سارعت أبواق اليمين الحاكم في إسرائيل إلى تفكيك خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب وإلى إعادة ترتيبها من أجل ملاءمتها لمعتقدات هذا اليمين لا فيما يتعلق بقطاع غزة ومستقبله فحسب إنما أيضاً فيما يمكن أن تنطوي عليه من تداعيات على مستقبل القضية الفلسطينية عموماً، كما سنوضح في هذه الوقفة.
ولعل الخلاصة الأكثر أهمية من طرف هذه الأبواق، والتي يمكن اعتبارها خلاصة رغبية، تتمثل في أن هذه الخطة تعطي الضوء الأخضر للحكومة الإسرائيلية الحاليّة ورئيسها بنيامين نتنياهو لعدم التراجع عن "النتيجة النهائية المشتهاة للحرب على غزة"، مثلما أكد الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي والرئيس الحالي لـ"معهد مسغاف للأمن القومي والاستراتيجيا الصهيونية" اليميني، مئير بن شبات ("يسرائيل هيوم"، 5/2/2025) والذي أضاف أنه في ظل رئاسة ترامب لن تسمح إسرائيل لنفسها بأن تتنازل أو حتى أن تساوم على نتيجة الحرب في غزة والتي ينبغي أن تكون وفقاً لأقواله "تفكيك سلطة حماس، ونزع قطاع غزة من أي مقدرات عسكرية، وإيجاد ظروف تضمن ألا تصدر عنه أي أخطار تشكّل تهديدات لأمن إسرائيل وسكانها في المستقبل"، مؤكداً أن هذه النتيجة حيوية من أجل ضمان أن تكون الحرب الحالية بمثابة جولة القتال الأخيرة.
ما يمكن الاستدلال عليه من هذا الكلام هو أن الأوساط المقربة من نتنياهو استنتجت من خطة ترامب أن لديها تفويضاً لمواصلة شن الحرب على غزة، مثلما عبر عن ذلك أيضاً وزير الدفاع يسرائيل كاتس، الذي تؤكد التحليلات الإسرائيلية في شبه إجماع على أنه "الضارب الأكبر بسيف نتنياهو". فقد أكد كاتس، تعقيباً على خطة ترامب، أنها بمثابة تفويض لإسرائيل من أجل استمرار الحرب بعد انتهاء مفعول اتفاق وقف إطلاق النار منوّهاً بأن "حرب غزة الجديدة ستكون مغايرة في قوتها من تلك التي شنتها إسرائيل قبل وقف إطلاق النار، ولن تنتهي إلا بحسم حركة حماس وإطلاق كل المخطوفين، وسوف تتيح أيضاً إمكان تطبيق رؤيا رئيس الولايات المتحدة بالنسبة إلى غزة". وبحسب أحد التحليلات (عيناف شيف، "يديعوت أحرونوت"، 17/2/2025) يحاول كاتس إيهام الرأي العام بأن الحرب على غزة كانت حتى الآن أخف قوة وعدوانيّة، وذلك للتغطية على الفشل الذريع الذي منيت به فيما يخص تحقيق هدفي تفكيك سلطة حماس، وإطلاق المخطوفين. غير أن ما ينبغي أن يثير الذهول برأيه هو أن وزير الدفاع أضاف هدفاً جديداً للحرب التي وصفها بأنها "جديدة" وهو "تطبيق رؤيا رئيس الولايات المتحدة بالنسبة إلى غزة"، ويعني ذلك بلغة صريحة تطبيق خطة الترانسفير التي تتعارض مع القانون الدولي والأخلاق الإنسانية، وتستلزم ارتكاب جرائم حرب.
فضلاً عن هذه الخلاصة بشأن خطة ترامب التي طرح من خلالها فكرة استيلاء الولايات المتحدة على غزة، وكذلك طرح اقتراحاً يقضي بترحيل الفلسطينيين إلى دول مجاورة وإعادة تطوير المنطقة المتضرّرة وتحويلها إلى "ريفييرا الشرق الأوسط"، ركزت التحليلات الإسرائيلية على ما يلي:
أولاً، إذا ما تمحورنا في ردات الفعل الصادرة عن أبواق اليمين الحاكم فلا بُدّ من الإشارة إلى تشديدها على أن خطة ترامب تشكّل تغييراً في السياسة الأميركية بشأن كل ما يخص الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي وقواعد اللعبة المتّبعة لحلّه ("حلّ الدولتين لشعبين").
وبحسب ما كتب البروفسور إفرايم عنبار، الرئيس السابق لـ"معهد القدس للاستراتيجيا والأمن" (يميني)، والعميد في الاحتياط يوسي كوبرفاسر، الرئيس الحالي للمعهد والرئيس السابق لقسم الأبحاث في شعبة الاستخبارات العسكرية ("أمان")، تشكّل خطة ترامب اعترافاً لأول مرة بأن حل الدولتين لم يعد الحل الوحيد الممكن للصراع (وذلك بعكس خطة ترامب الأصلية، في إشارة إلى "صفقة القرن")، وحتى لو لم تقدَّم الخطة بهذه الصفة، فإنها تنطوي على رسالة فحواها أن على الفلسطينيين، كونهم الطرف المعتدي، أن يدفعوا ثمن الحرب التي خسروها. كما أن تضافُر أفكار ترامب مع الخطوات التي اتخذتها الولايات المتحدة وإسرائيل ضد وكالة الأونروا يدل على أن خطة ترامب غيّرت قواعد اللعبة ضد الفلسطينيين بصورة تضعف روايتهم بشأن النضال ضد الصهيونية والانتصار عليها. وحتى لو لم ينجح ترامب في تأمين الأوضاع من أجل تحقيق خطته، فإن اقتراحه يفرض على الفلسطينيين والدول العربية اقتراح وسائل عملية لمواجهة الواقع الصعب في غزة، يكون مقبولاً من إسرائيل والولايات المتحدة. وعلى الهامش، فقد تأكد مرة أُخرى إلى أي حدّ أن أوروبا والمجتمع الدولي لم يعودا ذوي صلة بحل الصراع (موقع قناة التلفزة الإسرائيلية 12، 12/2/2025).
ولكن ردات فعل أخرى ارتأت أنه لا تزال تنقص الخطة "الآليات الواضحة لتطبيقها بشكل فعلي"، مثلما أكدت ورقة تقدير موقف صادرة عن "معهد أبحاث الأمن القومي" في جامعة تل أبيب (11/2/2025). والسؤال المركزي الآن هو عمّا إذا كان العالم العربي والمجتمع الدولي على استعداد للدفع قدماً بهذا الحل، وإذا ما كان سكان قطاع غزة أنفسهم يرون في هذا الحل فرصة حقيقية لتحسين ظروف حياتهم، أو يستمرون في النظر إليه على أنه محاولة لإضعاف الهوية القومية الفلسطينية وحق الفلسطينيين في تقرير المصير؟ وهو ما يحدث فعلاً.
ثانياً، أثارت خطة ترامب تفاعلاً في الساحة السياسية الإسرائيلية وسط ترحيب كبير بدعوته إلى تهجير سكان قطاع غزة إلى دول أُخرى. ففي معسكر اليمين المتطرّف صرّح وزير الأمن القومي السابق إيتمار بن غفير (رئيس حزب "عوتسما يهوديت") بأن فرص عودة حزبه إلى الحكومة زادت كثيراً الآن. وقال بن غفير إن الكرة في ملعب نتنياهو، وإذا ما بدأ بتطبيق أفكار ترامب حول ترحيل سكان قطاع غزة، فإنه سيجده إلى جانبه. وكان بن غفير استقال من منصبه بحجة رفضه الصفقة الأخيرة التي جرى التوصل إليها مع حركة حماس، لكنه أبقى الباب مفتوحاً أمام احتمال العودة لاحقاً، وقد تُعزز تصريحات ترامب هذا الاحتمال.
وقال وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش (رئيس حزب "الصهيونية الدينية") إن الخطة التي عرضها الرئيس الأميركي دونالد ترامب هي الجواب الحقيقي على هجوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، ومَن قام بهذا الهجوم المروع سيجد أنه يفقد أرضه إلى الأبد. وأضاف سموتريتش أنه يجب دفن فكرة الدولة الفلسطينية نهائياً، وأكد ضرورة عدم المس بحكومة اليمين.
لئن كانت ردات الفعل من جانب بن غفير وسموتريتش متوقعة، فإن ردات فعل معسكر الوسط الذي في صفوف المعارضة أثارت الامتعاض لدى البعض، حيث قال رئيس "المعسكر الرسمي"، عضو الكنيست بيني غانتس، إن تصريحات الرئيس ترامب دليل آخر على التحالف العميق بين الولايات المتحدة وإسرائيل. وأضاف: "أظهر الرئيس ترامب، وليس لأول مرة، أنه صديق حقيقي لإسرائيل، وسيواصل الوقوف إلى جانبها في القضايا المهمة لتعزيز أمنها. وفي تصريحاته، قدم تفكيراً إبداعياً، أصلياً ومثيراً للاهتمام، يجب دراسته إلى جانب تحقيق أهداف الحرب، وإعطاء الأولوية لإعادة جميع المخطوفين". أمّا رئيس حزب "يوجد مستقبل" وزعيم المعارضة عضو الكنيست يائير لبيد، فقال: "ما زلنا لا نفهم تماماً تفاصيل القنبلة التي ألقاها ترامب، لكن بشكل عام كان مؤتمره الصحافي جيداً جداً لإسرائيل".
ومن هذا البعض الذي ثار امتعاضه المؤرخ الإسرائيلي ألكسندر يعقوبسون الذي أكد أن معسكر الوسط الإسرائيلي هو الذي مرّ بالاختبار حيال فكرة ترامب بشأن الترانسفير، وكان فشله السياسي والأخلاقي مدوّياً ("هآرتس"، 10/2/2025).
وفي جميع الأحوال، بموجب ما أكد يعقوبسون، فإن أحزاب الوسط الإسرائيلي ليست هي التي تدير الدبلوماسية في الشرق الأوسط. وواجبها الأساسي يبقى إزاء الرأي العام الإسرائيلي. ويتعيّن عليها ألّا تقدم أي شرعية مبدئية لفكرة الترانسفير. وختم قائلاً: "سينكر زعماء الوسط أنهم فعلوا ذلك، وسيدعون أنهم لم يفعلوا ذلك علناً، ولكن سيجري استخدام ما قالوه، وما امتنعوا من قوله، بصورة سلبية جداً. من جهتنا يجب ألّا نساعد على تعزيز وهم خطِر في السياسة الإسرائيلية ينطوي على خطر وجودي في المدى البعيد، وهو الوهم أن في استطاعة إسرائيل الاحتفاظ بأراضٍ، من دون سكان هذه الأراضي".
المصطلحات المستخدمة:
الصهيونية, بتسلئيل, يديعوت أحرونوت, هآرتس, يسرائيل هيوم, الكنيست, بنيامين نتنياهو, يسرائيل كاتس, يائير لبيد