قبل حوالي ستة أشهر نُشر بإيجاز مدروس تقرير أمني حسّاس، يحتوي نشرة مؤلفة من 250 صفحة، تناول الجوانب والأبعاد الإستراتيجية للأمن القومي لدولة إسرائيل. دان مريدور، الذي تولى رئاسة اللجنة المكلفة قبل نحو سنة ونصف السنة من قبل وزير الدفاع الأسبق شاؤول موفاز، قدم توصيات لجنته إلى رئيس الوزراء الحالي (إيهود أولمرت)، وبذلك اختفى الموضوع عملياً من الأجندة العامة، وكأنه لم يكن. ويستدل من الحيثيات والتفاصيل القليلة التي تسربت لوسائل الإعلام حول التقرير المصنف كـ "سري للغاية"، أن اللجنة المذكورة أوصت بمواصلة سياسة الغموض التي اتبعتها دولة إسرائيل في كل ما يتعلق بسياسة الذرة الإسرائيلية. في سياق لاحق من التقرير ذكر أنه يتعين على صانعي القرارات في إسرائيل، في حال نجحت إيران في صنع سلاح نووي وإجراء تجربة نووية، إعادة النظر في مدى صلة سياسة الغموض النووي المتبعة منذ عقود عديدة، حين باشرت دولة إسرائيل ببناء المفاعل الذري في ديمونا.
التكيّف مع الواقع الجديد...
لا بد لإسرائيل أن تهيئ نفسها للواقع الجديد. من هنا، ربما حان الوقت لأن تقوم المؤسسة الأمنية وغيرها من دوائر صنع القرارات في إسرائيل بمراجعة سياسة الغموض النووي وبشكل خاص مسألة ما إذا كانت هذه السياسة تحقق أهدافها بالفعل، أي ردع الدول العربية عن شن حرب شاملة ضد إسرائيل بهدف تصفيتها نهائياً.
في الواقع لم تقم إيران بإجراء تجربة نووية نظراً لعدم امتلاكها الخبرة اللازمة، ولكنه أجريت مؤخراً تجربة كهذه، هي الأولى، من قبل كوريا الشمالية التي تربطها علاقات جيدة جداً مع إيران وسوريا، وخاصة في موضوع الصواريخ البالستية. هذه التجربة التي طرحت على الأجندة العالمية خطر توفر خبرة وسلاح نوويين في حوزة أنظمة متطرفة، لا بد لها أن تشعل لدينا أيضاً، في إسرائيل، كل الأضواء الحمراء الممكنة.
وبالفعل فقد قرر أولمرت في أعقاب ذلك، عقد جلسة عمل دعي إليها جميع رؤساء الهيئة الأمنية-الجيش والشرطة و"الشاباك" و"الموساد" ورئيس لجنة الطاقة الذرية- لمناقشة الموضوع الذري. وبطبيعة الحال فقد بقي مضمون النقاش واستنتاجاته طي السرية والكتمان، بيد أن شيئاً واحداً بات واضحاً وهو أن إسرائيل ملزمة بتهيئة وملاءمة نفسها للواقع الجديد الآخذ بالتكون خلال السنوات الأخيرة.
وتعتبر زيارة أولمرت لروسيا، للمرة الأولى كرئيس للحكومة، للتباحث مع الرئيس بوتين وغيره من القادة الروس حول الموضوع النووي، خطوة مهمة أخرى في مواءمة وتهيئة إسرائيل لمواجهة الواقع الجديد. في الآونة الأخيرة، وخاصة بعد حرب لبنان الثانية، أخذ الموضوع النووي يحتل مجدداً حيزاً مهماً في جدول الأعمال الأمني- السياسي لإسرائيل، وهذا نابع كما يبدو من الإدراك أن هذا الموضوع بات من المواضيع الحاسمة جداً بالنسبة لأمن واستمرار وجود دولة إسرائيل.
وهنا يُطرح السؤال: هل تستطيع إسرائيل مواصلة سياسة الغموض النووي كما لو أن شيئاً لم يتغير، في الوقت الذي تسعى فيه دول إسلامية، وفي طليعتها إيران، دون توقف، بل وتقترب أكثر من أي وقت مضى من امتلاك "سلاح نووي إسلامي"؟! أم أن الوقت قد حان كي تعمل دولة إسرائيل "كل ما في وسعها" من أجل منع إيران من امتلاك سلاح نووي، بما في ذلك تغيير السياسة الإسرائيلية في المجال النووي؟
هذا السؤال الصعب طُرِحَ وهو مطروح وسَيُطرح على ما يبدو على الأجندة السياسية- الأمنية على أعلى المستويات في إسرائيل. سيقال في الحال، إنه وخلافاً لمجالات أخرى يوجد فيها شعور محق لدى الجمهور الواسع بأن هناك هوامش رحبة لارتكاب أخطاء من جانب صانعي القرارات، فإنه لا يجوز لدولة إسرائيل أن تُخطئ في المجال النووي.
