عاد مصطلح "الشرق الأوسط الجديد" ليتصدّر التحليلات السياسية الإسرائيلية في ضوء آخر المستجدات الإقليمية التي تنبئ بحدوث ما تصفه إسرائيل بأنه انفراج، ولا سيما المصالحة السعودية الإيرانية، ومساعي عدد من الدول العربية لتطبيع علاقاتها مع سورية وإعادة هذه الأخيرة إلى الجامعة العربية.
وثمة تركيز بشكل خاص على إعادة التموضع من طرف السعودية، التي ترجع تلك التحليلات أسبابها إلى إدراك السعودية واقع تراجع المكانة الدولية للولايات المتحدة وازدياد تركيز اهتماماتها على شاطئي المحيط الهادي وعدم جديتها الكافية في حماية مصالح حلفائها وأمنهم في الشرق الأوسط. كما ترجعها إلى إدراك السعودية لدلالة صعود الصين، ولاتجاه العالم بصورة تدريجية نحو منظومة متعددة الأقطاب، ورغبة قوى عالمية مثل روسيا والهند بتثبيت مكانتها الدولية والانعتاق من هيمنة الدولار على الاقتصاد الدولي، ناهيك عن إدراك السعودية صعوبة حل مشاكلها الإقليمية بدون التفاهم مع القوى الإقليمية مثل إيران وتركيا. ويُشار هنا إلى أن الصين هي عراب اتفاق تجديد العلاقات بين السعودية وإيران، وروسيا هي التي تتوسّط بين السعودية وسورية.
ووفقاً لعدد من أوراق تقدير الموقف الجديدة الصادرة مؤخراً عن عدة معاهد أبحاث في إسرائيل، وفي مقدمها "معهد أبحاث الأمن القومي" في جامعة تل أبيب، فإن أهم العوامل التي تقف وراء هذا الانفراج أو خفض التوتر الإقليمي هي التالية:
أولاً، تراجُع تأثير الولايات المتحدة في المنطقة.
ثانياً، لدى الدول العربية مصلحة في تخفيف حدّة الصراعات الخارجية، من أجل التركيز على معالجة القضايا الداخلية المشتعلة. فالرغبة لدى الدول الفقيرة هي ترميم الوضع الاقتصادي، أمّا لدى الدول الغنية المنتجة للنفط، فيبدو أنها الدفع قدماً بمشاريع مهمة من أجل استقرارها وازدهارها على المدى البعيد.
ثالثاً، يدفع تعزّز مكانة إيران وتمركزها في المنطقة كدولة "على عتبة النووي" دول الجوار نحو التقرّب منها بصورة محدودة، وذلك استناداً إلى مقولة "حافظ على أعدائك بالقرب منك"، وانطلاقاً من مبدأ الاعتراف بقوّتها الفائضة وقدرتها على بث الردع الخاص بها، وأيضاً من التفكير بأن محاولة وقفها بالأساليب الدبلوماسية قد استُنفدت، لذلك تريد هذه الدول الامتناع عن تصعيد التوتّر معها. وبعضهم، كدول الخليج أساساً تتخوّف من صدام ممكن بين إسرائيل وإيران، وتأمل عبر تحسين العلاقات مع إيران إبعاد دولها بقدر الإمكان من مواجهة إقليمية عسكرية يمكن أن تلحق الضرر بها.
رابعاً، يعكس المسار الداخلي الذي يحدث في إسرائيل، بكلّ ما يتضمّنه من عدم استقرار اجتماعي وسياسي، حالة ضعف. كما أن التوتّر بين حكومة إسرائيل والإدارة الأميركية يبثّ رسالة ضعف. وهذه النظرة إلى إسرائيل في الوقت الحالي والتي تُضاف إليها سياسات الحكومة حيال القضية الفلسطينية، تؤدي إلى برود معيّن في مسار التطبيع، وتفرض صعوبات على إسرائيل في محاولاتها ضم دول عربية وإسلامية إضافية إليه.
