يمكن القول من دون مبالغة إنه في سياق حوصلة ما شهدته بلدة حوارة من إرهاب قام به مستوطنون إسرائيليون في أراضي 1967، ازدادت على نحو ملحوظ الأصوات في إسرائيل التي باتت ترى الأمور كما هي ولا سيما في المحور الذي يحيل إلى دلالة العلاقة بين السبب والنتيجة، ناهيك عن تسمية الأمور بمسمياتها الحقيقية من دون التحايلات المعهودة أو التلاعب بالعقول.
ونرى وجوب أن نشير إلى ذلك من باب التشخيص أكثر مما من باب التعويل على هذا التشخيص بمقتضاه والذي من شأنه أن يدفع نحو الانحياز إلى قضية فلسطين ومناهضة الاحتلال وسياسته.
فلقد وصف أكثر من مسؤول أمني سابق، منهم رؤساء سابقون لجهاز الأمن العام ("الشاباك")، ما حدث بأنه إرهاب، مثلما فعل محللون إسرائيليون كثيرون في مقدمهم محللو الشؤون الأمنية.
ووفقاً لما أورده المحلل العسكري في قناة التلفزة الإسرائيلية 12، نير دفوري، فإن ما حدث في حوارة يدل على توجّه عام يعبّر عنه ارتفاع حوادث الإرهاب اليهودي في الأراضي المحتلة في الآونة الأخيرة بأكثر من 50 بالمئة، ونقل عن مصادر رفيعة المستوى في المؤسسة الأمنية قولها إنه يسود شعور وسط "مثيري الشغب" (المستوطنون الإرهابيون) بأنهم مدعومون من الحكومة الحالية لذلك فهم أكثر جرأة من قبل. وفي الوقت عينه يجري هذا التوجّه، برأيه، على خلفية تصاعُد عمليات المقاومة من جانب الفلسطينيين والإحساس بالإحباط والانتقام الناجميْن عنها، إلى جانب الشعور بأنه "مسموح لنا أكثر"!!
لكن، إذا كان توصيف ما حدث في حوارة وما سبقه من جرائم اعتداء ارتكبها المستوطنون في أراضي 1967 بأنها إرهاب يهودي، أمراً مستجداً بنطاق أوسع على الخطاب الإسرائيلي المتداول، فإن تصاعد هذه الجرائم لم يبدأ في ظل الحكومة الحالية والتي منح تأليفها فائضاً من القوة إلى مرتكبيها. ومنذ عدة أعوام، تتحدث تقارير إسرائيلية عن ارتفاع في نطاق هذه الجرائم. فمثلاً في مطلع 2019، وبالتزامن مع إطلاق سراح 4 من المستوطنين اليهود المشتبه بهم بقتل الأم الفلسطينية عائشة الرابي حذرت عناصر أمنية إسرائيلية رفيعة المستوى من احتمال حدوث تصعيد في عمليات الإرهاب اليهودي التي يقوم بها ناشطون من اليمين المتطرّف. وقالت هذه العناصر إن ناشطي اليمين المتطرف "يتملكهم شعور قوي بأنهم يقدرون على الدولة، وبأنه لا يمكن هزمهم. وقد ينتهي الأمر بإراقة الدماء وبقلب الوضع القائم في الأراضي المحتلة رأساً على عقب".
وقال المحلل العسكري لصحيفة "يسرائيل هيوم"، يوآف ليمور، في حينه، إن القلق السائد في أروقة المؤسسة الأمنية عامة وجهاز "الشاباك" خاصة، ينبع من الارتفاع المضطرد في نطاق النشاطات العنيفة المنسوبة إلى اليمين المتطرّف.
ونشر ليمور لأول مرة معطيات تشير إلى أنه خلال العام 2018 ارتكب المستوطنون اليهود في الأراضي المحتلة 295 عملية عنف، في حين أنهم ارتكبوا 197 عملية كهذه خلال العام 2017، ما يعني ارتفاع نسبة ارتكاب مثل هذه العمليات بـ 50 بالمئة خلال عام واحد فقط. وارتكبت 42 عملية من العمليات الـ 295 بصورة مباشرة ضد قوات الأمن الإسرائيلية، مقارنة بـ 14 عملية كهذه ارتكبت في 2017، ما يعني ارتفاعاً بنسبة 300 بالمئة. وتتحمل مستوطنة "يتسهار" والبؤر الاستيطانية المحيطة بها المسؤولية عن 80 عملية خلال 2018 مقارنة بـ 52 عملية تحملت مسؤوليتها خلال 2017. ومن المعروف أن المستوطنين المُشتبه بهم بقتل عائشة الرابي حصلوا على توجيهات من "يتسهار"، كما أنهم تلقوا تعليمات من عناصر قضائية تتعلق بكيفية مواجهة التحقيقات في أروقة جهاز "الشاباك". وقال مصدر أمني إسرائيلي مسؤول إن المستوطنين مثلوا أمام التحقيق وهم على أتم الاستعداد له. وأضاف أنهم يشعرون بأنه لا يمكن هزمهم ولا يجدر حتى التعامل معهم. وأكد المصدر نفسه أن المسؤولين في جهاز "الشاباك" يشعرون بالقلق جراء تآكل الردع الأمني حيال ناشطي اليمين المتطرّف. ويؤكد المسؤولون أن أحد أسباب تآكل الردع يعود إلى التأييد العلنيّ الذي يحظى به هؤلاء الناشطون من طرف معظم رؤساء المستوطنات والحاخامين.
بالتوازي مع تلك التقارير جرى الحديث أيضاً حول تلكؤ الحكومة والمؤسسة الأمنية في كبح تلك الجرائم، ما يُعدّ تشجيعاً مباشراً لها. وهو تلكؤ ما زال مستمراً وبالوسع التقدير أنه تفاقم. فقد أصدرت الولايات المتحدة، الأسبوع الماضي، تقريراً اتهم إسرائيل بالفشل في منع هجمات المستوطنين في أراضي الضفة الغربية. وجاء هذا الاتهام في سياق استنتاج تم التوصل إليه في الفصل الخاص بإسرائيل والضفة الغربية وقطاع غزة من تقرير وزارة الخارجية الأميركية للعام 2021 بشأن الإرهاب في العالم. وذكر التقرير أن أفراد الأمن الإسرائيليين لم يمنعوا هجمات المستوطنين في كثير من الأحيان، ونادراً ما اعتقلوا مرتكبي أعمال عنف من بين صفوف المستوطنين، أو تم توجيه اتهامات إليهم. واستشهد التقرير بأرقام الأمم المتحدة التي تُظهر ما مجموعه 496 حادثة عنف ارتكبها مستوطنون ضد الفلسطينيين في العام 2021، بما في ذلك 370 هجوماً أسفرت عن أضرار في الأملاك، و126 هجوماً أسفرت عن إصابات، ثلاث إصابات منها كانت قاتلة. ومع ذلك، تمت إدانة مستوطن واحد فقط في العام 2021 بأكمله، وحُكم عليه بالسجن 20 شهراً بسبب إلقائه قنبلة صوتية على منزل فلسطيني. كما سلّط التقرير الأميركي الضوء على قلق المنظمات الحقوقية والفلسطينيين الذين قالوا إن هجمات المستوطنين في العام 2021 اتسعت، من حيث الخطورة والحجم، مع مشاركة مجموعات أكبر، في إشارة إلى احتمال أن يكون تم التخطيط مسبقاً لهذه الهجمات. (قبل هذا التقرير بعدة أعوام، كشفت دراسة أجرتها منظمة "يش دين" ["يوجد قانون"] الحقوقية الإسرائيلية على مدى سنوات عدة أنه من بين جميع ملفات التحقيق التي تم فتحها في شرطة "لواء يهوداوالسامرة" بشأن مخالفات ارتكبها المستوطنون بحق فلسطينيين، انتهى 8 بالمئة منها فقط بتقديم لوائح اتهاموانتهت 3 بالمئة منها فقط بالإدانة!).