ويخيل أن هذا الشعور جعل كل الجهات ذات الصلة تدرك أن الحديث يدور عن شيء أكبر بكثير من مجرد مسألة سياسية بسيطة. فبالقدر الذي يمكن الوقوف عليه، يلاحظ أن التعاطي مع هذا الموضوع يبدو في أغلب الأحيان جاداً وملائماً. ومع ذلك فإن السؤال المطروح هو: ما الذي يمكن لإسرائيل أن تفعله بعد، بغية ردع إيران أو أية دولة معادية أخرى عن التفكير بتهديد إسرائيل بقنبلة ذرية؟
منطقة رمادية واسعة
خلافاً للشعور الأولي الذي يوحي أن حيز المناورة في هذا الموضوع ضيق جداً في الوقت الذي تتوفر فيه إمكانيتان رئيستان: سلبية مطلقة في مقابل فاعلية حثيثة، فإن كل من يمتلك فهماً وإلماماً بهذه المجالات يعرف أن حيز المناورة واسع أكثر بما لا يُقاس مما هو مُتصور. فباستطاعة إسرائيل العمل بشكلٍ هادئ بعيداً عن الأضواء، كما تفعل اليوم، وأن تأمل في أن يقوم العالم الحرّ بالمهمة نيابة عنها، وفي المقابل باستطاعة إسرائيل، كما فعلت في الماضي حين هاجمت المفاعل النووي العراقي سنة 1981، أن تقرر القيام بعملية عسكرية محددة الأهداف (موضعية) بغية منع استمرار المشروع النووي الإيراني.
على الرغم من التصريحات النارية الحازمة التي يطلقها أولمرت، ومؤداها أن إسرائيل لن تسمح بتحول إيران إلى دولة نووية، إلا أنه يبدو بأن الحديث يدور عن آمال وتمنيات أكثر مما هو يدور عن سياسة تنفيذية عملانية. وبطبيعة الحال هناك، بين هذين القطبين المتمثلين بسياسة "الجلوس مكتوفي الأيدي" مقابل سياسة "قم واعمل"، "منطقة رمادية" واسعة ربما تكمن فيها بالذات السياسة الملائمة لإسرائيل في بداية القرن الحادي والعشرين.
مع ذلك يجب أن نتذكر بأن إسرائيل هي الدولة الوحيدة في "نادي الدول الذرية" الحصري، التي تنتهج سياسة الغموض النووي. فجميع الدول الذرية بلا استثناء، ابتداء من الأقوى مثل الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا والصين، مروراً بالأضعف مثل الهند والباكستان، لا تحرص وحسب على إبراز كونها دولاً ذرية بل إن غالبيتها تتفاخر بذلك، سواء بحكم المزايا التكنولوجية المرتبطة بصنع وإنتاج السلاح النووي أو بحكم قوتها غير القابلة للجدل، وهي قوة يمكن استغلالها لتحقيق مصالح قومية.
كما أسلفنا فإن إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي تتبع، لاعتبارات داخلية وخارجية، سياسة معاكسة، هذه السياسة حققت في الواقع أهدافها خلال العقود الأخيرة. فمن جهة اعتبرت إسرائيل من قبل المجتمع الدولي، وخاصة من قبل الدول العربية، قوة نووية، ومن جهة أخرى لم تتوفر في أي وقت دلائل وإثباتات على أن إسرائيل تمتلك بالفعل سلاحاً نووياً، ويعود ذلك من بين جملة أسباب، لكون إسرائيل لم تقم أبداً بإجراء تجربة نووية. ولكن في ظل الواقع الراهن يبدو أن فترة الامتياز التي تمكنت إسرائيل خلالها من انتهاج سياسة سلبية والأمل بأن في ذلك ما يكفي، قد انتهت.
لقد برهنت السنوات الأخيرة أن التهديد بالعقوبات لا يؤثر على نظام "آيات الله" في إيران. الوضع يستوجب اليوم من إسرائيل الاستعداد والعمل بنفسها بصورة فعّالة أكثر. لهذا السبب ربما يتعين على إسرائيل تبني سياسة الأحلاف والمعاهدات الإستراتيجية التي يتحدث عنها بنيامين نتنياهو منذ وقت طويل. هذه السياسة من شأنها أن تغير عملياً ميزان القوى. فلن تقف إسرائيل بعد ذلك لوحدها في مواجهة إيران أو أية دولة إسلامية أخرى، وإنما ستقف إسرائيل وحلفاؤها كسور منيع حيال تهديدات الإسلام الأصولي. ربما سيشكل ثمن تبني هذه السياسة تنازلاً جزئياً عن سياسة الغموض النووي التي تتبعها إسرائيل، من حيث أنها (إسرائيل) ستضطر للكشف عن قدراتها التكنولوجية أمام شركائها الإستراتيجيين. ولكن في مقابل هذه النقيصة هناك ميزة أو أفضلية كبيرة تتمثل في تغيير ميزان القوى بصورة جذرية وذلك من دون أن تقف إسرائيل لوحدها في المعركة الكبيرة والصعبة ضد إيران. وهناك ميزة أخرى لا يجوز الاستخفاف بها وهي كشف أسرار الدول المتحالفة مع إسرائيل أمام صانعي القرارات السياسية والأمنية في الدولة الإسرائيلية.
في المحصلة النهائية يخيل أن الساعة قد أزفت كي تتفحص إسرائيل جيداً مدى صلة سياسة الغموض النووي، وبشكل خاص مسألة تحقيق الأهداف التي وضعت عندما تقرر إتباع هذه السياسة. يبدو لي اليوم أن تلك الأهداف إما أنها تغيرت أو أنها لا تتحقق لسبب بسيط وهو أن قواعد اللعبة الإقليمية والعالمية قد تغيرت، الأمر الذي يتطلب عصفاً ذهنياً في الموضوع الأكثر حدة وحسماًً بالنسبة لوجود إسرائيل، موضوع الذرة.
______________________
* جلعاد كاتس- خبير في الشؤون الأمنية. ترجمة- "مدار". (المصدر- شبكة الانترنت).