خامساً، في ما يتعلّق بالسعودية تحديداً فإن ما يجعلها أكثر تحفّظاً تجاه أي علاقة محتملة مع إسرائيل يكمن بالأساس في فشل مسار التسوية السلمية للقضية الفلسطينية، والرفض الإسرائيلي المستمر للمبادرة العربية للسلام (وهي مبادرة سعوديّة بالأصل)، بالإضافة إلى إقامة حكومة هي الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل وسعيها لحسم مستقبل المسجد الأقصى والقدس والمقدسات.
بانتقالنا إلى الخلاصات لا بُدّ من الإشارة إلى أن أهمها تلك القائلة بتزعزع فرضية أن تصبح إسرائيل جزءاً من معسكر إقليمي جديد يضمّ أيضاً الدول التي تنعت بأنها سنيّة معتدلة، على خلفية "اتفاقيات أبراهام". وبموجب القائلين بهذه الخلاصة، "يبدو أن العالم العربي يقبل، على الرغم منه، بترتيبات إقليمية جديدة في صلبها التعايش مع إيران كدولة على عتبة النووي، وذلك بالرغم من أنه لا يرفض إسرائيل، ومن الجليّ أن هذا تحوّل إشكالي بالنسبة إلى إسرائيل".
أما التوصيات فهي في معظمها تطال الوضع الداخلي الإسرائيلي وما آل إليه بسبب خطة التشريعات الحكومية الرامية إلى إضعاف الجهاز القضائي، ولا تتطرق إلى القضية الفلسطينية. ولعل أبرزها الدعوة إلى وجوب أن تبقى إسرائيل في الملعب، أي أن تستمر بتقوية العلاقات مع دول الخليج وأن تلتزم "اتفاقيات أبراهام" وتقوّيها، كما جاء في توصية "معهد أبحاث الأمن القومي"، الذي أضاف أنه "كلما استعادت إسرائيل صورة الاستقرار الداخلي، فإنها ستبقى ضرورية أكثر للمنطقة. كما أن القبول بتسوية متفق عليها في موضوع التغييرات القضائية التي تدفع بها حكومة إسرائيل سيعزّز التماسك الداخلي والحصانة الاجتماعية في الدولة، وهو ما سيخفّف التوتّر بين الحكومة والإدارة الأميركية. وبعد ذلك مباشرة، يجب تجاهل إنجازات إيران الإقليمية والعمل مع الولايات المتحدة لتقوية اتفاقيات التطبيع وتوسيعها مع دول الجوار وعلى رأسها السعودية".
عند هذا الحدّ يجدر أن نشير إلى أنه قبل المستجدات الإقليمية السالفة، أعادت القمة التي عقدت يومي 27 و28 آذار 2022 في النقب في أثناء ولاية حكومة بينيت- لبيد بين وزراء خارجية مصر والإمارات والبحرين والمغرب ووزيري خارجية إسرائيل والولايات المتحدة إلى صدارة الاهتمام مصطلح "الشرق الأوسط الجديد" الذي سكّه قبل أكثر من ربع قرن الزعيم الإسرائيلي المتوفى شمعون بيريس إبان توقيع اتفاقيات أوسلو وظل متداولاً على مستوى الاستعارة حتى وفاته العام 2016 فمات هذا المصطلح معه.
