المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • كلمة في البداية
  • 1511
  • أنطوان شلحت

ما زالت أصداء التصريحات التي أدلى بها الرئيس السابق لجهاز الموساد الإسرائيلي تامير باردو إلى وكالة "أسوشيتد برس" الأميركية للأنباء، الأسبوع الفائت، والتي أكد فيها أن إسرائيل تطبّق نظام الفصل العنصري (أبارتهايد) في مناطق الضفة الغربية المحتلة، تتداعى وتقسّم الرأي العام الإسرائيلي بين مؤيّد لها أو معارض.  

من ناحية وقائعية، قال باردو، الذي شغل منصب رئيس الموساد بين الأعوام 2011 و2016: "ثمة دولة فصل عنصري هنا. إن الدولة التي يخضع فيها شعبان إلى نظامين قانونيين هي دولة فصل عنصري بامتياز". وشدّد على أن موقفه هذا هو مجرّد توصيف لحقيقة بسيطة. وأضاف أنه بصفته رئيساً للموساد حذّر رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو مراراً من أنه بحاجة إلى تحديد حدود إسرائيل وإلا فـ "سيخاطر بتدمير دولة اليهود"، على حدّ تعبيره.

ووفقاً لـ "أسوشيتد برس" فإن مجموعة من القادة والدبلوماسيين ومسؤولي الأمن الإسرائيليين السابقين حذرت في السابق من أن إسرائيل تخاطر بالتحوّل إلى دولة فصل عنصري، غير أنها في الوقت عينه أكدت أن لغة باردو في التحذير كانت أكثر حدّة، وشدّدت على أنه نظراً لخلفيته الاستخباراتية فإن تصريحاته تحمل وزناً خاصاً في إسرائيل المهووسة بالأمن.

ومن بين  المسؤولين الأمنيين السابقين أشير على نحو خاص إلى النائب السابق لرئيس جهاز الموساد عميرام ليفين، الذي وجّه الشهر الفائت انتقادات شديدة اللهجة إلى حكومة نتنياهو، في ضوء خطة إضعاف الجهاز القضائي، مشيراً إلى أن ما تشهده الضفة الغربية بعد 56 عاماً من الاحتلال هو أبارتهايد مُطلق، وإلى أن الجيش الإسرائيلي بدأ بالتورّط في جرائم الحرب وفي عمليات عميقة تذكّر بالعمليات التي حدثت في ألمانيا النازية. وتابع ليفين في تصريحات أدلى بها إلى قناة التلفزة الإسرائيلية 12، أنه لدى قيام المرء بجولة في مدينة الخليل سيصادف شوارع لا يستطيع العرب السير فيها، وهذا أمر مؤلم وغير سارّ ولكنه الواقع. وأكد أنه يتعيّن على الإسرائيليين التعامل مع هذا الواقع بالرغم من صعوبته وعدم تجاهله كأنه لا يعنيهم.

وفي سياق مقابلة أخرى أجرتها إذاعة "كان 11" الإسرائيلية الشهر الفائت أيضاً، قال ليفين، الذي شغل كذلك منصب قائد المنطقة العسكرية الشمالية في الجيش الإسرائيلي وقائد وحدة النخبة "سييرت متكال"، إن الجيش الإسرائيلي لا يعاني من أضرار لحقت بجهوزيته بسبب رفض جنود تشكيلات الاحتياط الخدمة العسكرية احتجاجاً على التعديلات القضائية فحسب، بل أيضاً لأنه فاسد في جوهره نتيجة وجوده المستمر في الضفة الغربية. وتابع: "إن الجيش يقف جانباً وينظر إلى المستوطنين مثيري الشغب، وبذا بدأ في أن يكون شريكاً في جرائم حرب... هذا أسوأ عشر مرات من مسألة جهوزية الجيش… أقول بصراحة: أنا لست غاضباً من الفلسطينيين، بل غاضب منا نحن. إننا نقتل أنفسنا من الداخل".

وسأل المحاور ليفين ما إذا كان يوافق مع ما ورد في خطاب ألقاه في أيار 2016 عضو الكنيست السابق عن حزب ميرتس يائير غولان، عندما كان نائباً لرئيس هيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي، وقال فيه إن ما يحدث في إسرائيل مشابه لبعض التطورات التي شهدتها أوروبا في الأعوام التي سبقت الهولوكوست، فردّ ليفين قائلاً: "إننا نجد صعوبة في قول ذلك، ولكن هذه هي الحقيقة. أنظر من حولك في الخليل، أنظر إلى الشوارع التي لا يمكن للعرب استخدامها، وهي لليهود فقط... هذا بالضبط ما حدث في بلدان كهذه". وبعد الضغط عليه ليقول ما إذا كان يرى صراحة أوجه تشابه بين إسرائيل وألمانيا النازية، قال ليفين: "بالطبع. هذا مؤلم وليس لطيفاً، ولكن هذا هو الواقع. ومن الأفضل التعامل معه حتى لو كان صعباً وعدم تجاهله".

