قبل نحو شهر، أبلغت كبيرة الخبراء الاقتصاديين في وزارة المالية الإسرائيلية، شيرا غرينبرغ، المدير العام لوزارة الصحة حيزي ليفي بأن تكلفة القيود المفروضة بسبب انتشار كورونا تصل إلى 1.5 مليار شيكل أسبوعيا، من بينها 900 مليون شيكل بسبب إغلاق المجمعات التجارية. وقالت غرينبرغ في رسالتها إن "الحديث هنا عن التكلفة المباشرة، وقد تكون هناك تكلفة طويلة المدى في ضوء الضرر اللاحق بنشاط المصالح الاقتصادية في مجالات تتأثر بشكل مباشر من القيود، أو المجالات التي تتأثر بصورة غير مباشرة، مثل المستوردين، الزبائن وغيرهم". أما رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، فيكرّر ادعاءاته عن أن "وضع انتشار العدوى لدينا (إسرائيل) أفضل نسبياً من دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD".
إن الإصرار على اعتماد مقاييس ومعايير المنظمة المذكورة، كأنها دليل على النجاعة والنجاح في مواجهة أزمة وباء الكورونا، هو مصدر لنقد معمّق يوجهه خبراء اقتصاديون ممّن يعارضون سياسات الخصخصة وتفضيل جهات القطاع الخاص على تقوية القطاع العام في مواجهة الأزمات. هذه الجهات والشخصيات الأكاديمية والبحثيّة تحذّر مما يُطلق عليه "اليوم التالي لوباء الكورونا"، بمعنى حيازة رؤى وأدوات ومناهج للخروج من الأزمة العميقة الناجمة عن الوباء. بين هؤلاء البروفسور يوسي زعيرا الذي يلخّص نقده بهذا التصريح الذي تضمنته مقابلة أجراها يونتان كيرشنباوم معه ونشرتها جريدة "دفار" الإلكترونية: "من الهراء التحدث عن خطة للخروج من الأزمة. فمن سيقوم بها؟ ليست هناك حكومة"، يقول مضيفاً: "الجهاز الحكومي مهشّم. بفعل العديد من نصائح OECD بنينا هنا جنّة نيو ليبرالية، قلصنا القطاع العام وأضعفناه، والآن ليس هناك بكل بساطة من يضع خطة خروج من الأزمة".
يقول زعيرا، المتخصص في اقتصاد الماكرو ومن كبار خبراء هذا الاقتصاد في إسرائيل إن "السياسة النيو ليبرالية التي كانت هنا في السنوات الثلاثين الأخيرة جعلت القطاع العام يتآكل تماما، ونحن نأكل اليوم الثمار العفنة لذلك. لكي نخرج إلى عملية ترميم وتصحيح للاقتصاد، نحتاج إلى قوة بنيوية كبيرة وإلى رصد ميزانيات، ونقص هذه الأمور كان واضحا جدا في هذا الوباء". تجدر الإشارة إلى أن أبحاثه تتضمن ظاهرة "الفقاعات" في أسواق المال، والتي تظهر بشكل أساس خلال تحديثات تكنولوجية وسياسات لبرلة مالية. وهو يركّز على انعدام المساواة في السوق الرأسمالية وتأثيره على النمو الاقتصادي. وأظهر بحث رائد له أن عدم المساواة يمكن أن يضر بالنمو الاقتصادي نفسه.
فيما يلي نص المقابلة التي أجرتها معه الجريدة الإلكترونية العبرية المذكورة أعلاه:
ينظر البروفسور يوسي زعيرا إلى المعطيات الاقتصادية التي سيدخل بها الاقتصاد الإسرائيلي إلى الإغلاق الثالث ولا يستطيع كتمان امتعاضه. "في السنة الأخيرة انخفض الاستهلاك الفردي بـ 10%، انخفض التصدير بـ 10% والاستثمارات بـ 12%"، يقول في المقابلة التالية. و"هذه معطيات تميز الركود. المكتب القومي للبحث الاقتصادي في الولايات المتحدة أعلن أن الركود بدأ منذ شباط. هذه هي الهيئة المخولة بالإعلان عن حالات الركود في الولايات والمتحدة، وعادة حين يقولون ركوداً فإن الأمر يترجم في حالات ركود عالمية. نحن في ركود ثقيل جدا جدا".
ويضيف: "هناك أيضا مساهمة إسرائيلية خاصة في الركود وهي غير مرتبطة بالوباء. نحن نعيش منذ سنتين في عدم استقرار سياسي شديد التطرف. ليست لدينا حكومات مستقرة بل حكومات انتقالية وليس واضحا إن كانت الانتخابات الرابعة (في آذار 2021) هي نهاية المطاف. عدم الاستقرار السياسي يُترجم أيضا في المشكلة المتمثلة بعدم إقرار الميزانية. هذه أخطر المشاكل لأن الحكومة غير قادرة فعلياً على العمل. كل شيء يعيش في انعدام استقرار كبير وجدي، وإذا كان ثمة عدو للاستثمار فإن عدم الاستقرار هو عدوه اللدود. نحن عمليا نأخذ وضعا اقتصاديا قاسياً ومعقداً مسبقاً ونزيد من المساس بأنفسنا".
(*) سؤال: إلى أية درجة ترى عمق هذا الركود مقارنة بحالات سابقة؟
زعيرا: "إنه ركود عميق جدا. الشيء الوحيد الذي يمكن مقارنته به هو ركود الانتفاضة الثانية بين 2001-2004 الذي كان طويلا وعميقا على نحو خاص. صحيح أنه تسبب بفعل عوامل مختلفة ولكن كانت له خصائص مشابهة: تراجع الطلب على السياحة، انعدام الاستقرار الذي قلل الاستثمارات. إن الخلفية أخرى لكن النتيجة مشابهه جدا، فقط حجم النتائج أشدّ هنا بعدة مرات.
"طلبت مقارنة؟ خلال ركود 2001 تراجعت الاستثمارات في السنة الأولى بـ 2.5%، في السنة الثانية تراجعت بـ 9.2%. هذا لا يشبه بالمرة ما نعيشه اليوم. صحيح أن زيادة الاستهلاك الفردي حينذاك تراجع إلى 0%، ولكن لم يكن هناك انخفاض. تضرر التصدير بـ 12% في السنة الأولى وبـ 2% إضافيين في السنة الثانية. أما في أزمة الكورونا فقد مرت حاليا سنة واحدة فقط، والركود حتى الآن أشد بكثير.
"نحن نرى ذلك أيضا في معطيات البطالة. في السنوات 2001-2003 وصلت البطالة إلى ذروة 10.2%، وعادت لتبدأ بالتراجع في 2004. اليوم نحن مع معطيات بطالة تصل نسبتها إلى ما فوق 15%. هناك جدل على المعطيات ولكن لو أخذنا المقياس الأوسع، 750 ألف معطل عن العمل، فنحن نقترب إلى 20% من نسبة البطالة".
(*) سؤال: قيل إن إسرائيل سوف تكتسب مناعة بسرعة، إلى أي درجة سيؤثر الركود العالمي علينا في الفترة القريبة؟
زعيرا: "سيؤثر جدا. إن انخفاض التصدير في دولة إسرائيل بـ 10% وهي التي يشكل التصدير 30% من إنتاجها، يعني أن التصدير تراجع بـ 3% من الناتج القومي العام. وهذا غير قليل. للمقارنة ولوضع الأمور في نصابها، نسبة النمو السنوي لكل الاقتصاد تصل إلى 3.5% من الناتج في السنة. صحيح أنهم يقولون بأن الهايتك لم يتعرض للضرر، ولكنني لا أتّكل على مثل هذه الحسابات. في كل الأحوال هذا مجرد جزء واحد فقط من مجمل التصدير. جيد أنه لم يتعرض لضرر، ولكن لدينا أنواع تصدير أخرى قد تضررت بالتأكيد. السياحة انهارت. هناك الكثير جدا من عمال البلاد الذين تضرروا، وهم ممن يرتبط عملهم بالتصدير وليس واضحا إن كانوا سيحظون بمكان عمل لاحقا".
(*) سؤال: تقول إن الأزمة عميقة جدا، فكيف يجب على الدولة أن تتعاطى معها لغرض تقليص الضرر؟
زعيرا: "يجب أن نساعد كل شخص تضرر من الركود. هذه هي وظيفة الدولة الحديثة، حين يكون هناك ركود يساعدون كل من يتضرر. ليس توفير كل الدخل، ولكن تقديم مساعدة لاجتياز المرحلة.
"هناك أشياء يمكن للدولة أن تقوم بها من ناحية الطلب وهي غير مرتبطة بمساعدة المتضررين بشكل مباشر. يمكنها أن تقوم، وأخيرا، بزيادة ميزانيات جهاز الصحة الذي لم ترفع ميزانيته منذ سنوات طويلة قياسا بارتفاع الناتج. على الرغم من أن احتياجات الجهاز قد كبرت ويجب القيام بملاءمات.
"إمكانية أخرى هي مساعدة جهاز التربية والتعليم. الاستثمار في جهاز التربية والتعليم توقّف في السنوات الأخيرة على ما يعادل 7%. ولكن الناس باتوا يتعلمون سنوات أكثر، وفترة التعليم ونطاق التعليم العالي ارتفعا بشكل كبير جدا، لكن بالمقابل المساهمة العامة لم تكبر. هناك مجالات أخرى يمكن للحكومة أن تستثمر فيها. جميع هذه المجالات طارئة وحيوية في جميع الأحوال بسبب الكورونا. جهاز المواصلات العامة غير قادر على تقديم بدائل آمنة للجمهور. هذا محور آخر يمكن الاستثمار فيه".
البروفسور زعيرا يصف تآكل القطاع العام أيضا على أنه تآكل في قدرة الحكومة على التعاطي مع الوباء: "هناك صعوبة بنيوية في تنظيم الحكومة، بجميع أذرعها. يجب تنظيم جميع الوزارات الحكومية معا ومن يقود الوزارات كلها وينسق بينها يفترض أن يكون مدير عام ديوان رئيس الحكومة.
"هذه الوظيفة بالكاد موجودة اليوم، ولكن هذه هي الطريق لإدارة القطاع العام بشكل فعال. بدلا من ذلك فإن المنسق العام (لشؤون كورونا) هو شخصية من عالم الطب وليس من عالم الإدارة العامة، مع كامل الاحترام لخبراء الطب، ليس لديهم القدرة على الإحاطة بالوزارات الحكومية والتنسيق بينها، ونحن نرى هذا".
أوصت منظمة OECD الدول الأعضاء فيها ببلورة خطط خروج من أزمة الكورونا. وهي خطط يفترض أن تشمل رزمة من الاستثمارات الجدية من قبل الحكومة. تطبيق هذه الخطة من المفترض أن ترتقي بالاقتصاد وتساعد المصالح التي ستكون غارقة في مصاعب اقتصادية في اليوم التالي للكورونا. ولكن زعيرا يشكك في قدرة القطاع العام بوضعه الراهن عموما على بلورة وتطبيق خطة كهذه، وذلك بعد سنوات من تآكل القطاع العام بفعل التقليصات في الميزانية والخصخصة.
ويشدّد: "إن السياسة النيو ليبرالية التي كانت هنا في السنوات الثلاثين الأخيرة جعلت القطاع العام يتآكل تماما، ونحن نأكل اليوم الثمار العفنة لذلك. حتى نخرج إلى عملية ترميم وتصحيح للاقتصاد، نحتاج إلى قوة بنيوية كبيرة وإلى رصد ميزانيات، نقص هذه الأمور كان واضحا جدا في هذا الوباء".
(*) سؤال: إذن ما هي احتمالات نجاح إسرائيل في بلورة خطة استثمارات للخروج من الأزمة على نسق توصية الـOECD?
زعيرا: "من الهراء التحدث عن خطة خروج من الأزمة. فمن سيقوم بذلك؟ ليست هناك حكومة. حين ينعدم الاستقرار السياسي لا جدوى من الحديث عن خطة خروج من الأزمة".
(*) سؤال: وفي حال قامت حكومة بعد الانتخابات القريبة؟
زعيرا: "في تلك الحالة أيضا، نحن أنتجنا واقعا سيكون من الصعب جدا فيه تطبيق خطة من هذا النوع في إسرائيل. الجهاز مهشم بسبب العديد من نصائح الـOECD. أنتجنا هنا جنة نيو ليبرالية، وأضعفنا القطاع العام، قلصناه وأضعفناه، والآن ليس هناك من يمكنه القيام بخطة كهذه. ليس هناك من يبلورها، وبالكاد هناك قدرة على تطبيق شيء كهذا. ينقصنا اليوم جهاز يعرف كيف يخطط، يضمن ويطبق خطة استثمارات من هذا النوع.
"ما كان يجب القيام به الآن قبل كل شيء هو إعادة بناء القدرات التي فقدناها في العقود الأخيرة. الطريق الوحيدة التي تعرف المنظومة تنفيذها الآن هي إعلان مناقصة، أو بكلمات أخرى إجراء خصخصة. إسرائيل هي دولة موجودة في وضع شديد الإشكالية بهذا المعنى، فليس من السهل القيام بدورة 180 درجة خلال لحظة واحدة في السياسة الاقتصادية، الرؤى، أنماط التفكير ومناهج تفعيل الاقتصاد.
"وفقاً لبيانات البنك المركزي الإسرائيلي، من المتوقع أن ينخفض الناتج المحلي الإجمالي لإسرائيل بمقدار 25 مليار شيكل، أي نحو 6.9 مليار دولار، بما يعادل نسبة 2.9 بالمئة في نهاية العام 2020، عوضاً عن 3 بالمئة التي تمَّ تقديرها قبل تفشي الوباء، وأشارت كبيرة الاقتصاديين في وزارة المالية شيرا غرينبرغ إلى أنّ تدابير مكافحة كورونا ستؤدِّي إلى حرمان الناتج المحلي الإجمالي من مبلغ أكبر من ذلك الذي صرَّح به البنك المركزي والذي قد يصل إلى 45 مليار شيكل، أي ما يقارب 12.5 مليار دولار، وتوقَّعت بأن تسجِّل إسرائيل مع نهاية عام 2020 نموا بمقدار صفر بسبب اتخاذ المزيد من الإجراءات الأكثر صرامة (وهو الحاصل اليوم- المحرر) والتي ستؤدِّي إلى تفاقم التأثير السلبي للوباء على الاقتصاد الإسرائيلي".
(*) سؤال: هل يمكن لهذه أن تكون فرصة لترميم المنظومة كلها؟
"هذه مسألة تتعلق باتخاذ القرار السياسي وليست مسألة تقنية. ليست هناك مشكلة في ترميم وإعادة تأهيل القطاع العام، يمكن القيام بهذا بسهولة، ولكن يجب منحه الثقة. يجب وضع مهام، رصد ميزانيات، وعدم المسارعة في كل شيء يحتاج تفعيلا إلى إعلان مناقصة والبحث عن جهات في القطاع الخاص.
ولكن إذا كنت تحاول الخروج من الأزمة بنفس الرؤية النيو ليبرالية، فهكذا ستكون عليه أيضاً استراتيجية خروجك منها. إذا فهمت أن ذلك كان خطأ فادحاً قد ارتكبناه في العقود الأخيرة، وإذا كنت تريد حكومة ضالعة أكثر في الاقتصاد، فيجدر بك استخدام هذه الأزمة تحديداً لغرض إعادة بناء القطاع العام".