قد يكون تأجيل اللقاء الأول بين الرئيس الأميركي جو بايدن ورئيس الحكومة الإسرائيلية نفتالي بينيت، الذي كان من المفروض أن يعقد مساء يوم الخميس 26/8 في البيت الأبيض، لمدة 24 ساعة، ومن ثم تعديل ساعة اللقاء، وبدء التكهن إن كان هذا اللقاء سيعقد أصلا، وفي أية أجواء سيتم، بسبب انشغال الرئيس الأميركي بمتابعة تداعيات الانفجار الانتحاري الذي وقع في مطار كابول وأدى إلى مقتل 13 جنديا أميركيا، بالإضافة إلى عشرات الأفغان، هو الحدث الأكثر دلالة على تأثير الانسحاب الأميركي من أفغانستان على إسرائيل وحساباتها الإقليمية والاستراتيجية، مقارنة بجدول الأعمال الأميركي وأولويات الإدارة الأميركية الجديدة.
بتأخير 24 ساعة، وفي ظل انشغال إعلامي وسياسي أميركي بالحدث الأفغاني، عقد اللقاء المنتظر، والذي عوّل عليه نفتالي بينيت كثيرا من أجل تقديم أجندته التي تضع إيران في صدارة الأولويات، وبهدف تحسين صورته، وتكريس شخصيته كزعيم ورئيس حكومة قوي ومقبول أميركيا.
استطاع بينيت أن ينتزع من الرئيس الأميركي تعهدات مُرضية، لها علاقة بالملف النووي الإيراني، ونال نصيبا كافيا من الوقت (اللقاء الثنائي استمر خمسين دقيقة برغم أن البروتوكول حدد مدة اللقاء بـ25 دقيقة) كي يعرض خططه تجاه إيران أمام الإدارة الأميركية، والأهم أنه لم يصطدم بأية مطالب أو مبادرات سياسية تتعلق بالقضية الفلسطينية تهدد استقرار حكومته، ومع ذلك ساد الشعور لدى وسائل الإعلام الإسرائيلية ولدى الخبراء والمعلقين السياسيين في استوديوهات الأخبار التي فتحت موجات بث طويلة لمواكبة الزيارة، أن الرئيس الأميركي، المستنزف من المتابعة، وصد الانتقادات التي وجهت لإدارته بسبب شكل الانسحاب من أفغانستان، والتفجير الذي جاء ليعزز المخاوف التي أثارها منتقدو الانسحاب، لم يكن يبحث عن نقاط تلاقي مع نفتالي بينيت، الذي ينتمي لمعسكر اليمين المتطرف، ويفصل بينهما عمريا جيل كامل (30 عاما) ويقود حكومة هشة مستندا إلى مقاعد حزبه الستة في الكنيست، بقدر ما كان يرغب في تسكين الملف الإسرائيلي، والتأكد من تناغم الحكومة الإسرائيلية مع توجهاته في العودة للاتفاق النووي مع إيران بدون مناكفات كما حدث في عهد بنيامين نتنياهو، خاصة وأن مصالح بايدن تقاطعت مع مصالح نفتالي بينيت ورغبتهما المشتركة في عدم عودة نتنياهو لسدة الحكم في ظل التعقيدات التي تواجهها الإدارة الأميركية داخليا وخارجيا.
هزيمة أميركا والاعتماد على الذات
امتنع نفتالي بينيت عن انتقاد القرار الأميركي بالانسحاب من أفغانستان، إلا أن مراكز الأبحاث ووسائل الإعلام الإسرائيلية، إلى جانب المستويات المهنية والأمنية، انشغلت كثيرا في بحث ودراسة أثر هذا الانسحاب، خاصة في ظل الصور المهينة التي جرى بثها، على إسرائيل ومنطقة الشرق الأوسط.
أجمع كبار المحللين وقادة الأمن السابقين والسياسيين على أن ما حدث في أفغانستان هو فشل أميركي بكل المقاييس، فقد اعتبر عاموس يادلين، رئيس الاستخبارات السابق، أن هذا "الفشل سيصب في مصلحة الصين وروسيا وإيران". ونوّه إلى أن "صورة أميركا الضعيفة" التي ظهرت خلال الصور القاسية للجنود الأميركيين وهم يتخلّون "عن حلفائهم" لا تخدم حلفاءها في المنطقة وخاصة إسرائيل، وأن الانسحاب الأميركي من الشرق الأوسط "غير جيد لإسرائيل"، مشددا على أن "إسرائيل ليست أفغانستان" من حيث العلاقة التاريخية والروابط الوثيقة والاستراتيجية التي تجمعها مع الولايات المتحدة، والأهم "من حيث قوة جيشها وقدرتها على الدفاع عن نفسها بنفسها" وهو ما يضمن لها أن لا يتكرر ما حدث في أفغانستان معها مستقبلا.
اتفق عوفر شيلح، الذي شغل منصب رئيس لجنة الدفاع في لجنة الخارجية والأمن سابقا، هو الآخر في مقال رأي نشره في صحيفة "معاريف" في 16/8 مع يادلين بأن ما حدث في أفغانستان هو هزيمة لأميركا، بل ذهب أبعد من ذلك إذ اعتبر أن " الهزائم هي السمة الغالبة على السياسة الخارجية الأميركية" وأن هذا سيؤثر على إسرائيل "أكثر من مجرد صعود وعودة طالبان بحد ذاتها"، ليخلص إلى أن من يريد دعم أميركا "في مواجهة إيران والفلسطينيين وترتيب الأوضاع في سورية" سيشعر بخيبة أمل، لأن ما نراه "هو تراجع عن لعب دور، ونظرية جديدة للدور الأميركي" الذي بدأ ينسحب نحو الداخل والقضايا الداخلية وتفضيل السياسة الناعمة على التواجد العسكري المباشر والمكلف.
نشر الصحافي الباكستاني حمزة أزهر إسلام مقالا في صحيفة "يسرائيل هيوم" بتاريخ 15/8 حمل نفس القراءة، معتبرا أن "إسرائيل لا تستطيع الاعتماد على الولايات المتحدة" وهو ما يملي عليها أن تعتمد على تحالفاتها الإقليمية وخاصة دول الخليج من أجل "استغلال التناقضات المذهبية بين طالبان وإيران، ومحاولة التأثير على طالبان".
وليس بعيدا عن هذه القراءات، كتب المحلل العسكري نوعم أمير، في موقع "مكور ريشون"، مقالا تحليليا اعتبر فيه أن "الضعف الأميركي سيكلف إسرائيل ثمنا باهظا" وأن انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان "سيزعزع أمن المنطقة، ويشجع عودة الأحزاب والحركات الإسلامية المتشددة، وسيقود إلى تقوية إيران التي ستظهر للعالم على أنها أكثر اعتدالا من هذه الحركات ومن حركة طالبان المتشددة دينيا" كما أنها ستستفيد منها ومن العلاقة معها.
استخلص أمير في مقالته بأن "الانطباع الذي تولد حول ضعف الولايات المتحدة وعدم رغبتها في دفع ثمن مادي وبشري" يجب أن يقابل بتبني استراتيجية إسرائيلية تنحو نحو "الاستقلالية في كل ما له علاقة بمصالحها الاستراتيجية".
الصحافي المتخصص في الشؤون العربية، يوني بن مناحيم، اتفق هو الآخر مع النظر إلى الانسحاب الأميركي على أنه "هزيمة أميركية" وأن من تداعيات ذلك أنه "سيشجع الجهاد ضد إسرائيل".
العبرة الأخطر جراء هذا الانسحاب صاغها الكاتب جدعون يسرائيل بكلمات مباشرة، تتنبأ بسيناريو مشابه مع إسرائيل، وذلك في مقال رأي في صحيفة "يسرائيل هيوم" في 23/8 اعتبر فيه "أن أميركا قد تتخلى عن إسرائيل كما تخلت عن الأفغان" وأن هذا يجب أن "يشعل الضوء الأحمر" لدى متخذي القرار في إسرائيل خاصة في ظل "التحولات في الرأي العام الأميركي لغير صالح السياسات الإسرائيلية" وتبدل الأولويات لدى الإدارة الأميركية. يسرائيل يستخلص أن "من المحظور على إسرائيل أن تقبل وضعا يكون فيه الجنود الأميركيون هم الجسم الفاصل بين الفلسطينيين والإسرائيليين (في أية تسوية مستقبلية) وذلك ليس بسبب القناعة الإسرائيلية بأن الجندي الإسرائيلي هو من يحمي أمننا فقط، بل لأن وجود جنود أميركيين على الأرض سينعكس على الرأي العام الأميركي بشكل مباشر"، لذا فإنه يقترح أن تستثمر إسرائيل أكثر في الدعاية والترويج في أوساط الرأي العام الأميركي بأن الاستثمار الأميركي في إسرائيل في الشرق الأوسط هو "ثروة كبرى" وقيمة استراتيجية لأميركا.
اعتبر عاموس يادلين، الجنرال السابق ورئيس معهد أبحاث الأمن القومي، هو الآخر في مقابلة مع القناة 12 يوم 27/8 أن "ما حدث في أفغانستان ستكون له تداعيات مباشرة على إسرائيل من جهة الدور الإيراني وحركات المقاومة التي ستستمد منه روحا معنوية" وسيعزز لديها الشعور بإمكانية تكراره في أماكن أخرى، إلا أن هذا لا يجب أن يدفع إسرائيل "لأن تتصدر المشهد في مواجهة إيران" وأن لا تتنازل عن قيادة أميركية "لتحالف دولي ضد إيران".
الدرس الأفغاني وإسرائيل
نشر معهد أبحاث الأمن القومي دراسة تحليلية مطولة تحت عنوان "درس في حدود القوة: أثر انسحاب الولايات المتحدة وحلفائها من أفغانستان" أعدها الباحثان في المركز، إلداد شفيط وشمعون شتاين، حاولا أن يجيبا فيها على الأسئلة الملحة التي أثارها هذا الانسحاب، وتحديدا تأثيره على مكانة الولايات المتحدة الدولية ووجودها في ساحات أخرى في الشرق الأوسط (مثل العراق)، والعبرة من فشلها في محاولة "بناء أمة بقيم غربية ليبرالية" في ضوء سيطرة طالبان مجددا على الحكم، والانهيار السريع للجيش والحكومة التي استغرقت عملية بنائها عقدين من الزمن ومئات مليارات الدولارات.
شكل الانسحاب وفق البحث أثّر سلبا على مصداقية وصورة الولايات المتحدة، كونها لاعبا رئيسا في الساحة الدولية، وهو ما ستستغله أطراف أخرى، ما يملي على إسرائيل أن تتنبه له، خاصة بسبب الدور الإيراني وعودة الحركات الجهادية للواجهة.
يرى الباحثان أن المشاهد الصعبة التي رافقت الانسحاب، وأثرها على مصداقية الولايات المتحدة، لم يكن لها أن تغير من قرار الانسحاب، الذي اتخذ من قبل إدارة سابقة ويعبر عن توجه الإدارة التي سبقتها (إدارة الرئيس أوباما) ويعكس ما يشبه "الإجماع الأميركي" وهو ما سيمكنها من التفرغ للتحدي الرئيس عالميا وهو الصين. وفيما يتعلق بإسرائيل ومدى تأثرها بقرار الانسحاب من أفغانستان، يضع الباحثان ثلاثة مجالات قد تتأثر مباشرة من هذا القرار وأن على إسرائيل أن تلتفت لها، وهي:
بعث الحافزية لدى الحركات الجهادية: الفشل الأميركي والسيطرة السريعة لحركة طالبان على الحكم سيعيدان بعث الحياة من جديد في الحافز لدى الحركات الجهادية في تعزيز نشاطها في العالم وتحديدا في الشرق الأوسط، بما في ذلك ضد أهداف إسرائيلية. مع ذلك يرى الباحثان أن هذا النشاط المتجدد للحركات الجهادية، لن يؤثر كثيرا على إسرائيل بسبب الدور المحدود للولايات المتحدة في محاربة التنظيمات التي تعمل ضد إسرائيل.
الحراك الإيراني إقليميا: الوضع الجديد يضع إيران أمام صورة مركّبة، حيث أنها ترى في انسحاب الولايات المتحدة من الشرق الأوسط تطورا إيجابيا يخدم مصالحها (وتأمل في أن تكون العراق هي التالية)، بما يعني هذا من إخلاء لساحاتها الخلفية، وانتقام استراتيجي على اغتيال قاسم سليماني، وهي عوامل ستعزز روايتها، لكن بالمقابل، فإن تورطها وتدخلها بشكل أكبر في أفغانستان سيستنزف مواردها "القليلة أصلا" وسيكون على حساب دورها في ساحات أخرى.
العلاقات الأميركية- الإسرائيلية: رغم المشاهد التي قد تظهر على أنها "عملية هروب أميركي" من أفغانستان، من غير المتوقع أن تغير الولايات المتحدة خططها بالانسحاب من "بؤر الصراع الذي لا ينتهي" وقرارها بتقليص وجودها في الشرق الأوسط، وهو ما سيعزز الفهم السائد لدى دول المنطقة بأن الشرق الأوسط يفقد من أهميته الاستراتيجية لدى الولايات المتحدة، وهو ما يتم التعبير عنه بعدم رغبتها في مواصلة الاستثمار به، سواء بوجودها العسكري او بثقلها الاقتصادي، وهو ما سيدفع دول المنطقة إلى إعادة النظر في سياساتها.
هذا الفهم، سينعكس "ظاهريا" على تقدير تلك الدول (خاصة تلك التي تعتمد على الدعم الأميركي) لحجم الدعم الذي يمكن أن توليه الولايات المتحدة لإسرائيل امام التحديات التي تواجهها في المنطقة، وفوق ذلك، وبشكل موضوعي، على إسرائيل أن تعي أن الإدارة الأميركية، ومع كل التعاطف الذي تبديه، إلا أن إمكانية الاستثمار عسكريا من أجل مواجهة هذه التحديات يقل بشكل متواصل، بما في ذلك التحدي الإيراني.
إن هذا التوجه بالذات، قد يعزز من أهمية إسرائيل في نظر الإدارة الأميركية، كونها الوحيدة القادرة على حماية مصالحها في المنطقة (دون أن تتواجد فيها بشكل عسكري مباشر) وهو ما قد يؤهلها لأن تلعب دورا أكبر مع دول حليفة إقليميا، أو أن تقود تحالفا إقليميا معاديا لإيران.
أفغانستان.. لبنان.. ومعارك المستقبل
أعادت الصور "المهينة" التي رافقت الانسحاب الأميركي من أفغانستان، لجنود ودبلوماسيين يغادرون، أو يفرّون على عجل، ويتركون خلفهم معدات قتالية متطورة وحلفاء مهزومين، يحاولون الفرار والتعلق بعجلات الطائرات التي كانت تقلع من مطار كابول، إلى العالم صور العاصمة الفيتنامية سايغون، وهي واحدة من أبلغ المشاهد التي علقت في الأذهان في عهد الحرب الباردة، كما أنها أعادت للإسرائيليين صورة الانسحاب من جنوب لبنان في العام 2000.
في دراسة له على موقع "ميديا" يشبه الجنرال احتياط طال بار أون الانسحاب الأميركي من أفغانستان بالانسحاب الإسرائيلي من لبنان، خاصة في كون الانسحابين تمّا بشكل أحادي، وهي انسحابات يمكن أن تعتبر "خطوة شجاعة" في نظر الغرب، إلا أنها ستعتبر في الشرق الأوسط انتصارا للطرف الآخر، وناتجة عن تضحياته وشجاعته، وهي الخلاصة التي يترتب عليها الخروج من أزمة إلى أزمة أخرى أكثر تعقيدا كما حدث مع حزب الله وغزة.
يلخص بار أون، وبخلفيته العسكرية، ونظرته المستقبلية للحروب التي قد تندلع في المنطقة (رغم الانسحابات و/أو بسببها) وبنفس استشراقي مثالي تجاه المنطقة، الهلع الإسرائيلي من الانسحاب الأميركي من أفغانستان (البعيدة) حيث يرى أن الصورة والنصر الحاسم هما العامل الحاسم الذي يؤثر في وعي الحركات التي تواجهها إسرائيل وحلفاؤها الغربيون في المنطقة والعالم، ولذا فإنه يختم توصياته بمقولة رئيس الأركان السابق غابي أشكنازي ما بعد حرب لبنان في 2006 بأن "على إسرائيل أن تسجل على أعدائها نصرا لا يقبل التأويل ولا لبس فيه، بحيث يكون مفهوما للجميع من انتصر ومن انهزم، لأن الشرق الأوسط لا يحب المترددين ولا يرحم المشفقين، ويقدّر فقط المنتصرين"!
المصطلحات المستخدمة:
مكور ريشون, يسرائيل هيوم, لجنة الخارجية والأمن, دورا, الكنيست, بنيامين نتنياهو, عوفر شيلح, نفتالي بينيت