تثير المحاججات الإسرائيلية الحالية والسابقة بهذا الشأن مسألتين ثمة حاجة للالتفات إليهما: المسألة الأولى تتعلّق بتعريف القضية الفلسطينية، سواء على الصعيد الذاتيّ أو من خلال تعريف الآخر. ويمكن القول في هذا الصدد إنها   آخر قضية استعمارية غير محلولة وتتجلّى في الوقت الحالي على شكل نظام أبارتهايد، وبالتالي فهي في الآن نفسه قضية تحرّر من واقع الاحتلال والشتات والتمييز العنصري.

أمّا المسألة الثانية فهي متعلقة من ألفها إلى يائها بالواقع الإسرائيلي نفسه والجدل القائم فيه، إذ إن تلك المحاججات أعادت طرح موضوع شرعية المقارنات بين ما تقوم به إسرائيل وما ارتكبته أنظمة ظلامية على مرّ التاريخ ولا سيما النظام النازيّ في ألمانيا، على جدول الأعمال.

وربما هنا ينبغي أن نعيد إلى الأذهان أنه قبل عدة أعوام نوّه الكاتب الإسرائيلي ب. ميخائيل بأن المقارنة مع أحداث سابقة مرعبة هي أمر مرغوب فيه، بل هي أمر مطلوب. فكيف يمكن أن نشاهد كل ما نشهده من ممارسات ضد الفلسطينيين، والتي تشبه الممارسات ضد اليهود في إبان الفترة النازية، وأن لا نصاب بالذعر وأن لا نقارن؟

وبرأيه تنسحب المقارنة على عدة مضامير، ومنها مثلاً "مشروع الاستيطان" في الضفة الغربية، والذي يتبيّن لدى مقارنته بمشروع الاستيطان النازي أنه نفس الخليط من النهب والإثم، والاستبداد العسكري والدعاوى السماوية، وبلطجية المذابح وشراهة الزراعة والرعي. وهو نفس عالم الأبارتهايد الذي توجد فيه أقلية متغطرسة ومدللة ومرعية من طرف جيش خاص بها توجد له إمكانيات مالية ضخمة، تسيطر على أغلبية كبيرة من المقهورين الذين لا توجد لهم أي مكانة أو أي حقوق، وأملاكهم مباحة، ودماؤهم مهدورة، وثمة قدر كبير من الإهانة، والتنكيل، والسلب والنهب، والتدمير والترهيب، وكل ذلك هو روتين يومي. ويحدث هذا كله من أجل هدف واحد غير مخفيّ: تنغيص حياتهم إلى أن يذهبواً أخيراً في مهبّ الريح ويتركوا وراءهم بلادهم نقية الدم والدين.
"فهل يمكن أن نشاهد كل ذلك وأن لا نتذكر ونقارن؟"، تساءل ب. ميخائيل، وأضاف: أن نقارن مع "الحكومة العامة" ("جنرال غوفرنمان") التي أقامها الألمان في سبيل مجد "مشروعهم الاستيطاني" في المناطق الشرقية المحتلة (بولندا). وأن نقارن مع روتين التنكيل الوحشي ضد اليهود من أجل أن يغادروا في النهاية، وأن يتركوا الرايخ الآري نقي العرق، وأن نقارن مع "مكتب هجرة اليهود" الذي أقامه النازيون من أجل تنظيم "ترانسفير طوعي" لليهود.

في واقع الأمر لا تعتبر مقاربة الأبارتهايد جديدة في سياق الحديث عن قضية فلسطين والصراع الإسرائيلي- الفلسطيني كما أوضحنا في الكثير من المناسبات، ولكن يبدو أن استراتيجية الحكومة الإسرائيلية الحالية الأكثر تطرّفاً يمينيّاً أعادتها من جديد إلى صدارة الخطاب، وفي خضم ذلك تتم الإشارة من ضمن أمور أخرى إلى أن تلك الاستراتيجية ستضفي في حال تنفيذها شرعية قانونية على واقع الأبارتهايد. ولا بُدّ من أن نضيف أن تلك الاستراتيجية لم تنتج الأبارتهايد، فهو، حتى بحسب مقاربات إسرائيلية كثيرة، موجود منذ العام 1967، حيث يستمر الاحتلال من دون إعطاء أي حقوق سياسية إلى السكان الفلسطينيين، أو إعطاء حق التصويت في تقرير مصيرهم.

وفي تحصيل أخير يجب أن ننوّه بأن تلك الشخصيات الإسرائيلية ذات المكانة الرفيعة تشدّد، وهي تدلي بمواقفها السالفة، على أنها تقوم بمسؤوليتها الفردية والاجتماعية بما يصبّ في ما تصفه بأنه انتماء الفرد إلى مجتمعه، وشعوره بالمسؤولية، وارتباطه به، بيد أنها في غمرة ذلك تكشف النقاب عما تسعى أطراف إسرائيلية أخرى للتغاضي عنه، وتجهيل عقول الجمهور العريض به.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات