المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
دبابة إسرائيلية في جنوب لبنان. (صحف)
  • كلمة في البداية
  • 56
  • أنطوان شلحت

تشهد إسرائيل، منذ أن أعلنت الحكومة أنها ستحتفظ بوجود عسكري مستمر في 5 نقاط في لبنان مع دخول موعد انسحاب الجيش الإسرائيلي من الأراضي اللبنانية حيّز التنفيذ بموجب اتفاق وقف إطلاق النار بين الدولتين المبرم في يوم 27 تشرين الثاني 2024، جدلاً في هذا الشأن يمكن القول إن مرده الرئيس هو تجربة ما عُرف باسم الحزام الأمني في الجنوب اللبناني والذي أقامته إسرائيل بعد حرب 1982 على لبنان، وبقيت تحتله مدة 18 عاماً وانسحبت بعدها منه بصورة أحادية الجانب في أيار 2000 في إبان ولاية حكومة إيهود باراك (1999- 2001).

كذلك أعاد هذا الجدل الخلاصة التي يصعب العثور على من يفنّدها في أوساط المحللين العسكريين والمسؤولين الأمنيين السابقين، وفحواها أن ذلك الحزام الأمني ليس فقط لم يوفّر الأمن للمستوطنات الحدودية الشمالية، بل أيضاً حوّل الجيش الإسرائيلي في "الحزام" إلى هدف للضربات المباشرة. وبموازاة ذلك أقيمت حركة "أربع أمهات" (وهي حركة لأمهات جنود إسرائيليين طالبت بالانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان) والتي أسفر نشاطها عن جعل الاهتمام بالحفاظ على حياة الجنود الإسرائيليين يتصدّر جدول الأعمال العام بدلاً مما يزعم أنه الأمن القومي. وطوال الفترة، التي بقي فيها الجيش مرابطاً هناك كانت الأسئلة المطروحة هي: ما الذي تفعله إسرائيل في جنوب لبنان؟ وعمن يدافع الجيش الإسرائيلي هناك؟ وهل يدافع فعلاً عن المستوطنات الحدودية الشمالية؟

وما تبين، في نهاية الأمر، أن الجنود الإسرائيليين كانوا يدافعون عن أنفسهم فقط.  وكشف المراسل العسكري لصحيفة "معاريف"، أخيراً، عن أنه في نهاية كل شهر كانت "الفرقة 91" تجري تلخيصاً لعدد القتلى من الجنود معتبرة أن استقرار هذا العدد عند معدل 12 جنديّاً قتيلاً في الشهر يُعدّ "مقبولاً" ويمكن استمرار التعايش معه. وفي قراءة هذا المراسل نفسه، فإن اتجاه القيادة السياسية والعسكرية في إسرائيل نحو تكرار تجربة الحزام الأمني هو بمثابة خيار واع لاستئناف ما يوصف بأنه المستنقع اللبناني الذي غرقت فيه إسرائيل نحو عقدين. وفي حال الاتجاه أيضاً نحو إقامة حزام أمني آخر في قطاع غزة، فإن هذه القيادة كما لو أنها تعرض على الأمهات في إسرائيل الاختيار بين غرق أبنائهن الجنود في المستنقع اللبناني أو غرقهم في المستنقع الغزيّ.

وبموجب قراءات إسرائيلية عديدة، فإن الحرب الإسرائيلية على لبنان في 1982 كانت موضع خلاف سياسي كبير في إسرائيل، ولكن من نتائجها الأبرز خروج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت، في أيلول 1982. كما كانت آخر حرب يتم فيها تفعيل قوات عسكرية برية كبيرة من أجل احتلال أراض وإحراز هدف سياسي. غير أن دوافع استمرار سيطرة الجيش الإسرائيلي على "الحزام الأمني" في جنوب لبنان لم تكن، في حينه، منطوية على أي قيمة استراتيجية محدّدة، أو على أي دلالة تكتيكية. وقد قيل إن أهمية "الحزام" كامنة في منع قوات معادية من التسلل إلى إسرائيل، في حين أن مثل هذه القوات لم تكن موجودة في ذلك الوقت، أمّا في ما يتعلق بصواريخ الكاتيوشا فإن وجود "الحزام الأمني" لم يسفر عن وقفها قطّ.

وما نلاحظه الآن، في سياق التعقيب على قرار الاحتفاظ بخمس نقاط ضمن منطقة محدودة على طول الحدود، هو ما يلي:

أولاً، مثلما أشرنا أعلاه ثمة شبه اتفاق بين المحللين العسكريين الإسرائيليين وكذلك المختصين في الشؤون اللبنانية على أن إقامة مواقع عسكرية من جديد سبق أن انسحب منها الجيش الإسرائيلي قبل 25 عاماً، هي "خطأ سنندم عليه طويلاً"، حسبما كتب المحلل العسكري لصحيفة "معاريف" آفي أشكنازي (18/2/2025). وبرأيه، في إمكان الجيش الإسرائيلي توفير الشعور بالأمن لسكان الشمال، ولكن هذا لا يتحقق من خلال إقامة مواقع عسكرية في ما وصفه بأنه "الوحل اللبناني"، بل يتحقق عند وقت الاختبار، في حال وقوع هجوم مثل الهجوم الذي وقع في منطقة الحدود مع قطاع غزة يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023.

وأعاد هذا المحلل العسكري إلى الأذهان أنه سبق للجيش الإسرائيلي أن علِق هناك (في جنوب لبنان) طوال 18 عاماً. ولقد أقام منطقتين أمنيتين في لبنان، لكن سرعان ما اتضح أن "المنطقة الأمنية" التي كان الغرض منها الدفاع عن المستوطنات في الشمال، تحولت إلى فخّ للجنود الإسرائيليين الذين خدموا في هذه المواقع.

وهذا ما تؤكده كذلك ورقة تقدير موقف صادرة عن "معهد أبحاث الأمن القومي" في جامعة تل أبيب إذ تشدّد، بعد أن تعلن أن مصلحة إسرائيل تقضي بالاستمرار في إضعاف حزب الله، وصولاً إلى نزع سلاحه وتعزيز الدولة اللبنانية تحت قيادتها الجديدة، على أن من واجب إسرائيل السعي لتقصير فترة سيطرتها على النقاط الخمس، ونشر قوات الجيش الإسرائيلي على طول الخط الأزرق (خط الحدود) في أقرب وقت ممكن. كذلك يتعيّن على إسرائيل أن توضح، منذ الآن، أن وجودها في هذه النقاط مؤقت، وأنها ستنسحب منها عندما ينجح الجيش اللبناني في الانتشار في كل المنطقة، وفي إثبات قدرته على مواجهة التحدي الذي يشكّله حزب الله. وفي عرف ورقة تقدير الموقف هذه، فإن الخروج الإسرائيلي الكلي من لبنان قد يعزز تأييد الولايات المتحدة وآخرين لاستمرار عمليات الجيش الإسرائيلي ضد الخروقات والتهديدات من طرف حزب الله، وفق ما يسمح به الاتفاق، وخصوصاً في الحالات التي لا يعالجها الجيش اللبناني (أورنا مزراحي، 19/2/2025).

ثانياً، لا تعارض أبواق اليمين الإسرائيلي المتطرّف، التي تعبّر عن مواقف الحكومة الحاليّة، التحليلات التي تؤكد عدم جدوى الاحتفاظ بالنقاط الخمس والتي ستكون بمثابة عيون إسرائيل على الجنوب اللبناني. وبحسب أحد هذه الأبواق، فإن المقصود هو خمس نقاط للسيطرة فقط. وليست هناك سيطرة إسرائيلية فعلية على المنطقة كلها. ولا توجد هناك منطقة أمنية، بل مُجرّد نقاط معزولة. صحيح أنها مشرفة على إطلاق النار من بعيد، لكن ليس هناك أيّ وجود برّي إسرائيلي في المنطقة كلها. ولمَن نسيَ، فإن المنطقة الأمنية في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، فقدت نجاعتها في اللحظة التي لم تعد منطقة أمنية فعلاً، وتحولت إلى مجموعة من المواقع، يجري الانتقال بينها بالمركبات المدرعة (حجاي هوبرمان، "القناة السابعة"، 19/2/2025).

ولعلّ أكثر ما يثير الاهتمام في هذا الموقف هو تحفّظ هذا اليمين المتطرّف على إيقاف الحرب في لبنان قبل تحقيق "النصر المطلق" على حزب الله، بما في ذلك السيطرة من جديد على منطقة أمنية في شمال منطقة الحدود مع إسرائيل، وأن تكون هذه المرة خالية من السكان.

كذلك ثمة تلميح إلى أن من أسباب وقف الحرب، التي توصف مثلما سبق أن نوهنا بأنها حرب لبنان الثالثة، سبب يعود إلى ضغوط مارسها الرئيس ترامب الذي يرفع شعار سياسة إنهاء الحروب في العالم كله، بينما كان يجب في مواجهة ذلك إقناع ترامب بأن وقف الحرب الآن "يعني عودة عناصر حزب الله إلى الحدود، تحت جناح الجيش اللبناني الذي لا يخفي تعاونه معهم، وتحت حماية المدنيين الأبرياء العائدين إلى قراهم، وأن ثمن ذلك سيكون حرباً قاسية في المستقبل". وبموجب هذه الرواية ما زال حزب الله في الجنوب اللبناني يمتلك سلاحاً صاروخياً وبنى تحتية في القرى والبلدات التي لم تجرِ فيها مناورة برية. وثمة شك كبير في أن يعمل الجيش اللبناني ضد حزب الله، حسبما ورد في قرار الأمم المتحدة. ومَن سيضطر إلى القيام بذلك هو الجيش الإسرائيلي.

ثالثاً، بالنسبة إلى المستقبل فإن ما يروّج له اليمين المتطرّف، كما يستدل مما يكتبه أبواقه، هو أنه من المحتمل أن يتحرّك حزب الله ضد الجيش الإسرائيلي في النقاط الخمس التي سيواصل السيطرة عليها، وهذا سيشكل أساساً للحرب المقبلة. وبلغة أحد الأبواق: لقد انتهت حرب لبنان الثالثة، وبدأ العد العكسي لحرب لبنان الرابعة!

المصطلحات المستخدمة:

القناة السابعة, باراك, الكاتيوشا

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات