تحمل إعادة الانتخابات العامة للمرّة الأولى في السنوات السبعين منذ أول انتخابات تشريعية إسرائيلية، الكثير من المؤشرات إلى استمرار عدم الاستقرار السياسي، وحالة التخبط السياسي القائمة بين الأحزاب، وداخل الأحزاب. فقبل انتخابات نيسان رأينا تفكك تحالفات، لتدفع أحزابها ثمنا كبيرا في قوتها. والآن نرى تحالفات جديدة ستعيد توزيع المقاعد البرلمانية من جديد.
ولكن المؤشر الأبرز أنه في حين أن انتخابات نيسان دارت حول ملفات فساد بنيامين نتنياهو، وتبين أنها ورقة ليست ذات وزن، نرى الآن أن المنافسة الأساس تدور حول ضم المستوطنات الاحتلالية، وفرض ما يسمى "السيادة الإسرائيلية" عليها، وهذا يبرز بشكل خاص لدى قائمة "أزرق أبيض" التحالفية، التي أبرزت في الأسابيع الأخيرة حقيقتها اليمينية، بل وحتى اليمينية الاستيطانية، في سبيل الوصول إلى رأس الهرم السياسي، وهو هدف يعرف حاملوه أنه صعب المنال، وفق المعادلات السياسية القائمة، أيضا في انتخابات أيلول.
وقد جرت انتخابات نيسان في ظل التحقيقات بقضايا الفساد مع نتنياهو وزوجته، وتوالت توصيات الشرطة، ومعها النيابة العامة، حتى أعلن المستشار القانوني للحكومة نيته تقديم نتنياهو للمحاكمة في ثلاث قضايا متفاوتة في مستواها، واحدة فقط تتعلق بتلقي الرشوة، والملفان الآخران في قضايا خرق الأمانة والثقة. وكان من المفترض أن يجري جلسة استماع لطاقم دفاع نتنياهو في أوائل تموز الماضي، قبل أن يتخذ المستشار القانوني القرار النهائي بشأن لوائح الاتهام. إلا أن عدم تشكيل حكومة، والذهاب إلى انتخابات معادة، أديا إلى تأجيل جلسة الاستماع إلى مطلع تشرين الأول المقبل، ليستفيد نتنياهو من أشهر طويلة أخرى، قبل صدور القرار النهائي بشأن لوائح الاتهام، وسط توقعات بأن تكون لوائح الاتهام بدرجة أخف، تجيز لنتنياهو الاستمرار في منصبه. وتبقى هذه فرضية.
وقد أظهرت نتائج انتخابات نيسان أن الجمهور ليس في وارد فساد نتنياهو، وقد نجحت الحملة الدعائية المضادة التي قادها نتنياهو بتسخيف التهم الموجهة له، بموازاة اتهام جهاز الشرطة والنيابة بأنه يلاحق نتنياهو سياسيا ويريد إسقاط حكم اليمين؛ رغم أن من يجلسون اليوم في قيادة هذه الأجهزة، هم من تعيينات حكومات نتنياهو، بمن فيهم المستشار القانوني أفيحاي مندلبليت، الذي حارب نتنياهو من أجل تعيينه في منصبه.
وقد حصل حزب الليكود على النتيجة التي لم يتوقعها أيٌ من استطلاعات الرأي على مدى الأشهر والأيام الأخيرة التي سبقت الانتخابات- 35 مقعدا، بزيادة 5 مقاعد عما كان للحزب في العام 2015. وهذا يعزز الاستنتاج بأن الجمهور ليس على قناعة بأن ما ارتكبه نتنياهو يندرج في إطار الفساد، طالما أنه ليس في الموضوع اختلاس مباشر، أو تلقي أموال نقدية لجيبه مباشرة، وإنما "هدايا" تقدر بمئات آلاف الدولارات، أو سعيه للحصول على "تغطية إعلامية إيجابية" في وسائل إعلام كبرى.
وما ساعد على هذه الأجواء في الشارع الإسرائيلي هو أن الشريحة الوسطى، شريحة الأغلبية اليهودية، تشعر بتحسن اقتصادي في السنوات العشر الأخيرة؛ انخفاض في البطالة إلى ما دون 4%، وبين اليهود في محيط 3%، وهذه لا تعد بطالة؛ وارتفاع متواصل في معدلات الرواتب، وبالتالي مستوى المعيشة؛ وذلك برغم كل الأحاديث عن ارتفاع كلفة المعيشة.
وكما يبدو فإن خصوم نتنياهو استوعبوا أن المقارعة الانتخابية على خلفية الفساد لا تحقق الكثير، ولذا فإن الجسم الانتخابي المركزي الذي يواجه نتنياهو انتقل إلى ملاعب اليمين الاستيطاني، وهذا ما رأيناه في الأيام الأخيرة.
السباق على الضم
منذ أن تقررت إعادة الانتخابات، رأينا تحولا في خطاب التحالف الانتخابي "أزرق أبيض" الذي يترأسه ثلاثة رؤساء أركان بارزين سابقين: أولهم بيني غانتس، وفي المقعد الثالث موشيه يعلون، الذي كان لعام واحد، وزيرا للدفاع في حكومة نتنياهو الأخيرة، وفي المقعد الرابع غابي أشكنازي. بينما المقعد الثاني هو لرئيس حزب "يوجد مستقبل"، يائير لبيد، الذي يبرز أكثر فأكثر بتصريحاته السياسية المتطرفة.
والتحول الأول هو تغييب واضح لقضايا فساد نتنياهو، وثانيا، الانتقال إلى خطاب ضم المستوطنات.
فقبل أكثر من أسبوعين، أجرى المرشحون الأربعة الأوائل جولة في مستوطنات غور الأردن، ليعلنوا من هناك أن هذه المنطقة المحتلة "ستبقى جزءا من إسرائيل"، حسب تعبيرهم. ومثل هذا، كان قبل الانتخابات السابقة في مرتفعات الجولان السورية المحتلة، وعاودوا الكرّة أيضا قبل بضعة أسابيع في ذات المنطقة.
وتبع هذا شريط فيديو قصير لأحد أعضاء الكنيست من تحالف "أزرق أبيض" يدعو فيه لزيارة التكتل الاستيطاني "غوش عتسيون" (غربي بيت لحم) وأيضا الاستيطان فيه.
وفي اليوم التالي، أطلق غانتس تهديدات دموية ضد قطاع غزة، قائلا إنه إذا ما ترأس الحكومة، فإن أي حرب على قطاع غزة ستكون الأخيرة، مهددا باغتيالات سياسية، بينها قيادة حركة حماس.
وفي يوم الجمعة 8 آب الجاري، زار غانتس التكتل الاستيطاني "غوش عتسيون"، بعد ساعات من العثور على أحد جنود الاحتلال مقتولا، وقال هناك: "سنواصل البناء في الكتل الاستيطانية، وسنواصل تطويرها. سنفعل هذا من خلال رؤية استراتيجية، وليس من خلال رؤية سياسية قصيرة المدى، سنبني في كل مكان، هنا، في غوش عتسيون، الذي هو دائما جزء من دولة إسرائيل، وفي كل واحد من الأماكن التي نرى أن لنا فيها قيما استراتيجية من المهم الحفاظ عليها".
وكما يبدو، فإن غانتس وأعضاء فريقه يسعون إلى إبراز طابعهم العسكري. فمثلا، في يوم تقديم قائمة تحالف "أزرق أبيض" للجنة الانتخابات المركزية، سُئل غانتس من الصحافيين عما إذا سيقبل الجلوس في حكومة وحدة برئاسة بنيامين نتنياهو، فأجاب على الفور بـ "نعم". وبعد أن لفت نظره أحد المستشارين بأنه أخطأ في الرد، وعليه أن يبرز جانب رئاسته هو للحكومة، قال للصحافيين: لم أسمع السؤال صحيحا، فقد جاء من ناحية الأذن اليمينية، وهذه "أذن رشاش إم 16"، الإسرائيلي الصنع.
ولكن كما يبدو، فإن هناك رغبة في تحالف "أزرق أبيض" بالدخول لحكومة نتنياهو. فقد أعلن الأخير، يوم 7 آب الجاري، أنه لن يقيم حكومة وحدة قومية، بل يريدها حكومة يمين ذات أغلبية واضحة، بقصد ضمان أغلبية من دون حزب "يسرائيل بيتينو" برئاسة أفيغدور ليبرمان. فردّ المرشح الثاني في "أزرق أبيض"، يائير لبيد في تغريدة في حسابه على تويتر: "قد يكون نتنياهو ضد الوحدة، لكن كبار أعضاء الكنيست يؤيدون تماما. هم يتحدثون معنا كل يوم".
وليس فقط "أزرق أبيض"، إنما أيضا حزب العمل، الذي يظهر في استطلاعات الرأي أن تحالفه مع النائبة أورلي ليفي- أبكسيس سيبقيه في قاع قائمة الكتل البرلمانية مع 5 مقاعد. فقد اختار رئيس حزب العمل عمير بيرتس، في أحد أفلامه الدعائية القصيرة، الفترة التي تولى فيها منصب وزير الدفاع في حكومة إيهود أولمرت، من ربيع 2006 حتى صيف 2007. وفي الخلفية هو يبرز الحربين على قطاع غزة ولبنان في صيف 2006، رغم أنه في الأيام الأخيرة عاد وارتكز على جانب القضايا الاقتصادية الاجتماعية.
الاستطلاعات: ليبرمان بيضة القبّان
تقدمت 32 قائمة مرشحين للانتخابات البرلمانية، وهو أقل عدد للقوائم المرشحة منذ سنين طويلة، بفعل إعادة الانتخابات بعد خمسة أشهر من انتخابات نيسان، وعدم قدرة قوائم منافسة صغيرة على تمويل حملة ثانية خلال بضعة أشهر، مع معرفتها المسبقة بعدم اجتيازها نسبة الحسم. كذلك فإن عدد الكتل المرشحة للفوز بمقاعد برلمانية سيهبط إلى 9 كتل بدلا من 11 كتلة في انتخابات نيسان، بفعل التحالفات.
وقد ترشحت لانتخابات نيسان 47 قائمة، عند إغلاق باب التشريحات، ولاحقا انسحبت 6 قوائم، لتتنافس في يوم الانتخابات 41 قائمة، فازت منها 11 قائمة، تراوح تمثيلها من 4 مقاعد كأدنى حد، إلى 35 مقعدا كأعلى حد، وهو التمثيل الأعلى الذي حظي به حزب الليكود، ومثله تحالف "أزرق أبيض".
وحتى الأيام الأخيرة الماضية، تدل استطلاعات الرأي على أنه لن يكون هناك حسم لتحالف اليمين الاستيطاني برئاسة بنيامين نتنياهو، من دون حزب "يسرائيل بيتينو" برئاسة أفيغدور ليبرمان، الذي تواصل استطلاعات الرأي منحه ما بين 9 إلى 10 مقاعد، في حين أن باقي القوائم المتحالفة مع الليكود تحصل حتى الآن على ما بين 54 إلى 55 مقعدا.
ومما يُضعف تحالف اليمين الاستيطاني في انتخابات أيلول المقبل، أنه مرشح لخسارة ما يعادل 5 إلى 6 مقاعد، بمعنى ما بين 150 ألف إلى 180 ألف صوت، ستكون وفق التقديرات من نصيب قائمة "عوتسما يهوديت" المنبثقة عن حركة "كاخ" الإرهابية، بزعامة المتطرف إيتمار بن غفير، والتي قد تحصل على ما بين 70 ألف إلى 80 ألف صوت، ومثلها ولربما أكثر، قد تكون من نصيب قائمة زهوت، التي حصلت على 118 ألف صوت، أقل بنحو 22 ألف صوت مما احتاجته نسبة الحسم، وهي برئاسة المتطرف موشيه فيغلين.
فكل المحاولات لضم "عوتسما يهوديت" لتحالف "يامينا" الناشئ مجددا قد باءت بالفشل، فقائمة "يامينا"، تضم مركّبات قائمة "البيت اليهودي" التي خاضت انتخابات 2013 و2015. وتفككت تمهيدا لانتخابات نيسان 2019. وقد طالبت "عوتسما يهوديت" بمقعدين مضمونين، الخامس والـ 11 كشرط لدخول القائمة، إلا أن التحالف منح هذه الحركة المقعدين الـ 8 والـ 13. وكل الوقت، كانت قائمة "زهوت" خارج المفاوضات للانضمام لهذا التحالف الذي يضم أحزاب المستوطنين. وكانت "زهوت" قد حصلت في انتخابات نيسان على هذا الكم الكبير من الأصوات (118 ألفا) بعدما أعلن فيغلين عن موافقته على تشريع استخدام القنب. وكانت استطلاعات الرأي تمنحه ما بين 5 إلى 6 مقاعد، إلا أنه في نهاية المطاف لم يجتز نسبة الحسم، وحصل على ما يعادل 3 مقاعد.
والأصوات المرشحة للحرق من اليمين الاستيطاني ستكون مصيرية بالنسبة لهذا المعسكر، لأنها ستشكل خسارة في التمثيل، كما أن هذه الخسارة ستعيد توزيع المقاعد على باقي الكتل، علما أنه في انتخابات نيسان حرق معسكر اليمين الاستيطاني أكثر من 260 ألف صوت، وكانت تعادل 8 مقاعد.
في الأسابيع الأربعة المتبقية حتى يوم الانتخابات، فإن كل الاحتمالات واردة. وأولها ممارسة الضغط على القائمتين بالانسحاب من المنافسة الانتخابية، وقد يكون الضغط ناجحا أكثر على قائمة "زهوت"، بينما من الصعب رؤية "عوتسما يهوديت" تنسحب من المنافسة، لأنها تحتاج لإثبات وجودها على الخارطة، تمهيدا للانتخابات التالية.
في المقابل، فإن احتمال تراجع ليبرمان في استطلاعات الرأي يبقى واردا جدا، إذ أن كل استطلاعات الرأي في السنوات الأخيرة تفشل في عرض صورة دقيقة للنتائج النهائية، وإنما تعرض اتجاها ما.
وليبرمان يركز الآن على نقطتين مركزيتين: حكومة وحدة قومية تستثني كتلتي الحريديم، وثانيا قبوله برئاسة الليكود للحكومة، ولكن ليس بنيامين نتنياهو. وحتى الآن يرتكز ليبرمان، كما يبدو، على أصوات يمين متشدد، يرفض قوانين الإكراه الديني، ويدعو لفرض الخدمة العسكرية على شبان الحريديم. ولكن هذا الجمهور، في حال اقترب يوم الانتخابات ورأى أن حكم اليمين الاستيطاني في خطر، قد يغير أولوياته، ويلجأ إلى من يضمن بقاء الليكود ونتنياهو، حتى بثمن التساهل مع الحريديم.
مع ذلك ووفق ما هو ظاهر حتى الآن في استطلاعات الرأي، فإن أي تراجع محتمل لليبرمان سيبقيه كما يبدو بيضة القبان، بعد الانتخابات. ولكن هذه "البيضة" لن تميل في أي حال من الأحوال لترشيح رئيس "أزرق أبيض" لتشكيل الحكومة، وإنما للضغط لقيام حكومة موسعة. ولكن لا شيء مضموناً لدى ليبرمان، الذي قد ينقلب على كل شعاراته، ويدعم حكومة نتنياهو المقبلة حتى من دون "أزرق أبيض".
المصطلحات المستخدمة:
المستشار القانوني للحكومة, كاخ, الليكود, الكنيست, بنيامين نتنياهو, موشيه يعلون, عمير بيرتس, يائير لبيد, أفيغدور ليبرمان