عاشت إسرائيل طوال معظم سنوات وجودها في ظل إشكالية الأمن، أي في ظل التناقض بين قوتها العسكرية وبين قدرتها على توفير أمن حقيقي لمواطنيها. ويبين التاريخ أن قدرتنا على ردع أعدائنا عن التفكير بخوض حرب أو مواجهة ضدنا تنحسر وتتلاشى عندما نصل بالذات إلى أوج قوتنا العسكرية، وفي كل مرة تكون النتيجة اندلاع نزاعات مسلحة عنيفة توقع خسائر بشرية واقتصادية باهظة وتضعف أمننا القومي.
هذه الإشكالية (التناقض) ازدادت حدة وتفاقماً بعد حرب "الأيام الستة" (1967) وبلغت مؤخراً مستويات قياسية جديدة. جذور إشكالية الأمن هذه لا تكمن في كون إسرائيل ليست قوية كفاية، وإنما في القناعة التي يؤمن بها جميع مهندسي سياسة الأمن الإسرائيلية تقريباً ومؤداها أن الأمن لا يتحقق إلاّ بواسطة التفوق العسكري. وهذا التفوق من المفترض أن يؤدي وظيفته بواسطة إحدى طريقتين: ردع العرب عن المبادرة بأعمال عدائية، أو - في حال غامَرَ هؤلاء بإعلان الحرب رغم ضعفهم- تحقيق نصر كاسح يؤدي، من جملة أشياء، إلى إعادة شحن "بطاريات الردع" الفارغة.
ووفقاً لهذه النظرية، فإنه يمكن إقامة أمن إسرائيل على ركيزة واحدة، ركيزة القوة. جذور التفكير الإسرائيلي القائم على القوة يمكن إعادتها إلى حزيران 1956، عندما اضطر وزير الخارجية موشيه شاريت إلى الاستقالة من منصبه تحت ضغط رئيس الحكومة دافيد بن غوريون. كان شاريت هو المسؤول الوحيد في الزعامة السياسية الذي طرح بديلاً حقيقياً لسياسة بن غوريون تجاه النزاع الإقليمي. وباستقالته اختفت أو فُقدت "الساق" الثانية، الساق السياسية، في سياسة الأمن القومي، ونتيجة لذلك تحوّل استخدام القوة إلى انعكاس شرطي تقريباً لأية خطوة أو تحرك اعتبرا بمثابة تهديد للهيمنة الإسرائيلية في المنطقة.
وهكذا أدى غياب الجهد السياسي والدبلوماسي كوسيلة لتحقيق وضمان الأمن، إلى تعظيم إشكالية الأمن. التهديد بالقوة يولد عملية ردع مهمتها منع الخصم من تغيير وضع، غير مريح له، بوسائل عسكرية. أما الدبلوماسية فمهمتها جعل الوضع أسهل بالنسبة للخصم، بما يؤدي إلى الحد من دافعيته نحو اللجوء إلى العنف.
منذ العام 1949 والعرب يلجأون إلى طريق العنف ليس انطلاقاً من الشعور بالقوة وإنما نظراً لأن الوضع القائم يصبح غير محتمل بالنسبة لهم. وعلى الرغم من ضعفهم العسكري إلا أنهم يكبدوننا ثمناً باهظاً، مع أنهم يتكبدون أيضاً ثمناً باهظاً. ونحن نرفض المرة تلو المرة تلافي "الضربة العسكرية" بأسلوب "العلاج الدبلوماسي"، ولا نستوعب الدرس إلاّ إذا تأكد أنه لا خيار آخر لنا.
التاريخ الإسرائيلي حافل بأمثلة من هذا النوع.
هناك مثالان بارزان من الفترة السابقة لحرب "الأيام الستة". الأول يتعلق باقتراح مصري في العام 1965 بدعوة رئيس جهاز استخبارات "الموساد" الإسرائيلي، مئير عميت، للقدوم إلى القاهرة والاجتماع مع نائب الرئيس (جمال) عبد الناصر، غير أن إسرائيل قررت، في أعقاب مشاورات داخلية سرية، رفض هذا الاقتراح، الذي قدم بلا شك بموافقة الرئيس عبد الناصر. فلو كانت إسرائيل قد استجابت للاقتراح، وجرى حوار سِرّي بين الدولتين، لأمكن تفادي، أو على الأقل تقليص حجم وأبعاد الأزمة التي أفضت لاندلاع الحرب (حرب حزيران 1967) بعد مرور أقل من سنتين.
المثل الثاني يتعلق بسياسة التصعيد العسكري التي اتبعها الجيش الإسرائيلي في مواجهة السوريين خلال السنوات السابقة للحرب المذكورة، والتي عكست أيضاً وبشكل واضح نظرية القوة، التي قضت بأن الطريق الأمثل لمواجهة النشاطات "التخريبية" المدعومة من دمشق، هي التهديد بإسقاط نظام الحكم البعثي في سورية. هذه السياسة كانت العامل المركزي لنشوب الأزمة والحرب التي لم تكن إسرائيل ترغب بها، مع أنها تمسكت في نهاية المطاف وإلى حد العشق بنتائجها (أي نتائج حرب 1967).
لقد أثبتت حرب "الأيام الستة" التفوق العسكري المطلق لإسرائيل في مواجهة أي تحالف أو ائتلاف عسكري عربي، وفقد العرب في أعقاب تلك الحرب قدرتهم على تهديد مقدرات ومصالح إسرائيل الإستراتيجية، وباتوا عوضاً عن ذلك تحت تهديد مدافع وطائرات الجيش الإسرائيلي. في ظل هذه الظروف كان من المتوقع والمنطقي أن تبلغ قدرة الردع الإسرائيلية ذروتها، غير أن المصريين بادروا في تلك الفترة بالذات، وللمرة الأولى منذ العام 1948، إلى شن حربين ضد إسرائيل، حرب الاستنزاف وحرب "يوم الغفران" (1973).
لقد وفرت الحرب (حرب 1967) لإسرائيل ليس فقط قدرة ردع متطورة، بل وعادت عليها أيضاً بثمار إقليمية كان يمكن استغلالها لإنهاء النزاع بشروط لم تكن إسرائيل تحلم بها. لكن إسرائيل رفضت إقامة و إرساء أمنها على تسويات تقلص دافعية العرب لشن حرب ضدها، وقد وجد ذلك تجليات عديدة أهمها:
◾رفض التقدم نحو إحراز حل على المسار الفلسطيني بعد الحرب مباشرة، وذلك نظرًا لأن ثمن "الاحتلال المتنور" بدا زهيداً ويجدر بالإسرائيليين دفعه من أجل الحفاظ على "وحدة وسلامة البلاد والائتلاف".
◾رفض الخيار الأردني الواقعي، بعد أن أعطى الرئيس عبد الناصر الملك حسين الضوء الأخضر بإجراء مفاوضات مع إسرائيل حول مستقبل الضفة الغربية، وقد نبع هذا الرفض من ذات الأسباب التي منعت التسوية على المسار الفلسطيني.
◾القناعة (المقدسة تقريباً) لدى القيادة الأمنية بأن مستقبل إسرائيل سيتعرض للخطر إذا انتقل خط الحدود الجديد مع مصر إلى الشرق من خط العريش- رأس محمد، وهو الأمر الذي أدى إلى بذل جهود إسرائيلية حثيثة لتخريب أية مبادرة سياسية للتوصل إلى تسوية بين البلدين. وفي هذا السياق أفشلت إسرائيل جميع الوساطات والمبادرات التي جرت في تلك الفترة، مثل جولات (مبعوث الأمم المتحدة) غونار يارينغ المكوكية ومبادرة وليم روجرز والمبادرات (بما في ذلك مبادرة موشيه ديان) التي سعت إلى تسوية جزئية في قناة السويس.
مثل هذا الموقف جاء أيضاً رداً على المبادرة السرية للرئيس أنور السادات للتوصل إلى تسوية شاملة، والتي نقلت إلى (رئيسة الوزراء) غولدا مئير بواسطة هنري كسينجر في نهاية شباط 1973. ثمن نظرية القوة هذه سدد بعد مرور حوالي ستة أشهر (باندلاع حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973).
لقد كان من المفروض بـ "حرب يوم الغفران" أن تعّلم إسرائيل درساً بشأن حدود القوة، إلاّ أن العبرة المركزية التي استخلصتها (إسرائيل) من تلك الحرب تمثلت في وجوب امتلاك مزيد من القوة.
فعملية تعاظم الجيش الإسرائيلي في السنوات التالية كانت ضخمة لدرجة أنها أوصلت إسرائيل إلى حافة انهيار اقتصادي. هذا الجهد كان يمكن ادخار القسم الأكبر منه لو ساد فهم، قبل مبادرة السادات، بأنه يمكن التوصل إلى سلام مع مصر، وتوفر استعداد إسرائيلي للحد من تهديد الجبهة الشرقية بواسطة اتفاق مع الأردن.
