المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • مقالات مترجمة
  • 1912

مستمعو الراديو سمعوا يوم السبت قبل المنصرم خبرا مثيرا، جاء فيه أن محمد أبو طير وأوري أفنيري قد اعتكفا معا في أحد منازل الرام.

مجرد حقيقة تواجد هذين الشخصين، رجل حماس واليساري الإسرائيلي المعروف بكراهية الناس له، معا لتثير الاشمئزاز جدا. لكن حقيقة كونهما قد استوليا على بيت لعائلة فلسطينية وديعة واعتكفا فيه، كما يفعل المجرمون الهاربون من وجه الشرطة، لهي حقيقة أكثر إثارة.

 

هذا الخبر الكاذب، ربما لم يكن ليستحق أي تطرق خاص، لولا أنه يسلط الضوء على التقارير الإعلامية برمتها - ليس في هذه المظاهرة المحددة فحسب، بل في كافة مظاهرات نشطاء السلام الإسرائيلي والجمهور الفلسطيني. إضافة إلى ذلك، يسلط هذا الخبر الضوء على العلاقة الوثيقة بين وسائل الإعلام الإسرائيلية وبين سلطة الاحتلال. لولا وجود هذه العلاقة، لكان هناك شك في أن يدوم هذا الاحتلال لمدة 39 سنة.

 

لذلك من المجدي أن نحلل هذه الأمور بالتفصيل.

 

بادئ ذي بدء الخلفية: الرام هي قرية فلسطينية صغيرة شمالي القدس، على الطريق الرئيسي المؤدية إلى رام الله. منذ "توحيد" القدس عام 1967، كبرت القرية كثيرا. السبب: السكان الفلسطينيون يضاعفون أنفسهم كل 18 سنة، غير أنه يكاد يكون من غير الممكن الحصول على ترخيص بناء في القدس الشرقية. بانعدام وجود خيار آخر، بنى سكان القدس الشرقية بيوتا لعائلاتهم الآخذة في التوسع في القرى المجاورة. تحولت الرام إلى مدينة، غير أن أغلبية سكانها الـ 50 ألفا، يحملون هويات مقدسية، وبينما نواحي حياتهم الرئيسية كالعمل، الخدمات الصحية والمحاكم، ظلت تابعة لمدينتهم، القدس، فمن الناحية الرسمية تتبع البلدة للمناطق الواقعة تحت نفوذ السلطة الفلسطينية.

عند التخطيط للجدار الفاصل حول القدس ("التفافي القدس") قرر من قرر عزل الرام عن المدينة. الأنكى من ذلك، أن مسار الجدار يمر في الطريق الرئيسي (وهو الشارع الرئيسي أيضا)، على كل امتداده - بحيث لا يفصل بين الإسرائيليين والفلسطينيين، بل يفصل بالأساس بين الفلسطينيين والفلسطينيين.

لنأخذ فكرة: هذا أشبه بأن يُبنى في نيويورك جدار في منتصف برودواي، من شارع رقم 42 وحتى هارلم، أو في منتصف الشانزيليزيه في باريس، من ميدان كونكورد وحتى قوس النصر، أو في منتصف كورفيرستندام في برلين، من كنيسة الذكرى وحتى منطقة السوق. جزءا المدينة وأحياؤهما معزولة عن بعضها البعض بواسطة جدار خرسانة بارتفاع تسعة أمتار.

هبّ سكان المنطقة، فور وضع الإشارات للجدار على الأرض، وأجروا عدة مظاهرات غير عنيفة. تمت دعوة نشطاء السلام الإسرائيليين للمشاركة في جميع هذه المظاهرات. لكن في هذه الأثناء، أقيم الجدار الوحشي وتحول إلى حقيقة. إنه يعزل حاملي البطاقة المقدسية عن المدينة التي تتواجد فيها مصالحهم التجارية وعملهم. إنه يعزل الطلاب عن مدارسهم، الموجودة على بعد مائة متر عبر الجهة الأخرى من الجدار. ناهيك عن طلاب الجامعات، الذين يفصل الجدار بينهم وبين جامعاتهم؛ المرضى الذين يفصل الجدار بينهم وبين المستشفيات؛ حتى الموتى الذين يفصل الجدار بينهم وبين المدافن.

أصبح الجدار الآن على وشك الانتهاء من بنائه. النقاش حوله في محكمة العدل العليا ما زال متواصلا، لكن التجربة تثبت أن هذا النقاش ما هو إلا مجرّد معيق ولن يجدي نفعا في نهاية الأمر. ما زال بالإمكان الوصول إلى البلدة عن طريق حواجز الجيش الإسرائيلي، لكن هذه الثغرة في طريقها إلى الانسداد لتوها: الجدار سيحل محل الحاجز. حتى الآن تم مد جدار يمنع أي عبور في المقاطع التي ما زالت قيد النظر في المحكمة.

للاحتجاج على ذلك، دُعي إلى مظاهرة فلسطينية- إسرائيلية كبيرة. كان من شأنها أن تكون مسيرة في الطريق الرئيسي، على امتداد الجدار (في الجهة الفلسطينية، بالطبع) من مركز البلدة إلى مسرح مؤقت، كان من المخطط إلقاء الخطابات من عليه.

تم تحديد تفاصيل المسيرة في ثلاثة اجتماعات تخطيطية. بهدف التشديد على عدم استخدام العنف، تقرر أن يتصدر المتظاهرين الطلاب الذين تم عزلهم عن مدارسهم، وحقائبهم على ظهورهم، وأن يسير معلموهم إلى جانبهم. تم تحديد مسار بديل، يتم توجيه الطلاب إليه في حال داهم المسيرة خطر المواجهة مع الجيش.

 

عندما اقتربنا- حوالي 300 ناشط إسرائيلي من حركات سلام مختلفة - من قرية الرام، علمنا أن هناك قوات كبيرة من الجيش تنتظرنا بهدف منع عبورنا في الحاجز. بعدم وجود خيار آخر، اجتزنا الحاجز بطريقة أخرى ووصلنا إلى الجهة "الإسرائيلية" من الجدار في موقع آخر. بدل الجدار ينتصب في هذا المكان سياج عال. أحدثنا فيه ثغرة، ونجح معظم المتظاهرين في العبور عن طريقها إلى الجهة "الفلسطينية"، قبل أن ينجح الجيش، الذي تفاجأ بذلك، من استدعاء التعزيزات.

في هذه المرحلة، كانت المسيرة الفلسطينية قد خرجت كما هو مخطط بالضبط - على رأسها مجموعة من الكشافة الذين يقرعون الطبول ويحملون الأعلام، ومن خلفهم سار الصغار من الصفوف الأوائل وبقية الصفوف، من صغيرهم إلى كبيرهم، ومن خلفهم المشاركون في المظاهرة الرئيسية، يحملون اللافتات والأعلام، وعلى رأسهم ثلة من الوجهاء، كبار زعماء كافة الأحزاب الفلسطينية. اختلط النشطاء الإسرائيليون مع الفلسطينيين للتعبير عن التضامن، ودعيت أنا للانضمام للصف الأول.

هكذا وجدت نفسي أسير بين أبي طير، ناشط حماس المشهور أيضا بلحيته الحمراء، وبين الوزير الفلسطيني لشؤون القدس، وهو أيضا من رجالات حماس. وقد شارك أيضا أعضاء من فتح، الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية. سرنا يتأبط أحدنا الآخر وكان يبدو أن المظاهرة تتقدم وفق ما خطط لها. وعندها رأينا حشدا كبيرا من الجيش والشرطة، على منحدر الشارع، كانوا ينتظروننا - سلسلة من الجنود المسلحين من رأسهم حتى أخمص القدم، وأمامهم خيّالة الجيش على جيادهم، ومن خلفهم السيارات المدرعة العسكرية.

كان الهمّ الأول هو إبعاد الأولاد. لقد قادهم معلموهم إلى شارع جانبي، وسرنا نحن ببطء باتجاه الجنود، في طريقنا إلى منصة الخطباء. لم يكن هناك أي منظر أقل تهديدا من ثلة الوجهاء المتأبطين أحدهم الآخر، الذين ساروا في المقدمة.

 

ما حدث بعد ذلك أشهد عليه كما حدث بحذافيره، وأنا مستعد لاجتياز أي اختبار في جهاز كشف الحقيقة (البوليغراف) للتحقق من صحة أقوالي:

عندما كنا على بعد حوالي 50 مترا من تجمع الأحصنة والجنود في الشارع الرئيسي في الرام، سُمع صوت صادر عن مكبر صوت متنقل، وأعلن عن المنطقة "منطقة عسكرية مغلقة" وأن المظاهرة هي مظاهرة غير قانونية. بينما نحن واقفون، معسكرا مقابل معسكر، سقط عليها وابل هائل من القنابل المسيلة للدموع. لم يسبق هذا الوابل أي تحرش.

غمامات الغاز تصاعدت بيننا، أمامنا ومن خلفنا وابل آخر من القنابل المدوّية، ولذلك فررنا إلى داخل البيوت المجاورة للشارع. دخلت إلى أقرب بيت ووجدت نفسي بصحبة أبي طير، الذي استقبلني بحفاوة كبيرة. أعيننا كانت تتحرق وتدمع، ولم يكن بإمكاننا سوى تجاذب أطراف حديث قصير. غير أننا وجدنا أن هناك مكانا لإجراء حديث أطول.

حين تبدد الغاز، خرجنا إلى الخارج، إلى المظاهرة التي كانت مستمرة. اجتمع النشطاء في الشارع، وقام الجيش والشرطة بمهاجمتنا، مرارا وتكرارا، بوابل من القنابل المسيلة للدموع والقنابل المدوية، وأخذوا ينقضون علينا أفواجا أفواجا. جنود مدججون بالسلاح ومحصنون، سيارات مصفحة وخيالة (كانوا يرتدون سترات من جلود ممنوعة قانونيا من منطلق الرفق بالحيوان).

في هذه المرحلة فقط، وهذا هو الأهم، بدأ بعض الفتيان يلقون الحجارة باتجاه رجال الشرطة - حجارة لم يكن بمقدورها أن تؤذي أحدا، لأن مسافة سقوطها كانت أقصر من مسافة سقوط وابل القنابل المدمعة. حاول منظمو المظاهرة إيقافهم، ولكن غضب الفتيان على الجنود، الذين اجتاحوا قلب مدينتهم، كان أكبر بكثير. بعد ساعتين، ومن خلال تحدث منظمي المظاهرة مع قائد الشرطة، هدأت المواجهة وعاد النشطاء الإسرائيليون أدراجهم.

اعتقل خلال المظاهرة 12 شخصا - سبعة فلسطينيين وخمسة إسرائيليين. تم إطلاق سراح الإسرائيليين بعد بضع ساعات، أما الفلسطينيون فظلوا تحت الاعتقال، ليعالج محامونا الأمر.

 

إلى هنا قصة ما جرى. ومن هنا قصة وسائل الإعلام.

حازت المظاهرة على تغطية إعلامية واسعة وذلك لسببن - العنف الذي دار فيها واللقاء بيني وبين أبي طير، الذي زوّد بعدا مثيرا، لأنه حتى الآن لم يجر أي اتصال بين أفراد من حماس وبين إسرائيليين. النشرات الإخبارية في القنوات التلفزيونية الإسرائيلية الثلاث، بثت خبر المظاهرة بإسهاب. هذا بحد ذاته أمر غير اعتيادي - عادة، تتجاهل معظم المحطات مظاهراتنا، أو تمنحها ثواني معدودة على الأكثر (فيما عدا تقارير بعض المراسلين الشجعان).

في هذه المرة أيضا، لم تبذل أية وسيلة إعلام إسرائيلية، سواء أكانت التلفزيون أو الراديو أو الصحف، جهدها في أن ترسل مراسلين ومصورين إلى المظاهرة. على أية حال لم يتواجد أي مراسل إسرائيلي في مكان الحدث عند وقوع الأحداث. نشرات الأخبار في التلفزيون بثت مقاطع قامت بتصويرها شبكات التلفزة الدولية. أما المراسلون فقد بثوا ما سمعوه من الشرطة ومنا.

ويا للعجب! كل وسائل الإعلام بثت تقاريرها بصيغة موحدة تماما: المتظاهرون هم الذين بدأوا بإلقاء الحجارة، شرطيان "جُرحا وعولجا في الموقع". هذه الأكاذيب تكرّر نفسها في كل مظاهراتنا، حتى أنا تثير الشك لدي بأن هناك شرطيين هذه هي وظيفتهما، ويتم إرسالهما إلى كل المظاهرات "كجرحى تمت معالجتهم في الموقع".

تقارير الشرطة والجيش كانت كذبا فاضحا. إنهم يعرفون مسبقا بأن مظاهرتنا ستكون غير عنيفة. أنا أثق بأن لديهم عملاء في كل اجتماعاتنا، وقد تحدثنا عن التحضيرات بشكل علني عن طريق الهاتف والبريد الإلكتروني. تم نشر إعلانين عن المظاهرة المتوقع إجراؤها في صحيفة "هآرتس". من الواضح تماما أن الجيش والشرطة قد استعدوا مسبقا لقمع المظاهرة بالقوة. وإلا لم يكونوا ليحضروا الأحصنة والسيارات المصفحة مسبقا.

نحن نشهد، منذ سنوات طويلة، أكاذيب المتحدثين الرسميين، ولا شك لدي بأن كل المراسلين الذين من المزمع أن يستعرضوا ما يحدث في المناطق المحتلة على علم بذلك. صحيح أن بعض وسائل الإعلام قد أضافت جملة بما معناه "يدعي المتظاهرون، بالمقابل، أن أفراد الشرطة هم الذين بدأوا العنف"، ولكن كان التشديد أكثر على قول الشرطة أن المتظاهرين هم الذين بدأوا العنف، حيث لم يكن لدى الشرطة خيار آخر سوى الرد بالقوة.

هذه تقاليد التقرير في إسرائيل، التي تبنتها، لمزيد الأسف، وسائل الإعلام الدولية أيضا: قوى الأمن الإسرائيلية "ترد" دائما على عنف الطرف الآخر، غير أن القتلى هم في معظم الأحيان من الطرف الآخر بالذات.

 

مثال الرام يعلمنا عما يحدث في البلاد كلها: فيما يتعلق بالجيش والشرطة، فإن نشرات الأخبار وصفحات الأخبار في كافة وسائل الإعلام، ابتداء من "معاريف" وانتهاء بـ "هآرتس"، ابتداء من القناة 1 وانتهاء بالقناة 10، ما هي إلا بوق حكومي (لا ينطبق هذا على بعض المقالات الأسبوعية الشخصية والمقالات في الصفحة الخاصة بهيئة التحرير).

 

إن احتمال الضحايا في أن يحظوا بتغطية إعلامية حقيقية يكاد يكون صفرا، فالضحايا هم المذنبون دائما.

 

المصطلحات المستخدمة:

هآرتس

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات