لا ريب في أننا سنكتب مزيداً من المقالات عن عملية "طوفان الأقصى" التي كانت عبارة عن هجوم مباغت شنته حركة "حماس" على منطقة المستوطنات الإسرائيلية المحاذية لقطاع غزة والمعروفة باسم "غلاف غزة" يوم 7 تشرين الأول 2023 واستجرّت على الفور إعلان إسرائيل الحرب على القطاع تحت مُسمّى "السيوف الحديدية" وهي ما زالت مستمرة حتى الآن، ولا سيما من زاوية تناولها إسرائيلياً وما تنطوي عليه من تداعيات شتّى.
ما بالوسع قوله في الوقت الحالي هو أنه بمنأى عن الإجماع الإسرائيلي على ضرورة شنّ الحرب ضد قطاع غزة ردّاً على تلك العملية، وعلى وجوب أن تكون غايتها القضاء على حركة "حماس"، فإن الكثير من التحليلات الإسرائيلية المتعلقة بأول تداعيات العملية حدّدت تأثيرين قد يكونان حاسمين في مسار إسرائيل، بما في ذلك ما يرتبط بالصراع مع الفلسطينيين:
الأول، سقوط الاستراتيجيا الإسرائيلية حيال "حماس" والتي وقفت في صلبها غاية تكريس الانقسام الفلسطيني السياسي والجغرافي بغية تجييشه لمنع إقامة دولة فلسطينية، مثلما لا ينفك رئيس الحكومة الإسرائيلية وزعيم اليمين الإسرائيلي الحاكم بنيامين نتنياهو يؤكد صباح مساء. وبالإمكان إيراد نماذج كثيرة بشأن هذا الاستنتاج أبرزها، على سبيل المثال، ما أشار إليه الكاتب الإسرائيلي ديفيد غروسمان، وأستاذ العلاقات الدولية المتخصص في شؤون الأمن القومي أوري بار يوسف.
فقد سخر غروسمان من اتفاقيات التطبيع التي وقعتها إسرائيل مع بعض الدول العربية وكانت تسعى في الآونة الأخيرة لتوسيعها بحيث تشمل المملكة العربيّة السعودية وغابت عنها القضية الفلسطينية، ما جعل رئيس الحكومة نتنياهو يتباهى بتمكنه من بتر العلاقة بين هذه القضية وسيرورة تطبيع علاقات إسرائيل مع الدول العربية. وشدّد غروسمان على أن هذا التطبيع يقفز عن لبّ الصراع في منطقة الشرق الأوسط، وهو القضية الفلسطينية، وجاءت أحداث الأيام الأخيرة المرتبطة بآخر مستجدات الأوضاع في قطاع غزة كي تثبت مرة أخرى أنه "لا يمكن مداواة المأساة الشرق أوسطية من دون اقتراح تسوية تخفّف من معاناة الفلسطينيين"، طبعاً من دون أن يدخل في تفاصيل تلك التسوية.
أمّا بار يوسف فكتب يقول إنه عندما يتحدث نتنياهو عن الثأر، ويتسابق كل المحللين في استوديوهات قنوات التلفزة على العربدة والدعوة إلى احتلال قطاع غزة وإبادة "حماس"، يجدر أن نتذكر أن الصراع مع الفلسطينيين هو صراع طويل ومرير. وهم لن يتنازلوا عن تطلعهم إلى إقامة دولة مستقلة، وإننا ندرك الآن بشكل أفضل الثمن الباهظ لاستمرار الصراع. ولا شك برأيه في أن الحل في نهاية المطاف يكمن في إنهاء الاحتلال، وتقسيم البلد على أساس خطوط 1967 من خلال الحفاظ على قوة الجيش الإسرائيلي وتطويرها تأهباً ليوم الحساب.
التأثير الثاني لعملية "طوفان الأقصى" الذي قد يكون حاسماً وفقاً لبعض القراءات الإسرائيلية هو توجيه ضربة إلى صميم الصورة التي بنتها إسرائيل لنفسها في العالم فيما يتعلق بوعود معناها كدولة متقدمة في مجال الاستخبارات وتكنولوجياته الأحدث، وفي إنتاج الصناعات الأمنية، بما في ذلك الذخائر الهجومية والدفاعية.
