تشير تقارير إسرائيلية متطابقة إلى أن من أبرز تداعيات الهبّة الشعبية الفلسطينية الأخيرة، تعرّض الجالية اليهودية في الولايات المتحدة إلى حملة كبيرة من النقد، على خلفية ازدياد نطاق مناهضة إسرائيل وسياستها العامة.
وقد يكون في بعض هذه التقارير قدر من المبالغة المقصودة، سواء من طرف المتبرمين من هذا النقد، أو من جانب المتحمسين له، ولكن مع تنحية هذه المبالغة جانباً، لا يجوز عدم الالتفات مثلا إلى التقرير المطوّل الذي نشرته صحيفة "يسرائيل هيوم" يوم الجمعة الأخير بهذا الشأن ونقلت فيه على لسان عدد من قادة هذه الجالية قولهم "دخلنا إلى وضع جديد". والاستنتاج الذي تركّز عليه الصحيفة فيما يتعلق بهذا الوضع الجديد، يسلّط الضوء على تطورين غير مسبوقين: الأول، وقوع اعتداءات على يهود في وضح النهار من دون أي خشية، وهذا يجري في كل أنحاء الدولة. وتربط الصحيفة تلك الاعتداءات بما تصفه بأنه تصاعد الاعتداءات والمساس باليهود على خلفية معاداة السامية. والتطور الثاني، بلغة كاتب التقرير- وهو المراسل السياسي الأبرز للصحيفة- هو أن هذه هي المرة الأولى التي يتعرض فيها اليهود في الولايات المتحدة إلى الهجوم ويتم اتهامهم بصورة جماعية بسبب ممارسات إسرائيل ضد الفلسطينيين.
حتى وإن كانت الصحيفة ترمي من وراء هذا التقرير إلى التلميح بأن هذه التطورات ستُواجه بحكومة ضعيفة في إسرائيل، أو بحكومة ليست بنفس القوة التي كانت عليها الحكومات السابقة، فإن تلك التطورات ليست منعزلة عما يمكن اعتبارهما مستجدين في الساحة الأميركية عموماً. المستجد الأول هو تغيرّ الإدارة في واشنطن وحلول إدارة أخرى محلّ السابقة التي كانت متماهية مع اليمين الإسرائيلي ومع زعيمه بنيامين نتنياهو كما يوضّح أحد مقالات هذا العدد من "المشهد الإسرائيلي". وليس هذا فحسب، بل إن من يقف على رأس الإدارة الجديدة هو رئيس كان جزءاً من إدارة الرئيس السابق باراك أوباما التي كانت هناك خلافات بارزة بينها وبين حكومات نتنياهو ولا سيما حيال الملفين الإيراني والفلسطيني. أمّا المستجد الثاني فهو مرتبط بحدوث تطوّرات داخل الحزب الديمقراطي حيال الموقف من إسرائيل ومن الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي أظهرت خلال الهبّة الأخيرة أن هناك انقساماً في صفوف ممثلي الحزب الديمقراطي في الكونغرس بين أغلبيةٍ تؤيّد إسرائيل، وأقلية لا تؤيدها، وهذه الأقلية ذات تأثير وآخذة في الازدياد، كما يشير تقرير "يسرائيل هيوم" المُشار إليه أعلاه، حيث ورد فيه أن شخصيات يهودية أميركية وجهت نقداً حاداً إلى مسؤولين كبار في الحزب الديمقراطي، بمن فيهم أعضاء يهود في الكونغرس ومجلس النواب، بسبب امتناعهم عن شجب الاعتداءات التي تعرّض لها اليهود مؤخراً، خوفاً من أن يمس ذلك بهم سياسياً وأن يؤدي إلى خسارتهم مقاعدهم.
في العدد السابق من "المشهد الإسرائيلي" ترجمنا أيضاً مقالاً لأحد الناشطين في صفوف الجالية اليهودية في الولايات المتحدة يتوقف فيه عند هذه التحولات التي لا تنحصر داخل تلك الجالية بل تتعداها إلى الخطاب الأميركي العام، وهو يتناول على نحو خاص موضوع تبدّل المصطلحات، على غرار عدم الاكتفاء بالحديث عن احتلال وإنما أيضاً عن نشوء نظام أبارتهايد، وكيف أن بعض من تطرقوا إلى آخر عملية عسكرية قامت إسرائيل بشنها في قطاع غزة فعلوا ذلك من خلال اعتبارها بأنها علامة دالّة على "تطهير عرقي" وحتى على "إبادة شعب".
وأشير في ثنايا المقال نفسه إلى أن النائبة الديمقراطية من نيويورك، ألكساندريا أوكازيو كورتيز، ألغت قبل نحو سنة ونصف السنة مشاركتها في اجتماع لمنظمة "السلام الآن" في الولايات المتحدة حين نما إلى علمها أن الاجتماع يحيي ذكرى اغتيال رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق إسحاق رابين. ووفقاً لما ذكره كاتب المقال، فإن رابين هو في النهاية رجل أبيض مُسن، إرثه الأساس هو العنف ضد الفلسطينيين. أما كونه حائزاً على جائزة نوبل للسلام، وكونه اغتيل خلال محاولته تغيير الواقع في الشرق الأوسط، فلم يسعفاه لتطهير اسمه. ولفت في الوقت عينه إلى أن المنظمات التي تتبنى مصطلحات مشحونة مثل "تطهير عرقي" و"إبادة شعب"، اختارت بشكل واضح التنازل عن السلام كهدف سياسي أو كرؤية للعلاقات المطلوبة بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وفي قراءته "حين يتم تقديم صراع مُركب من خلال بنية قامعين ومقموعين فقط، لا تبقى هناك إمكانية للتحدث عن سلام بل فقط عن نضال للتحرر".
لعل التحصيل الأخير الذي يمكن أن نخرج به من كل ما تقدّم، وإن في عجالة، هو أن ثمة تغيّرات في الولايات المتحدة وخصوصاً في صفوف الحزب الديمقراطي لمصلحة قضية فلسطين والشعب الفلسطيني، وليس مبالغة أبداً وصفها بأنها جديدة. غير أن السؤال الذي يبقى مطروحاً هو فيما إذا كانت تغيّرات جادّة، وستؤثر في تبديل مقاربة الولايات المتحدة لهذه القضية في المستقبل؟