المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 1011
  • سليم سلامة

يبدو، مما يمكن اعتباره "برامج انتخابية" تُطرح تباعاً خلال الفترة الأخيرة، سواء بتصريحات متفرقة أو بنصوص معدّة بإحكام، تمهيداً للانتخابات الوشيكة التي ستجرى يوم 17 أيلول القريب للكنيست الـ 22، أن الائتلاف اليميني الحاكم ـ الذي تشير مختلف استطلاعات الرأي إلى أنه سيواصل التربع على سدة الحكم في إسرائيل خلال السنوات المقبلة أيضاً ـ مصمِّم على تغيير الوضع القانوني القائم حالياً، عبر الإخلال بالتوازن القائم ما بين السلطة التشريعية (الكنيست) والسلطة القضائية (المحاكم، وفي مقدمتها بالطبع المحكمة العليا)، وذلك من خلال إحدى المبادرات التشريعية التي تنوي الحكومة وائتلافها دفعها وتنفيذها ومن بينها بشكل أساسي: مشروع "قانون أساس: القضاء"، الذي سينتزع ويلغي صلاحية المحكمة العليا ـ كما هي اليوم ـ إلغاء قانون سنّه الكنيست (وهي المبادرة المعروفة باسم "النموذج البريطاني") أو، بدلاً منها، مبادرة تشريعية أخرى هي الاقتراح القاضي بتمكين الكنيست من إعادة سنّ قانون، أو بند من قانون، قررت المحكمة العليا إلغاءه، وذلك بواسطة أغلبية ائتلافية عادية قوامها 61 عضواً من أعضاء الكنيست (وهي المعروفة بصيغة "فقرة التغلب").

على هذه الخلفية، أعاد "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية" التذكير بأن نحو 58% من الجمهور الإسرائيلي يعارض المبادرات الرامية إلى تقليص صلاحيات المحكمة العليا، وخصوصا صلاحيتها في إلغاء قوانين سنها الكنيست، بينما يؤيد 38% من الجمهور هذه المبادرات. وطبقاً لنتائج استطلاع "مؤشر الديمقراطية"، فإن مستوى الثقة بالمحكمة العليا بين الجمهور الإسرائيلي (56%) يعادل أكثر من ضعفيّ مستوى الثقة بالكنيست (26%) ونحو ضعفيّ مستوى الثقة بالحكومة (29%).

وفي هذا السياق، ينشر "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية" مقالين لاثنين من الباحثين فيه يعالجان هذه المبادرات التشريعية بما تتضمنه وتثيره من هجوم على السلطة القضائية عموماً، والمحكمة العليا خصوصاً، فيؤكدان، كل من زاويته، على أن هذا الهجوم إنما يرمي إلى تغيير طبيعة "النظام الديمقراطي" في إسرائيل.

خطر على كل فرد

يرى البروفسور يديديا شطيرن، أستاذ القانون والباحث في "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية"، في مقال نشره مؤخراً بعنوان "الخطر ما بين السياسي والقضائي"، أن كون الكنيست "الجسم المنتخَب الذي يمثل إرادة المواطنين الجماعية" يغري كثيرين باعتماد موقف مؤيد وداعم لهذه المبادرات التشريعية عموماً، أو للمبادرتين المذكورتين أعلاه خصوصاً ("النموذج البريطاني" و"فقرة التغلب")، إذ كيف للمحكمة أن تستعلي وأن تتجرأ على رفض/ إلغاء ما قال "الشعب" إنه معني به ويريده، من خلال ممثليه المنتخّبين؟؟

لكن الحقيقة التي ينبغي تأكيدها بكل صراحة ووضوح هي ـ يضيف شطيرن ـ أن هذه المبادرات والاقتراحات "تنطوي على تهديد جدي جداً على كل فرد يعيش في دولة إسرائيل". ذلك أن إسرائيل هي دولة متعددة الأقليات وكل فرد ممن يعيشون فيها هو "جزء من أقلية، إن لم يكن اليوم فغداً". ولهذا، فإن جميع المواطنين في إسرائيل هم في عداد "مجموعة الخطر" التي قد تتأذى من نظام يكون فيه الكنيست، الذي تحكمه الحكومة (بائتلافها البرلماني) وتسيّره، قادراً على تشريع ما يحلو له من قوانين، دون أية قيود ـ قوانين تمس بحقوق الإنسان الأكثر أساسية، بحقوق الأفراد والجماعات.

في غياب الرقابة القضائية على الكنيست وتشريعاته، قد يُصار مستقبلاً إلى سن قوانين تؤدي إلى المس بحقوق الإنسان الأساسية، وخصوصاً من فئات ومجموعات ضعيفة اقتصادياً (مثلاً: إلغاء أو تقييد حق العمال في الإضراب أو المس بمخصصات الحكومية المدفوعة لضمان الحد الأدنى من المعيشة)؛ المسّ بسلامة الإجراءات الديمقراطية (مثلاً: تمويل الأحزاب بطريقة تقوم على تفضيل الأحزاب الكبيرة، أو تقييد صلاحيات المستشار القانوني للحكومة، صلاحيات لجان الكنيست وصلاحيات مراقب الدولة)؛ المسّ بحرية التعبير (مثلاً: فرض الرقابة على الفنون، أو فرض قيود على وسائل الإعلام، أو كمّ أفواه منظمات المجتمع المدني)؛ المس بحقوق جندرية أساسية (مثلاً: إقصاء النساء من الحيز الجماهيري، العام أو العسكري، أو المس بحقوق المثليات والمثليين)؛ المسّ بحق التحرر من الدين (مثلاً: العودة إلى تشريعات الإكراه الديني في ما يتعلق بأيام السبت، بالحلال/ الكشير وبالحالة الشخصية/ الزواج والطلاق)؛ المسّ بحرية العبادة (في تركيبة ائتلافية مغايرة) وحتى المسّ بحقوق الأغلبية (مثلاً: قانون يرفض تجنيد الحريديم، دون أية قيود أو شروط).

جميع هذه الأمثلة، يقول شطيرن، هي جزء يسير فقط مما كان مطروحاً في السابق، أو ما زال مطروحاً اليوم أيضاً، "على الطاولة" وقد تتحقق واقعاً. ومن المنطقي الافتراض بأن فكّ اللجام سيغري الشركاء الائتلافيين بتحقيق قوتهم، وسط المس بمساواة، بحرية وبكرامة آخرين كثيرين. وعلى المدى البعيد، سيرفع مستوى نهمهم، الذي كان مقيداً وملجوماً حتى اليوم بأن ثمة من يمارس عليهم الرقابة (القضائية) وقد لا يسمح لهم بتنفيذ ما من شأنه المس بقيم دستورية أساسية. أما في المستقبل، في غياب التوازنات والكوابح، فإن الائتلاف الحكومي "سيحكم"، بكل ما في ذلك من معنى ومن آثار محتملة على حياة الجميع.

"دفن مهين للنظام الدستوري في إسرائيل"

يرى شطيرن أن "الكنيست ليس عديم الأخلاق أو معاد لحقوق الإنسان، بشكل عام"، ولكن مع ذلك، "من الواضح أن المصالح السياسية هي القوة المحركة المركزية لأعضاء الكنيست". وبما أن المجتمع الإسرائيلي "يعاني من الصدوع والشروخ المزمنة، يعيش على رمال متحركة"، فإن الحلبة الجماهيرية تبدو عاصفة وجارفة، تعيش في ظل أزمات مستمرة ودائمة "تذكي، معاً، حرباً ثقافية". وفي مثل هذه الأجواء، "يبدو الخوف من اللحظة الشعبوية الهائجة، التي يُفتَقَد فيها التوازن الرسمي والالتزام بحقوق الإنسان، خوفاً حقيقياً، ملموساً وجدياً، لا وهمياً".

هل يدرك الجمهور الإسرائيلي عموماً هذا الخطر، حقاً؟ يجيب شطيرن على هذا السؤال بالإيجاب، مضيفاً إنه بالرغم من الديماغوغيا المستمرة ضد "الامبريالية القضائية" (كما يتهم متحدثو اليمين الجهاز القضائي عموما والمحكمة العليا خصوصا، في إطار الهجوم عليهما)، إلا أن 58% من الجمهور الإسرائيلي يعتقدون بأنه لا يجوز انتزاع صلاحية المحكمة العليا إلغاء قوانين.

ويخلص شطيرن في ختام مقالته إلى القول إن الحكومة (وائتلافها اليميني) تريد
"حلق رؤوس" قوانين الأساس في إسرائيل، والتي هي بمثابة فصول من الدستور الذي تعهدت "وثيقة الاستقلال" بوضعه. ولكن، إذا ما نجح الكنيست في تجاهل نصوص القوانين الأساس تلك وأحكامها، بسن قوانين أخرى تتجاوزها وتتناقض معها، بواسطة أغلبية ائتلافية ما، فسيكون هذا بمثابة "دفن مهين للنظام الدستوري في إسرائيل".

تشريعات ستجعل الكنيست أحد المؤسسات التشريعية الأقوى في العالم!

إذا ما نجحت المحاولات الرامية إلى وضع تشريعات قانونية خاصة لتقليص صلاحيات المحكمة العليا وتضييق مجالات عملها وحدود تدخلها القانوني، فسيصبح الكنيست (بصفته البرلمان/ الهيئة التشريعية التي ستقرّ هذه التشريعات) "أحد المؤسسات التشريعية الأقوى في العالم، وهو المحكوم فعلياً من قبل حكومة الإسرائيلية". هذا ما يجزم به البروفسور عميحاي كوهين، أستاذ القانون والباحث في "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية"، في مقال نشره مؤخراً تحت عنوان "سلطة بلا حدود".

يوضح كوهين أن ليس ثمة أية قيود سياسية على صلاحية التشريع التي يمتلكها الكنيست، ما يعني إن أي مس بصلاحية المحكمة العليا في مجال إلغاء قوانين، أو بنود قوانين، لعدم دستوريتها (تناقضها مع نص أحد قوانين الأساس) سيؤدي، بالضرورة وبصورة مباشرة، إلى تعزيز قوة الكنيست بدرجة كبيرة إلى حدّ جعله مؤسسة تمتلك من القوة ما يفوق، بكثير، قوة أية مؤسسة تشريعية في أية دولة ديمقراطية غربية.

كثيرون ممن يؤيدون هذه المبادرات التشريعية ويدفعون بها إلى أمام يسندون مقترحاتهم في هذا الصدد بقيود مشابهة تنص عليها دساتير دول معينة، مثل كندا التي يستطيع فيها البرلمان إعادة تشريع قانون أقرت المحكمة العليا الكندية شطبه بأغلبية خاصة، أو مثل بريطانيا التي تتمتع محكمتها العليا بصلاحية محصورة في تقديم ملاحظة إلى البرلمان بشأن تشريع قانوني يمس بحقوق الإنسان، فقط، لكن ليس إلغاء التشريع.
لكن المبادرات المذكورة تعرض الموضوع، عموماً، وكأنه "محصور في قوة المحكمة العليا"، بينما الحقيقة هي أن "المحكمة العليا ليست هي الموضوع هنا، إطلاقاً، وإنما الكنيست هو الموضوع، وبالتحديد أكثر: الائتلاف الحكومي هو الموضوع"، لأن إقرار تلك التشريعات القانونية هو الذي سيجعل الكنيست أحد المؤسسات التشريعية الأقوى في العالم كله، في الوقت الذي يعرف الجميع أن الحكومة (من خلال ائتلافها الحكومي ـ البرلماني) هي التي تسيطر على الكنيست وتتحكم به بصورة فعلية وتامة.

قيود على السلطة التشريعية ـ نماذج من العالم

الرقابة القضائية، بمعنى قدرة المحكمة العليا على إلغاء نص قانوني شرّعه البرلمان، هي واحد فقط من قيود عديدة ومختلفة مفروضة على قوة البرلمان في الأنظمة الديمقراطية. وهذه إحدى الميزات التي يمكن الانتباه إلى وجودها في جميع الدول الديمقراطية في العالم، تقريبا ـ قيود على قوة البرلمان تبتغي موازنة وترشيد قدرته على التشريع. ففي كندا، على سبيل المثال، ثمة قيود حادة على قوة الحكومة وقدرتها على التشريع، نابعة من كونها دولة فيدرالية يوكل جزء كبير من صلاحيات التشريع القانوني فيها إلى المحافظات المختلفة، وليس إلى السلطة المركزية (الحكومة الفيدرالية). وإضافة إلى ذلك، البرلمان (السلطة التشريعية) في كندا ـ كما في دول أخرى عديدة في العالم ـ مقسّم إلى "بيتين" (مجلسين) ويحتاج كل تشريع إلى إقراره من قبل المجلسين معاً، لا أحدهما فقط.

في بريطانيا، أيضاً، هنالك مجلسان تشريعيان (برلمانان)، ورغم التآكل الحاد الذي حصل في قوة "مجلس اللوردات" وصلاحياته، إلا إنه لا يزال يحتفظ بصلاحية المطالبة بإدخال تعديلات قانونية أو تأجيلها. ومن المميزات الأخرى في بريطانيا: انتخابات المحافظات (الدوائر) التي توازن قوة الأغلبية البرلمانية، إذ أن كل منتخَب جمهور ملزم بفحص ما إذا كان الموقف الحكومي منسجماً مع مصالح دائرته الانتخابية العينية أم لا، قبل اتخاذ قراره بتأييد تشريع ما أو معارضته. كما تنضوي بريطانيا، أيضاً، تحت لواء المعاهدة الأوروبية لحقوق الإنسان، والتي أقيمت على أساسها المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، المخولة صلاحية النظر في أعمال الحكومة وفي التشريعات القانونية وتحديد ما إذا كانت تتعارض مع نصوص المعاهدة وتمس بحقوق الإنسان أم لا. ورغم أن هذه المحكمة لا تمتلك صلاحية إلغاء تشريعات البرلمان البريطاني، إلا أن الدولة البريطانية لا تتجاهل، إطلاقاً تقريباً، قراراتها القضائية وأحكامها. وجدير بالذكر هنا أن بريطانيا ستتبقى خاضعة لهذه المحكمة، حتى بعد انسحابها من الاتحاد الأوروبي.

تكتسب مسألة التوازنات أهمية استثنائية خاصة في الدول ذات أنظمة الحكم الرئاسية، إذ ثمة للرئيس فيها صلاحيات واسعة توازِن قوة البرلمان وتخلق حالة من الفصل والتوازن الواضحين بين السلطة التشريعية (البرلمان) والسلطة التنفيذية (الحكومة). هكذا الحال في الولايات المتحدة، على سبيل المثال: الرئيس الذي يقف على رأس السلطة التنفيذية ويمتلك صلاحية نقض (فيتو) أي تشريع فيدرالي، علماً بأن إقرار التشريع يحتاج إلى المصادقة عليه في مجلسيّ الكونغرس/ البرلمان (مجلس النواب ومجلس الشيوخ). ولا يستطيع الكونغرس "التغلب على" الفيتو الرئاسي إلا بأغلبية ثلثيّ أعضاء مجلسيه، وهي أغلبية لم يتحصل عليها أي من الحزبين الأكبرين في الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية.

ثمة نوع آخر (ثالث) من القيود المفروضة على البرلمانات (السلطة التشريعية) هو ذاك القائم في الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، إذ تخضع هذه الدول لتشريعات المؤسسات الأوروبية ولمعاهدات الاتحاد الأوروبي والتي تشمل، ضمن ما تشمل، ميثاق الحقوق الأساسية في الاتحاد الأوروبي، والذي تقوم "محكمة العدل الأوروبية" بفرض وتطبيق نصوصه وأحكامه.

الكنيست ـ حالة شاذة!

تبيّن النماذج البارزة أعلاه، بما لا يبقي مجالاً للشك أو النقاش، أن ثمة في جميع الأنظمة الديمقراطية في العالم قيوداً سياسية واضحة ومحددة على صلاحيات التشريع التي يتمتع بها البرمان/ السلطة التشريعية.

أما الكنيست الإسرائيلي، فليس ثمة أية قيود أو حدود سياسية مفروضة على صلاحياته التشريعية، كما يؤكد البروفسور عميحاي كوهين. من أجل تشكيل ائتلاف حكومي (وحكومة) تكفي مصادقة "بيت" (مجلس) واحد فقط، إذ ليس ثمة "منافس" تشريعي للكنيست. كذلك، ليست ثمة أية قيود خارجية على الكنيست، مما يجعل انتهاكاته (لحقوق إنسان أساسية) تحمل خطورة خاصة وتنطوي على آثار وانعكاسات عميقة جداً. وعلاوة على هذا، ينبغي التأكيد على أن الانتخابات في إسرائيل هي قُطرية عامة وليست لوائية (مناطقية)، الأمر الذي يخلق حالة من الطاعة الائتلافية المشددة في الكنيست.

من هذا كله، يتضح أن المس بصلاحيات المحكمة العليا وتقليصها، وخصوصا فيما يتعلق بصلاحية إلغاء قوانين، بصورة كاملة أو جزئية، سنّها الكنيست، يعني فعلياً تعزيز قوة الكنيست بدرجة كبيرة، إلى حد جعله مؤسسة ذات قوة تفوق قوة أية مؤسسة تشريعية أخرى في أية دولة ديمقراطية غربية. وتبين نظرة تاريخية مقارنة أن مصممي النظام الديمقراطي الحديث قد تنبهوا إلى هذا الوضع بالضبط وتخوفوا منه، ليس بسبب الحاجة إلى تقييد سلطة الأغلبية تحديداً وإنما لأن تركيز قوة كبيرة كهذه بين يديّ مؤسسة سلطوية أياً كانت، وخصوصاً بين يديّ السلطة التنفيذية، هو أمر في غاية الخطورة على كل ما يتصل بحقوق الإنسان والمواطن، التي تشكل مبدأ الأساس في النظام الديمقراطي. بدون قيود، كالتي ذكرت أعلاه، سيصبح الكنيست، ثم الحكومة من خلاله وبواسطته، مؤسسة تمتلك قوة غير محدودة، ما يشكل خطراً جسيماً وملموساً على حرية المواطن وخطراً مركزياً، بالتالي، على النظام الديمقراطي برمته.

 معركة الحكومة الإسرائيلية ضد صلاحيات المحكمة العليا (خلفيات ووقائع)!

لم تبدأ المعركة الرامية إلى الانتقاص من صلاحيات المحكمة العليا، أو إلى تغيير تركيبتها وتقليل مكانتها، في حكومات بنيامين نتنياهو الأخيرة، بالرغم من أن نتنياهو طرح مثل هذا الموقف في حكومته الأولى (1996- 1999). فقد برزت هذه المعركة بشكل آخر في ظل حكومة حزب "كديما" برئاسة إيهود أولمرت، حينما كان وزير العدل حاييم رامون. وقد تولى رامون وزارة العدل لعدة أشهر في العام 2006، واضطر للاستقالة منها في أعقاب قضية تحرّش جنسي. ولكن بضعة الأشهر تلك كانت كافية للإعلان عن نواياه بتغيير أنظمة تعيين القضاة، ليكون الوزن أكبر للجهاز السياسي، ولكن ليس هذا فحسب، بل هو أيضا عبّر عن اعتراضه على مدى تدخل المحكمة العليا في القوانين التي يقرّها الكنيست.

وبعد اضطرار رامون إلى الاستقالة، تم استقدام المحامي والخبير الحقوقي البروفسور دانييل فريدمان. واتضح لاحقا أن فريدمان ذاته كان من الموجهين لرامون، وجاء ليكمل المهمة؛ ما يعني أن هذا المشروع كان أكبر من فكرة شخص في الحكومة. لكن حكومة أولمرت حلّت نفسها قبل إحداث أي تغيير.

ومنذ الأيام الأولى لحكومة نتنياهو الثانية، في ربيع العام 2009، أبدى رئيسها نيته بتغيير قوانين وأنظمة في جهاز القضاء، وبشكل خاص تقويض صلاحية المحكمة العليا في موضوع التدخل في القوانين. ورغم تشكيل 3 حكومات، إلا أن مثل هذه القوانين لم تسن بعد. بل جرى تغيير طفيف في لجان تعيين القضاة. ولكن قبل هذا، نجحت إحدى هذه الحكومات بتغيير قانون تعيين رئيس المحكمة العليا، الذي كان يقضي بتعيين الأكبر سنا، شرط أن يكون عمره حتى 66 عاما، كون القاضي يخرج للتقاعد بعمر 70 عاما، ومن يتم انتخابه رئيسا يبقى في منصبه حتى تقاعده. وكان الغرض من تعديل هذا القانون هو السماح للقاضي آشير غرونيس، المحسوب على اليمين، بأن يتولى المنصب حينما يكون عمره 67 عاما، فور استقالة دوريت بينيش، التي اتبعت نهج سابقها الليبرالي أهارون باراك.

ويخوض نتنياهو من خلال حكوماته الأخيرة، ولكن قبله أيضا حكومة "كديما" برئاسة أولمرت، معركة من أجل تقويض صلاحيات المحكمة العليا، والسعي إلى تغيير جذري في تركيبتها لتكون هيئة القضاة ذات أغلبية مطلقة من أنصار اليمين الاستيطاني.

والمحاولة التي بدأت بالذات في الولاية البرلمانية السابقة هي أن يكون بمقدور الكنيست أن يسن قانونا من جديد بعد أن تكون قد ألغته المحكمة، لكن ضمن شروط كهذه أو تلك، وعليها خلاف. فمثلا يقترح نتنياهو سن قانون مشابه للقانون البريطاني، الذي لا يجيز للمحكمة العليا نقض قوانين يقرّها الكنيست، بل يتيح للمحكمة أن تبدي رأيها بالقانون، مثل إذا كان مناسبا أم لا. إلا أن معارضي هذه الفكرة يقولون إن في بريطانيا دستورا واضحا، وهذا غير قائم في إسرائيل، كما أن في بريطانيا هيئتين تشريعيتين، والقصد البرلمان ومجلس الشيوخ؛ ما يعني أن القانون يمر في عدة مراحل، ووفق قيود يحددها الدستور.

وحسب تقارير سابقة، فإن المستوى المهني في وزارة العدل، ومعه المستشار القانوني للحكومة أفيحاي مندلبليت، عارضا سلسلة مشاريع القوانين التي طرحت في الولاية البرلمانية السابقة، والتي من المتوقع أن يعاد طرحها من نواب الائتلاف في الولاية البرلمانية الجديدة، وهي مشاريع قوانين من شأنها أن تقوض صلاحيات المحكمة العليا، وإلغاء صلاحيات واستقلالية المحكمة العليا، وعمليا إلغاء الديمقراطية وحقوق الإنسان في إسرائيل.

كما يعترض المستوى المهني في وزارة العدل بالذات على القانون البريطاني. ويقول مسؤولون كبار في الوزارة "إن ثقافة الحكم والتشريع في بريطانيا تختلف كليا عما هو قائم في إسرائيل، التي ليس لديها دستور مكتوب، كما هو قائم في بريطانيا. كما أنه يكفي أن تقول المحكمة البريطانية العليا أو الجمهور إن القانون ليس مناسبا، حتى يتم إلغاؤه، أو التراجع عن تشريعه. أما في إسرائيل، وفي تركيبة الكنيست السابقة والحالية، فإنه في اللحظة التي تعتقد فيها المحكمة العليا أن القانون ليس دستوريا، فإن الكنيست (في حال أقر القانون البريطاني) لن يتنازل، وبسبب هذا فإن كتاب القوانين سيمتلئ بقوانين ليست دستورية ولا مناسبة".

ولاحقا عرض المستشار مندلبليت صيغة "حل وسط"، حسب الوصف، وبموجبه فإن المحكمة العليا تستطيع نقض قانون فقط من خلال هيئة تضم 9 قضاة في المحكمة، وأن يكون نقض القانون بأغلبية 6 قضاة على الأقل من القضاة الـ 9، وأن الكنيست بمقدوره سن القانون مجددا، لكن بأغلبية لا تقل عن 70 نائبا. وهذا ما رفضه نتنياهو، وقال إنه إذا أراد التساهل فإنه يشترط أن يكون قرار المحكمة ساريا فقط إذا وافق على إلغاء القانون جميع قضاة المحكمة العليا الـ 15، لإدراك نتنياهو أن حالة كهذه مستحيلة في تركيبة المحكمة العليا حاليا.

كما تعارض رئيسة المحكمة العليا القاضية إستير حيوت مشروع القانون الذي يسعى له نتنياهو، وقالت في خطاب سابق لها "كوننا نريد التفاخر، وبحق، أمام العالم، بأننا الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، علينا أن نتذكر أن أحد الضمانات الضرورية لهذا هو الحفاظ على جهاز قضائي مستقل ومهني، وليس مرتبطا بأي جهة، ويقوم بمراقبة الحكم، ويدافع عن المبادئ الأساس لنظام الحكم".

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات