الأحكام والمبادئ الواردة في قراري مجلس الأمن رقم 242 و338" (الذي عاد وأكد، من جديد، نافذية القرار رقم 242 في أعقاب حرب العام 1973). وفي الجزء التنفيذي من الوثيقة، جرى التشديد على أن أية تسوية شاملة، دائمة وثابتة في الشرق الأوسط ينبغي أن تُبنى، بالضرورة، على أساس معاهدات سلام ترتكز على قراري مجلس الأمن رقم 242 و338. وعليه، فقد حدد "إطار السلام" بين إسرائيل ومصر أنها تشكل نموذجاً غير مسبوق لـ"قاعدة السلام"، ليس بين الدولتين فقط وإنما أيضاً "بين إسرائيل وأي من جاراتها الأخرى المستعدة للتفاوض من أجل تحقيق السلام مع إسرائيل على هذه القاعدة". "الحكم الذاتي الكامل" في (منطقتي) الضفة الغربية وقطاع غزة سيكون مؤقتاً ويستمر خمس سنوات تبدأ بعدها مفاوضات حول مكانتهما النهائية، بالاستناد إلى تعليمات وأحكام القرار رقم 242. وينبغي لهذا الحل، طبقاً لـ"إطار السلام"، الاعتراف بـ"الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني ومطالبه العادلة (“must recognize the legitimate rights of the Palestinian people and their just requirements ”). ثمة لهذا النص الواضح والقاطع معنى واحد وحيد هو: إسرائيل ملزمة، بصورة واضحة، باعتبار نموذج القرار رقم 242، كما جرى تطبيقه في السلام مع مصر، نموذجاً بدئياً أصلياً للسلام مع جاراتها الأخرى جميعاً. هذا النموذج البدئي الأصلي (أرخيتايب) يحدد المعايير التي يتعين اعتمادها بخصوص حجم الانسحاب (ويسوي، بذلك، الخلاف حول مساحة المناطق التي سيجري الانسحاب منها، وفقا للقرار رقم 242) وبخصوص التمييز الحاد بين السيادة (للجانب العربي) وبين الأمن (للجانب الإسرائيلي). ينبغي الانتباه إلى حقيقة أنه في "إطار السلام" قد حرص، كل مرة وبمثابرة ثابتة، على استخدام تعبير "جارات إسرائيل" (neighbours)، خلافاً لـ"دول" (states). وبذلك، أتاحت إسرائيل عملياً شمل الطرف الفلسطيني حتى قبل أن يكون دولة.
سابقة سيناء
لا عجب إطلاقاً، إذن، أن جميع الوثائق والآراء الاستشارية التي أُعدّت لشرعنة استمرار السيطرة الإسرائيلية، الاستيطان وحتى ضم الصفة الغربية (أو أجزاء منها) تتجاهل، مطلقاً، معاهدة السلام مع مصر، والتي وقعت عليها إسرائيل وتعهدت (برئاسة رئيس الحكومة آنذاك مناحيم بيغن) بتطبيق سابقة سيناء، بكل مبادئها وأشكال تطبيقها، على مختلف الجبهات الأخرى. يكفي التمعن في التقرير الخاص الذي أصدرته اللجنة التي تشكلت بمبادرة رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو وترأسها القاضي إدموند ليفي حول البناء في منطقة يهودا والسامرة (الضفة الغربية)، وذلك في حزيران 2012. يعتمد هذا التقرير على وثائق من قديم الزمان، من قبل قيام الدولة، مثل "وعد بلفور"، ويتخذها مصدراً للصلاحية والتخويل، بينما يتجاهل تماماً وثائق مفتاحية أخرى، مثل معاهدة السلام مع مصر، ولا يذكر مجرد وجودها، إطلاقاً. وقد درج رئيس الحكومة، نتنياهو، أيضاً، على التشديد المتكرر على الفارق بين استعداد دول عربية مثل مصر والأردن للتوقيع على معاهدات سلام مع إسرائيل وبين الرفض الفلسطيني. وقد أحيت وزارة الخارجية، تحت قيادته، بصورة لافتة، ذكرى مرور أربعين عاماً على توقيع معاهدة السلام مع مصر. غير أن الفارق الجوهري والحقيقي يكمن في الموقف الإسرائيلي المختلف تماماً حيال مصر والأردن من جهة وحيال الضفة الغربية من جهة أخرى. ففي ما يتعلق بمصر والأردن، أقرت إسرائيل "الخط الأخضر" بوصفه الحد الدائم (بالنسبة للأردن ـ في سياق تبادل أراض بمساحات متساوية) وانسحبت من شبه جزيرة سيناء حتى "الخط الأخضر"، من جانب واحد ودون أي قيد أو شرط. في هذه الحالات كلها، لم تطالب إسرائيل الطرف الآخر بالاعتراف بها كدولة يهودية ولم تضع هذا الاعتراف شرطاً لأي اتفاق. هاكم، إذن، مقارنة رئيس الحكومة نتنياهو التي تمثل، في أساسها ومجملها، تناقضاً داخلياً. ولو كان مستعداً لاتخاذ موقف من الفلسطينيين مطابق للموقف من مصر والأردن في سياق الحديث عن الأرض وفي سياق التمييز بين السيادة والأمن، لكان السلام معهم متاحاً وقابلاً للتحقيق. لكن المقارنة التي يعقدها تبرز، على نحو متناقض، مدى الكيل بمكيالين في التعامل مع القضية الفلسطينية. هكذا، وتحديداً في الوقت الذي يجري فيه إبراز صمود وثبات معاهدة السلام مع مصر طيلة أربعين عاماً كتطبيق ناجح جداً للقرار رقم 242، بحيث ينبغي أن يشكل سابقة معتمدة لإمكانيات وآفاق مستقبلية تستند على بنود المعاهدة نفسها ومدى صمودها في امتحان الوقت والواقع ـ في هذا الوقت بالذات، تسعى إسرائيل وإدارة ترامب لتجاهل القرار رقم 242 والالتفاف عليه في سياق الحديث عن الضفة الغربية. خلال الحملة الانتخابية الأخيرة، في نيسان 2019، أعلن رئيس الحكومة نتنياهو أنه سيبدأ، بعد تلك الانتخابات مباشرة، بتوسيع السيادة الإسرائيلية في الضفة الغربية. وكان سبق تصريحه ذاك إعلان الرئيس ترامب بشأن الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على هضبة الجولان، ما شكل تنصلاً أميركياً رسمياً من التعهد الأميركي والإسرائيلي، في إطار معاهدة السلام مع مصر، باعتبارها سابقة يُبنى عليها في كل الجبهات الأخرى.
كانت مبادرة نتنياهو وترامب إلى جميع هذه الخطوات مبادرة من جانب واحد فقط. وقد تم إرساء الاعتراف الأميركي بالسيادة الإسرائيلية على هضبة الجولان على تفسير جديد جرى اختلاقه للقرار رقم 242، بصورة فظة وأحادية الجانب أيضاً وجدت لها تعبيراً مبدئياً في المقال المشترك الذي نشره وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، والسفير الأميركي في إسرائيل، ديفيد فريدمان، في صحيفة "وول ستريت جورنال"، في شهر أيار المنصرم. ورغم أن هذا المقال قد تركز في مسألة الجولان، بغية التأكيد على أن قرار مجلس الأمن الدولي رقم 242 لا يحول، ظاهرياً، دون إمكانية الضم من جانب واحد ودون الاعتراف الأميركي الرسمي به، إلا أن ثمة إسقاطات هامة جدا له على الجبهة الفلسطينية أيضاً. ويلجأ كاتبا المقال إلى طريقة التوائية في التفسير، تفتقر إلى أي أساس منطقي أو واقعي فيسوقان ادعاءهما المركزي القائل بأنه نظراً لاعتراف القرار رقم 242 بالمطلب الإسرائيلي الخاص بحدود آمنة ومعترف بها، تصبح الطريق إلى تحقيق ذلك، في إثر مرور هذا الوقت الطويل، من خلال ضم الجولان. لكن، لا يجوز لهشاشة هذه الحجج ـ حدّ اللامعقول ـ أن تحرف الانتباه عن حقيقة انطوائها على سعي جاد لفرض وتثبيت حقيقة سياسية ودبلوماسية ترمي إلى التنصل النهائي من التفسير المقبول والمعتمد حتى الآن لمعاهدة السلام مع مصر. الهدف الأساسي ليس جبهة الجولان بأي حال من الأحوال، كما أشرنا، وإنما الحلبة الفلسطينية في الضفة الغربية وتهيئة الأرضية المناسبة لضمها (أو أجزاء منها، على الأقل). ولم تكن ثمة حاجة إلى وقت طويل حتى تتكشف الخيوط الحقيقية: فقد قال السفير فريدمان، بصريح العبارة، خلال المقابلة التي نشرتها معه صحيفة "نيويورك تايمز" في شهر حزيران، إن "لإسرائيل الحق في ضم أجزاء من الضفة الغربية، لكن ليس كلها".
انقلاب الآية
تشوشت الأمور وانقلبت الآية في الصراع العربي والفلسطيني مع إسرائيل، كما يبدو. الجانب العربي والجانب الفلسطيني هما اللذان يمدان اليد نحو السلام طبقا لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 242، كما جرى تطبيقه بنجاح كبير في المعاهدة الإسرائيلية ـ المصرية. إن مصدر الصلاحية في مبادرة السلام العربية التي تبدي استعدادا صريحا وواضحا، للسنة السابعة عشرة على التوالي، للتوصل إلى تسوية إقليمية على أساس حدود الرابع من حزيران 1967 وتبادل الأراضي، هو القرار رقم 242 تحديداً، بينما تضرب إسرائيل (ومعها الولايات المتحدة باعتبارها الراعية التقليدية لأية تسوية سياسية) عرض الحائط باليد العربية والفلسطينية الممدودة للسلام على أساس القرار رقم 242، وتفرغه من مضمونه الأصلي وتسعى إلى منحه مضموناً آخر، يقوم على الضم، بما يتناقض مع نصه وروحه، تناقضاً جوهرياً. على هذه الخلفية، أصدرت قمة الدول العربية التي انعقدت في شهر آذار الماضي دعوتها اليائسة "إلى إنقاذ حل الدولتين ومسيرة السلام". هذا التحول، الانقلاب، في الموقف من القرار 242 هو مرآة معبرة وصادقة لهذا التحول، الانقلاب، الجوهري.
حيال جميع الخطوات التمهيدية (والترويجية) لـ"صفقة القرن"، لا يحتاج الفلسطينيون إلى أية إشارات إضافية أخرى كي يعلنوا معارضتهم الحازمة ورفضهم المطلق لها. أما فيما يخص إسرائيل، فالمقالة أعلاه تبحث في الجوانب السياسية ـ القانونية المتعلقة بمصدر التخويل المتمثل في القرار رقم 242. ولم نبحث فيها الاسقاطات العملية للضم، ولو الضم الجزئي، لأن هذه تحتاج إلى مقالة أخرى منفردة. أكتفي هنا، في النهاية، بإعادة صياغة ما قاله بيرل كتسنلسون في العام 1931 ضد فكرة الدولة الواحدة الثنائية القومية التي طرحتها منظمة "بريت شالوم": إن الضم ليس سوى تعبير لغوي، أما المضمون فهو دولة عربية.
________________________________
(*) باحث إسرائيلي متخصص في الشؤون الفلسطينية أشغل في السابق منصب مستشار لرؤساء جهاز الأمن العام ("الشاباك"). هذا المقال نُشر في موقع "مولاد- مركز تجديد الديمقراطية في إسرائيل" أخيراً. ترجمة خاصة.