عوضاً عن ذلك، وبالإضافة إلى الاستثمارات الضخمة في تعزيز وتدعيم القوة، حصلنا على حرب لبنان (1982) التي كانت ثمرة لنظرية القوة في أنقى صورها، وإحباط مبادرة لندن، ثم الانتفاضة الأولى التي حاول قادة ورواد مدرسة تقديس القوة مواجهتها بواسطة تكسير عظام الفلسطينيين. عملية أوسلو، وهي النتيجة المنطقية لفشل إسرائيل في إخماد الانتفاضة الفلسطينية بالقوة، أُهدرت في نهاية المطاف على يد أنصار العقيدة القائلة إن السيطرة على "المناطق" هي الكفيلة فقط (على سبيل المثال) بضمان أمن الرحلات الجوية من وإلى مطار اللد.
السنوات الخمس الأخيرة قدمت تعبيراً صافياً بشكل مدهش عن نظرية القوة. فمبادرة التسوية التي قادها (إيهود) باراك في صيف العام 2000، أُديرت كعملية عسكرية بكل معنى الكلمة، إذ استهدفت إملاء نتائج المفاوضات على الفلسطينيين قبل أن تبدأ هذه المفاوضات. وفي بداية الانتفاضة الثانية أدى الاستخدام المكثف والمفرط للقوة العسكرية إلى تأجيج الصدامات وتفاقم "إرهاب الانتحاريين". وجاء رفض (إسرائيل) التخلي عن التصفيات والاغتيالات ليقضي على فرصٍ عديدة لإنهاء النزاع. تحديد هدف المواجهة من جانب إسرائيل على أنه "كي الوعي" لدى الفلسطينيين بأنهم لن يحققوا شيئاً بواسطة العنف، تحول إلى أمرٍ مثيرٍ للسخرية عقب الانفصال الأحادي الجانب عن قطاع غزة.
وقد تم الانفصال كوسيلة قوة من جانب واحد، هدفها أن لا تضطر إسرائيل لإجراء مفاوضات مع الفلسطينيين حول "انفصالها"، خاصة وأنهم أثبتوا، كعادتهم، بأنه "ليس هناك من يمكن التحدث معه" !
الانتفاضة الثانية اندلعت أيضاً عندما بلغت إسرائيل أوج تفوقها العسكري، عقب القضاء على قدرة العراق العسكرية، والمساعدات الأمنية والعسكرية الضخمة التي تلقتها إسرائيل من الولايات المتحدة. لكن وعلى الرغم من هذا التفوق، فإن أمن مواطني إسرائيل لم يصل في أي وقت مضى إلى مثل هذا الحد من التدهور (أي خلال الانتفاضة الثانية).
اليوم أيضاً، نجد أن تفوقنا العسكري يعجز عن كبح برنامج الذرة الإيراني والذي من شأنه، إذا ما تحول إلى سلاح عسكري عملي في يد إيران، أن يضع إسرائيل للمرة الأولى منذ قيامها، أمام خطر وجودي.
على الرغم من الإخفاقات الملموسة لسياسة الاعتماد على القوة فقط، فإنه لا يبدو حتى الآن أن هناك دلائل أو مؤشرات على انحسار حقيقي لهذا التفكير حسبما يشف عن حقيقتين: أولاهما أن غالبية الجمهور الإسرائيلي تفضل استمرار الانسحاب أو الانفصال الأحادي الجانب عن الضفة الغربية، على طريق المفاوضات مع الفلسطينيين، والثانية رفض إسرائيل الدعوة للجلوس إلى طاولة المفاوضات مع السوريين حتى في ظل استعداد سوريا لإنهاء النزاع مقابل استعادة الجولان. لماذا؟ لأن السوريين لا يمتلكون خياراً عسكرياً! لكن علينا أن نتذكر أننا فكرنا بنفس الطريقة أيضاً لغاية السادس من تشرين الأول/ أكتوبر 1973.
لقد أثبت التاريخ أن أمن إسرائيل لا يتحقق ولا يتحسن عبر الاعتماد المطلق أو شبه المطلق على القوة. وما نأمله هو تمثل وتذويت الاستنتاجات والعبر النابعة من حقائق التاريخ والواقع، وإلاّ فسوف نستمر، في المستقبل أيضاً، في دفع ثمن باهظ جداً نتيجة للتمسك بنظرية القوة هذه.
_______________________________
(*) د. أوري بار- يوسيف- أستاذ العلاقات الدولية في جامعة حيفا.