من واشنطن، أعلن رئيس الحكومة الإسرائيلية نفتالي بينيت بشكل واضح أنه "لن تقوم دولة فلسطينية". بغض النظر عن الأسباب التي ساقها، ومن ضمنها المصاعب التي تعانيها السلطة الوطنية الفلسطينية، يتوجب أولا أن تتوافق الأجندة الرسمية لإسرائيل مع الأجندة الرسمية للولايات المتحدة كي تنعم إسرائيل بحالة استقرار سياسي داخلي وانسجام دولي مع حليفتها واشنطن. قد يبدو هناك اختلاف حقيقي بين أجندة بينيت الرافضة لإقامة دولة، وبين أجندة بايدن الداعية إلى حل الدولتين. لكن هذا الاختلاف هو اختلاف ظاهري، بل إن هناك هامشا كبيرا يسمح للطرفين بإيجاد أرضية مشتركة للعمل فيما يخص الملف الفلسطيني. هذه المقالة تحاول أن تضع معالم هذه الأرضية المشتركة في أعقاب زيارة بينيت الأولى إلى واشنطن.
إن مقارنة سريعة مع الإدارات الأميركية السابقة قد توضح أن الانسجام ما بين واشنطن وتل أبيب يعتبر أمرا حيويا. ما بين 2009-2017، طفا على السطح وبشكل حاد الخلاف ما بين الإدارة الأميركية بقيادة باراك أوباما والحكومة الإسرائيلية بقيادة بنيامين نتنياهو. من جهة رغبت إدارة أوباما بدفع حل الدولتين إلى الأمام، فيما أن حكومات نتنياهو في تلك الفترة انتهجت سياسة "تدمير عملية السلام" بدون أن تسقط خيار حل الدولتين باعتباره الخطاب الذي ينقذ إسرائيل من العودة لتحمل مسؤوليتها في إدارة سكان الأرض المحتلة. ما بين 2017-2021، شكل ترامب- نتنياهو ثنائيا استثنائيا سمح للحكومة الإسرائيلية بأن تمضي قدما في سياسات الضم الزاحف، وتثبيت حقائق على الأرض أهمها الاعتراف الأميركي بالمستوطنات، والقدس كعاصمة لإسرائيل، وتجميد الدعم المالي للسلطة الفلسطينية، وتطبيع العلاقات الاسرائيلية مع دول عربية في المنطقة، وتوسيع الاستيطان.
لكن الآن، في العام 2021، فإن تزامن حكومة بينيت مع إدارة بايدن يطرح الكثير من الأسئلة حول مستقبل العلاقة الإسرائيلية- الفلسطينية، بعضها يصعب التكهن بإجابته بشكل مسبق لكن يمكن رصد معالمه. بالنسبة لبينيت، فهو يرفض بشكل صريح إقامة دولة فلسطينية. في العام 2010، عندما كان بايدن نائب الرئيس الأميركي باراك أوباما، هدد بينيت بالانسحاب من حكومة نتنياهو في حال قرر الأخير الانصياع إلى ضغوطات أوباما بوقف الاستيطان. Danya Hajjaji, “Naftali Bennett’s Anti-Palestinian State Agenda Risks Joe Biden’s Ire,” Newsweek, August 28, 2021, https://bit.ly/2Y46dmm. بايدن يدرك ذلك جيدا، تماما كما أنه يدرك أن "عملية السلام" ليست على أجندة الائتلاف الإسرائيلي الحالي، ببساطة لأن "نبشها" يعتبر أحد عوامل انهيار الائتلاف. Hadar Kusskind, “Biden-Bennett Meeting a Chance to Push for Two-State Solution,” Jerusalem Post, August 19, 2021, https://bit.ly/3sUy3Nc. أما بالنسبة لبايدن، فقد وجد نفسه مضطرا إلى الادلاء بتصريح صحافي في اليوم التالي لانتهاء الحرب الأخيرة على غزة بتاريخ 21 أيار، حيث قال: "لا تغيير حقيقيا في سياساتنا تجاه إسرائيل. هذا أمر لا نقاش فيه. التغيير الحقيقي هو أن الولايات المتحدة سترى من الآن وصاعدا أن حل الدولتين هو الخيار الوحيد". Servet Günerigök, “Biden Says Two-State Solution ‘only Answer’ to Israel, Palestine,” Anadolu Agency, May 22, 2021, https://bit.ly/38ljA3i.
ثمة أربعة التزامات مطلوبة من واشنطن كي نتمكن من القول إن أجندة بينيت وأجندة بايدن حيال الملف الفلسطيني في تناقض تام، الأمر الذي قد يعيد مشهد العلاقات الأميركية- الإسرائيلية في حقبة أوباما. انعدام أحد هذه الالتزامات يوفر هامشا عريضا للانسجام ما بين الأجندتين: أولا، على الإدارة الأميركية أن تعلن أنها ملتزمة بحل الدولتين كخيار وحيد لإنهاء الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني. كان بايدن قد أعلن عن هذا الالتزام بشكل صريح في أكثر من مناسبة منذ توليه منصبه في كانون الثاني 2021. لكن هذا لا يكفي. ثانيا، على الإدارة الأميركية أن تعلن أن حل الدولتين يتأتى من خلال مفاوضات مباشرة، سواء برعاية دولية أو بتفرد أميركي. فمثلا، في العام 2020 أعلن ترامب أنه ملتزم بحل الدولتين، لكن "الدولة الفلسطينية" حسب رؤيته يمكن أن يتم فرضها بشكل تعسفي على الجانب الفلسطيني وبدون التفاوض معه، كما هي الحال في "صفقة القرن". حتى الآن، لم يعلن بايدن عن نيته في الشروع بمفاوضات سلام. ثالثا، على الإدارة الأميركية أن تعلن أن حدود العام 1967 هي نقطة الأساس التي ستنطلق منها أي عملية مفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين. أيضا هذه القضية غابت بشكل متعمد عن صفقة ترامب التي انطلقت من حدود مناطق الحكم الذاتي الحالية (مناطق "أ" و"ب") وحولت أراضي "ج" (حوالي 60% من الضفة الغربية) إلى جغرافيا يمكن المساومة عليه. أما بايدن، فلا يجد نفسه مضطرا حتى الآن إلى تحديد جغرافيا المفاوضات. رابعا، على الإدارة الأميركية أن تلتزم بخارطة طريق واضحة للوصول إلى حل الدولتين من خلال مفاوضات وعلى أساس حدود الرابع من حزيران. خارطة الطريق يجب أن تشكل رؤية أولية لموقف الولايات المتحدة من قضية الحدود، القدس، اللاجئين والأمن وغيرها. فمثلا، قام ترامب (2017-2021) بتعيين صهره كوشنير لوضع خارطة طريق. بينما أوباما (2009-2017) كان قد عين جورج ميتشل خلال 48 ساعة من توليه منصبه كمبعوث للشرق الأوسط والذي وضع الملف الفلسطيني على سلم أولوياته. أما جورج بوش الابن (2001-2009) فقد قدم أيضا رؤيته لحل الدولتين من خلال خارطة الطريق أعلن عنها في حزيران 2002.
بالنسبة لإدارة بايدن، فإنها قد التزمت حتى الآن بالنقطة الأولى (أي الإعلان عن حل الدولتين كخيار وحيد)، وأهملت الالتزام بالنقاط الأخرى. وهذا ما يجعل التناقض بين أجندة بينيت الاستيطانية والتي ترفض إقامة دولة فلسطينية، وبين أجندة بايدن، تناقضا سطحيا قد لا يؤثر على مستقبل العلاقات بين البلدين. إن العامل المشترك الوحيد ما بين إسرائيل والولايات المتحدة هو الإبقاء على "خطاب" حل الدولتين، وليس على برنامج عمل ملموس. بحسب معهد السلام الأميركي، فإن إدارة بايدن صنفت أولوياتها في الشرق الأوسط بشكل واضح وحصرتها في الملف الإيراني (العودة إلى صياغة اتفاق حول الملف النووي) والملف اليمني (إنهاء الحرب في اليمن). USIP, “10 Things to Know: Biden’s Approach to the Israeli-Palestinian Conflict” (United State Institution for Peace, June 10, 2021), https://bit.ly/3zquC3i.
بالعودة إلى إسرائيل، فإن بينيت يدرك هذه التفاصيل جيدا، وهذا قد يعني أنه سيتعامل مع الملف الفلسطيني بطريقتين متوازيتين: أولا، بينيت، الرافض لإقامة دولة فلسطينية، لا يستثني بتاتا إمكانية التعامل والتفاوض مع القيادة الفلسطينية في رام الله شريطة أن لا ينطوي هذا التفاوض على قضايا سياسية. فمثلا، لا يمانع بينيت من دعم الاقتصاد الفلسطيني، أو تقديم قروض إنقاذية للسلطة الفلسطينية، أو حتى حل العديد من القضايا الحياتية التي من شأنها أن تقلل من احتقان الشارع الفلسطيني. ثانيا، على أجندة الائتلاف الحكومي، وكما هو منصوص عليه في الاتفاقيات الائتلافية الثنائية، يتربع مشروع التوسع الاستيطاني. هذا يشمل مد شبكات طرق جديدة، وتطوير البنية التحتية للمشروع الاستيطاني، والمضي قدما في فرز أراضي الضفة الغربية وإعلان أقسام جديدة منها على أنها "أراضي دولة" بالإضافة إلى محاربة البناء الفلسطيني "غير الشرعي" في مناطق "ج". برهوم جرايسي، اتفاقيات الائتلاف للحكومة الإسرائيلية الـ 36 والسير الذاتية للوزراء (المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية - مدار، 2021). انظر الرابط التالي: https://bit.ly/3mF5TEF صحيح أن بينيت كان قد أرفق إعلانه حول عدم قيام دولة فلسطينية بتصريح آخر ينص على أنه لن يكون هناك ضم لمناطق "ج"، إلا أن بينيت يحاول أن يحذو حذو سابقيه من خلال الاستعجال في تغيير الحقائق المادية على الأرض في الوقت الذي يعلن فيه ظاهريا أنه يؤيد حل الدولتين، حتى لو أنه أعلن أنه لن تقوم دولة فلسطينية في ولايته.
في نهاية العام 2018، نشر معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي كراساً بعنوان "السيناريوهات التي تتعلق بالحلبة الإسرائيلية- الفلسطينية: التحديات الاستراتيجية والردود الممكنة". كتب الكراس كل من أودي ديكل، وهو ضابط كبير ومدير معهد أبحاث الأمن القومي ورئيس الوفد الإسرائيلي في مفاوضات أنابوليس (2007)، بالإضافة إلى كوبي ميخائيل، والذي كان مسؤولا عن الملف الفلسطيني في وزارة التخطيط الاستراتيجي الإسرائيلية. ووضع المؤلفان عدة سيناريوهات لمصير الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني أهمها: 1) الاستمرار في الوضع الراهن (أي إدارة الصراع)؛ 2) الوصول إلى حل الدولتين؛ 3) انفصال سياسي وجغرافي أحادي الجانب (قد لا يشمل إقامة دولة فلسطينية)؛ 4) تطبيق القانون الإسرائيلي على أراضي "ج" (أي تطبيق مشروع الضم)؛ 5) دولة واحدة بدون منح حقوق متساوية للفلسطينيين؛ 6) دولة واحدة ديمقراطية. Uri Dekel and Kobi Michael, Scenarios in the Israeli-Palestinian Arena- Strategic Challenges and Possible Responses (Tel Aviv: INSS, 2018), https://www.inss.org.il/wp-content/uploads/2019/01/Memo186_e.pdf. في استفتاء قامت به المجلة الشهيرة "شؤون خارجية" (Foreign Affairs) ونشر بتاريخ 24 آب، قبيل زيارة بينيت إلى واشنطن، قامت المجلة باستمزاج آراء ساسة مخضرمين، وصناع قرار بالإضافة إلى مختصين من أهم المعاهد الدولية (Think Tanks) فيما يخص مستقبل حل الدولتين. وكان أودي ديكل أحد هؤلاء، وعاد ليذكرنا بأن حل الدولتين هو السيناريو الأفضل والأكثر أمنا لدولة إسرائيل على الرغم من أن العديد من المستطلعة آراؤهم رأوا أن الحقائق التي صنعتها إسرائيل على الأرض في طريقها إلى تقويض أي فرصة لإقامة الدولتين. Foreign Affairs, “Is the Two-State Solution Still Viable?,” Foreign Affairs, August 24, 2021, https://fam.ag/3kA9iBY. ويمكن الاستخلاص من قراءة كراس ديكل وميخائيل بأن حل الدولتين هو مجرد "خطاب" لا يمكن لإسرائيل التنازل عنه، ومن هنا يمكن اعتباره، بالنسبة لإسرائيل، السيناريو الوحيد لحل الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني. فهذا الخطاب هو مدخل أساسي لتطبيع العلاقات مع دول الجوار، كما أنه الأداة الوحيدة لعدم تكرار تجربة الحكم العسكري المباشر، كما كانت الحال قبيل توقيع اتفاق أوسلو.