ينبغي التنويه بأن المؤسسة الإسرائيلية الرسمية، وعلى رأسها رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ما زالت ترفض تعريف الجرائم التي يرتكبها المستوطنون ضد الفلسطينيين وأملاكهم في أراضي 1967 بأنها إرهاب، بالرغم من أن هناك مطالبات بذلك من طرف جهات إسرائيلية بما في ذلك من المؤسسة الأمنية ذاتها ومن خبراء قانونيين. وفي السابق تواطأت وسائل الإعلام العبرية في معظمها مع ما وصفناه بأنه الكذب الإسرائيلي المتفق عليه بشأن هذه الجرائم، والذي تم التعبير عنه من خلال تسميتها بأنها "جرائم تدفيع الثمن" أو "جرائم الكراهية"، وبأن من يقومون بها هم "أعشاب ضارة"، ولا يعكسون "المشهد الحقيقي" لـ "مشروع الاستيطان الصهيوني".
وذكرنا مراراً أنه كان ثمة من فضح هذه الآلية وإن بصورة مواربة، وفي مقدمهم الكاتب الإسرائيلي الراحل عاموس عوز الذي أكد أن تعابير مثل "تدفيع الثمن" و"شبيبة التلال" التي تطلق على هذه الجماعات هي تعابير تزويقية، وأنه حان الوقت كي تتم مواجهة الوحش وتسميته باسمه الحقيقي، معتبراً أنها جماعات نازية جديدة عبرية، وأنه ليس هناك أي شيء يفعله النازيون الجُدد في عصرنا ولا تفعله هذه الجماعات هنا. وأضاف أن الفارق الوحيد قد يكون كامناً في أن الجماعات النازية الجديدة هنا تحظى بدعم من طرف عدد غير قليل من المشرّعين القوميين وربما العنصريين، وكذلك بدعم عدة حاخامين يقدمون لهم الفتاوى تلو الأخرى.
وعاب عوز وغيره على أغلبية الصحف الإسرائيلية تبنيها مغسلة كلام المستوطنين الذين يسمون هذه الأعمال "تدفيع الثمن"، كما لو أن الحديث يدور حول مادة استهلاكية في حانوتٍ، بينما يجب قول الحقيقة وهي أن ما يفعله المستوطنون بجيرانهم الفلسطينيين هو إرهاب بكل ما في هذه الكلمة من معنى.
أما التواطؤ الإسرائيلي الرسمي مع هذا الإرهاب، فقد سبق أن أثبتته منذ عدة أعوام تصريحات أدلى بها الرئيس السابق لجهاز "الشاباك" كرمي غيلون وأكد فيها أن بإمكان هذا الجهاز أن يضع في غضون فترة وجيزة حدّاً لجرائم "تدفيع الثمن" في حال اتخاذ المؤسسة السياسية الإسرائيلية قراراً يقضي بمكافحة هذه الجرائم أسوة بأي جرائم أخرى ذات طابع إرهابي محض. وشدّد على أن مكافحة هذه الجرائم لم تنجح حتى الآن بسبب عدم وجود نية حقيقية لمكافحتها. وقال إنه لا يعقل ألا يكون في وسع جهاز "الشاباك" مواجهة هذه الجرائم، لكن يبدو أنه لا توجد رغبة كافية في خوض مواجهة كهذه لدى الجهات الأمنية العليا المختصة.
تجدر الإشارة أخيراً إلى أنه داخل صفوف المستوطنين في الأراضي المحتلة منذ 1967 تجري مؤخراً تحوّلات تنطوي أيضاً على صراعات تشي جهاراً بأن قياداتهم الجديدة أشد تطرّفاً وتدّيناً من قيادات سابقة لهم كانت متطرّفة بدورها، وهو ما قد نتطرق إليه في وقت لاحق.