وقد عاد بقوّة على ألسنة وأقلام إسرائيليين كثر لا كاستعارة ظلّ بينها وبينه تاريخ مشترك طوال الأعوام التي مرّت منذ إطلاقه لأول مرة، إنما كحقيقة واقعة، حيث أعيد إلى أذهان من تناسوا، من الإسرائيليين والعرب على حدّ سواء، أن بيريس ذاته قصد به على المستوى البعيد أكثر من أي شيء آخر أمرين اثنين: الأول، أن تصبح إسرائيل دولة طبيعية في المشرق العربي، بمعنى أن يتم تطبيعها عربياً، ما يتيح إمكان أن تغدو حقيقة ثابتة غير قابلة للجدل. والثاني، أن تكون دولة قائدة مُعترفاً بها على المستوى الإقليمي. وفي هذا الشأن الأخير أكد بنفسه ذات مرة أن العرب جرّبوا قيادة مصر لمنطقة الشرق الأوسط نصف قرن وحان الوقت لأن يجرّبوا قيادة إسرائيل، مبرزاً تقدّمها التكنولوجي.
واتسمت التحليلات التي تناولت هذا الموضوع في حينه باستنتاجين فكريين بارزين:
الاستنتاج الأول، أن هناك أوضاعاً جيو سياسية درامية غيّرت المنطقة بشكل جذريّ وأنضجت الظروف في سبيل نشوء شرق أوسط جديد حقيقيّ، وقد بدأت تلك الأوضاع مع "اتفاقيات أبراهام" التي تم استثمارها في الحدود القصوى في تلك الفترة، وأن حدث قمة النقب ليس استعاريّاً كما يمكن توصيف أحداث جرت في نفس الإطار في تسعينيات القرن الفائت، كما أن الصراع مع إيران لم يعد يهمّ إسرائيل فحسب بل أيضاً بات يقع في صلب اهتمام جيرانها. وذهبت بعض التحليلات كذلك إلى أنه في حمأة هذا الصراع برز أكثر من أي شيء آخر أن هناك غياباً للولايات المتحدة، وفي ضوء ذلك تحوّلت إسرائيل إلى قائم بأعمالها بشكل طبيعي لا يحتاج إلى أي مقدمات.
الاستنتاج الثاني يرتبط بالقضية الفلسطينية، ولا شكّ في أنّ أي فحص موثوق سيقود إلى أن سياسة الحكومة الإسرائيلية السابقة حيال هذه القضية كانت بمثابة استمرار للسياسة التي بدأ بها رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، بحيث أنه ليس مبالغة القول إنه أرساها. وجوهر هذه السياسة هو تعميق التعاون الإقليمي من أجل تسوية الصراع مع الفلسطينيين بموجب الشروط الإسرائيلية، وليس العكس. وقد طرح نتنياهو رؤيته هذه لأول مرة في سياق الخطاب الذي ألقاه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 29 أيلول 2014، الذي أعلن فيه أن بعض الدول القيادية في العالم العربي أصبحت تقرّ، بعد عقود من النظر إلى إسرائيل بصفة عدو، بحقيقة المواجهة المشتركة لنفس التهديدات المتمثلة تحديداً في حصول إيران على القدرات النووية وفي الحركات الإسلامية المتشددة التي تضرب جذورها في العالم السُنّي. وجزم بأن التحدّي الماثل الآن هو الاستفادة من هذه المصالح المشتركة لإقامة شراكة مثمرة من أجل بناء شرق أوسط أكثر استقراراً وأمناً وازدهاراً والدفع قدماً بمشاريع مشتركة في مجالات المياه والزراعة والمواصلات والصحة والطاقة وغيرها من المجالات الكثيرة. ولفت إلى أن الكثيرين من الإسرائيليين كانوا يرون منذ فترة طويلة أن السلام الإسرائيلي الفلسطيني قد يساهم في دفع المصالحة الأوسع نطاقاً بين إسرائيل والعالم العربي، ولكنه يعتقد حالياً بأن الأمر يسير في الاتجاه المعاكس؛ إذ إن المصالحة الأوسع نطاقاً بين إسرائيل والعالم العربي قد تساهم في دفع هذا السلام إلى الأمام، ويقتضي ذلك في قراءته التطلّع ليس إلى القدس ورام الله فحسب بل أيضاً إلى القاهرة وعمّان وأبو ظبي والرياض وعواصم عربيّة أخرى.