فمثلاً، حتى عملية الهجوم تباهت إسرائيل بأن الجدار الأمني الذي أقامته في منطقة الحدود مع قطاع غزة لا يمكن اختراقه. وأشير في هذا الصدد إلى أنه جدار مُدجّج بأجهزة تكنولوجية متطورة ومليء بأسلاك شائكة وكاميرات وأجهزة استشعار، ومُحصّن بقاعدة خرسانية ضد الأنفاق ومدافع رشاشة يتم التحكم فيها عن بعد. وكتب محلّل الشؤون الأمنيّة الإسرائيلي رونين برغمان في "نيويورك تايمز" أن مصدريْن أمنييْن إسرائيلييْن رفيعي المستوى قالا للصحيفة الأميركية إن منظومة المراقبة استندت، تقريباً فقط، إلى الكاميرات وأجهزة الاستشعار عن بُعد وإلى منظومة "يرى - يُطلق النار" التي تُفعّل عن بُعد. واعتقد المسؤولون الكبار في الجيش أن الدمج ما بين منظومة المراقبة عن بُعد، وبين الجدار الصلب، والحاجز تحت الأرض لمنع الأنفاق التي تمرّ من تحت الجدار، سيحوّل اختراق الحدود نحو إسرائيل إلى غير ممكن تقريباً، ويقلّل الحاجة إلى عدد كبير من الجنود الموجودين في القواعد العسكرية. ونقلت وسائل إعلام إسرائيلية عن امرأة من كيبوتس "بئيري" القريب من قطاع غزة والذي عثر فيه على عشرات جثث القتلى قولها: "عندما أقاموا الجدار اعتقدنا أننا آمنون. وما يتبين الآن أن ذلك كان مُجرّد وهم". وكان تقرير لمركز مدار حول هذا الموضوع أشار إلى وجود مؤشرات إلى أن المكانة التي بنتها إسرائيل في الأسواق العالمية فيما يتعلق بصناعة وتسويق وبيع تكنولوجيا جدران الفصل، أخذت بالتداعي في إثر هجوم "حماس"، ومن المتوقع أن يعود الأمر على إسرائيل ليس فقط بخسائر مادية وإنما أيضاً بخسائر تتعلق بمكانتها المرموقة في هذه الصناعات. وهو ما ينسحب أيضاً على صناعات أمنية أخرى.
ولكي نكمل الدائرة نشير إلى ما كتب في موقع "إزرائيل ديفنس" الإسرائيلي المتخصّص في الشؤون الأمنية بأنه من وجهة نظر الصناعات الأمنية، أدّى الهجوم المباغت لـ"حماس" إلى سحب البساط من تحت أقدام الوعود البراقة التي منحتها هذه الصناعات إلى الرأي العام الإسرائيلي وإلى الكثير من الزبائن في الخارج. وأضاف أنه يجب التفكير منذ الآن بالزبائن الذين اقتنوا مثل هذه المنتجات كوسائل دفاعية عن الحدود واستشراف ما الذي يعتقدونه في ضوء ما شاهدوه من أعمال قتل في منطقة الحدود مع قطاع غزة. صحيح أن الصناعات الأمنية يمكن أن تتهم الجهة المستخدمة وأن تدعي أن منظومة الدفاع عن الحدود هي التي مُنيت بالفشل في ساعة ضغط ويمكن الافتراض بأن هذا سيكون خط الدفاع الأول في الخارج، ومع ذلك فإن الزبائن في الخارج وخبراء الأمن والعسكرة والمنظمات شبه العسكرية ليسوا سُذّجاً.
ويختم الموقع تعليقه بهذا الخصوص قائلاً: إن الزبون الذي اقتنى أو يرغب باقتناء هذه التكنولوجيات الدفاعية سيسأل نفسه: "ما الذي سيحدث عندي عندما يركّز العدو قوات بهذه السرعة وبكميات كبيرة وينقض عليّ؟". وهو نفسه رأى ماذا حدث للجيش الأفضل في العالم (المقصود الجيش الإسرائيلي) وبات يسأل ما الذي يمكن أن يجري لجيش هو أسوأ قليلاً من هذا الجيش؟
ليس مبالغة القول إن الأسئلة التي تسبّب هجوم "حماس" بطرحها حتى الآن سبق أن طُرحت في الماضي، غير أن ما يتحكم في محاولات الإجابة عنها هي مقاصد الذين يطرحونها والتي تتشكّل وتتنوع وفقاً لانتماءاتهم وقناعاتهم، ومن المهم مواصلة تعقبها.