المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 980

تخضع نظم وأجهزة التعليم في دول عديدة ومختلفة من العالم، خلال العقدين الأخيرين تحديداً، إلى جملة من التغييرات الجوهرية التي تقودها قوتان/ سيرورتان أساسيتان تحكمهما علاقة من التناقض الظاهري بينهما: الأولى، تعاظم الفكر النيوـ ليبرالي واتساعه، وسط التشديد على مبادئ وقيم مركزية في مقدمتها النجاعة، الإنتاجية، الاختيار الحر والمنافسة؛ الثانية، الازدهار غير المسبوق في خطاب المساواة في الفرص والمطالبة بالتنوع وبالتعددية الثقافية.

 

وقد تجسدت هذه الوجهة في إسرائيل، مثلا، في إنشاء مدارس خاصة "نخبوية" تأسست انطلاقا من الدعوة إلى التعددية التربوية ـ التعليمية والثقافية، تقوم على استخدام واسع لآليات الخصخصة والتصنيف.

على هذه الخلفية، صدر في إسرائيل مؤخرا (في شهر أيار الأخير، بإصدار مشترك لمنشورات معهد فان لير ومنشورات هكيبوتس همئوحاد) كتاب بعنوان "العدل التعليمي، الخصخصة وأهداف التعليم في إسرائيل" للبروفسور يوسي دهان، أستاذ الحقوق والمدير الأكاديمي لـ"قسم حقوق الإنسان" في "المركز الأكاديمي للقانون والتجارة" في رامات غان وأستاذ الفلسفة في "الجامعة المفتوحة" ورئيس مركز "أدفا" للمعلومات حول المساواة والعدالة الاجتماعية في إسرائيل.

يشمل الكتاب، الذي يمتد على 190 صفحة، ثلاثة فصول مركزية هي، على التوالي: عن العدل التعليمي؛ عن الخصخصة في التعليم؛ أهداف التعليم والجهاز التعليمي في إسرائيل؛ إضافة إلى المقدمة، الخاتمة وقائمة المراجع، وهو يقدم تحليلا نقديا لثلاث نقاط خلافية تشغل نظم وأجهزة التعليم في مختلف الدول الديمقراطية، وبضمنها إسرائيل: الخلاف حول العدل التوزيعي، المتجسد في الفجوات الكبيرة في التحصيلات التعليمية على خلفية قومية، إثنية، جندرية وطبقية؛ الخلاف حول مسؤولية الدولة والتوتر البنيوي بين مفهومي "الأخلاق" و"النجاعة" ومضامينها المترتبة على سيروات الخصخصة؛ الخلاف حول أهداف التعليم وحول الصورة المرغوبة للمدرسة، بما في ذلك المضامين التعليمية، طرق وأساليب التعليم وجودة المعلمين.

بمنهجه التحليلي، الذي يدمج بين التحليل المعياري بأدوات فلسفية والتحليل التجريبي بأدوات اقتصادية، ثقافية وسياسية، يرسم الكتاب صورة واسعة وتفصيلية، هي الأولى من نوعها، لجهاز التعليم الإسرائيلي والسياق الذي يعمل في نطاقه، مؤكدا على خلاصة مركزية تشكل خيطا ناظما في الكتاب وأطروحاته مؤداها: الواقع التعليمي، في داخل الجهاز التعليمي فيما يتعلق بأدائه ونتاجه، ليس منفصلا عن الواقع خارج نطاق التعليم، إذ من الصعب جدا، إن لم يكن من المستحيل تماما، تحقيق العدل التعليمي في لجة بحر من انعدام العدل الاجتماعي تعصف به مظاهر الإقصاء، التمييز، الفقر وعدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية.

ثلاثة مواضيع تحكمها علاقات تبادلية

يشير المؤلف، في مستهل مقدمته، إلى أن الكتاب يعالج ثلاثة مواضيع "تُشغل أي جهاز تعليمي في أية دولة ديمقراطية"، هي: العدل التعليمي، الخصخصة في التعليم وأهداف التعليم؛ مؤكدا أنها "ثلاثة مواضيع تحكمها علاقات تبادلية، اصطلاحية وعملية".
يدور البحث في الموضوع الأول ـ العدل التعليمي ـ حول مسألة التوزيع الأمثل للموارد والفرص في مجال التعليم. أما الموضوع الثاني ـ خصخصة التعليم ـ فيدور حول مسألة مسؤولية الدولة عن التعليم، الطريقة التي ينبغي بها تمويل الخدمات التعليمية وتزويدها ومراقبتها، ثم مسألة ما إذا كان من الأفضل أن تتكفل الدولة نفسها بتزويد الخدمات التعليمية، أم خصخصتها ووضعها في عهدة ومسؤولية أجسام خصوصية، لدواع أخلاقية ولأسباب تتعلق بالنجاعة. وأما الموضوع الثالث ـ أهداف التعليم في دولة ديمقراطية ـ فيتصل بتشكيلة واسعة من المسائل التي يتعين على أي جهاز تعليمي الحسم فيها: مضامين التعليم، طرق وأساليب التعليم والتعلّم، المهمات المناطة بالمعلمات والمعلمين، طابع المدرسة وغيرها.

بنظرة أوسع، يعالج الكتاب منظومة العلاقات بين ثلاث من القيم المركزية ذات العلاقة: العدل، الديمقراطية والتعليم. ذلك أن ثمة صعوبة فائقة في التجسير بينها، وخاصة في دولة تتميز بالانفصال والتباعد وعدم المساواة، كما هو الحال في دولة إسرائيل التي تشمل مجموعات دينية وإثنية مختلفة، إضافة إلى الأقلية القومية العربية الفلسطينية. ويصبح هذا الانفصال في المجتمع الإسرائيلي أكثر حدة واتساعا على خلفية وبسبب تقسم الجهاز التعليمي فيها إلى تيارات مختلفة ـ رسمي، رسمي ـ ديني، حريدي أشكنازي، حريدي سفارادي، إضافة إلى جهاز تعليمي خاص بطلاب الأقلية القومية العربية الفلسطينية.

يعالج الكتاب هذه المواضيع من خلال منظورين اثنين: منظور معياري ومنظور تجريبي. تتمثل مرجعية المنظور المعياري في حقل الأخلاق والفلسفة السياسية، وفي صلبه الفرضية القائلة بأن تنظيم جهاز التعليم وترتيب سلم الأولويات في توزيع الموارد في الدولة الديمقراطية ينبغي أن يقوما على اعتبارات أخلاقية بالإمكان إقرارها وتبريرها، بحيث تشكل قاعدة لإسباغ الشرعية على طابع جهاز التعليم وجوهره. وقد ارتأى المؤلف توسيع دائرة البحث المعياري ليس فقط لأن الاعتبارات الأخلاقية يجب أن تكون، بالضرورة، الاعتبارات المؤسسة والموجِّهة لدى النظر في القضايا التعليمية في دولة ديمقراطية، وإنما أيضا لأن البحث في جهاز التعليم الإسرائيلي من وجهة نظر أخلاقية لا يزال محدودا جدا في الأدبيات المتوفرة. وينوه الكاتب هنا بأن البحث في المصطلحات والمبادئ الأساسية والنظريات الأخلاقية المركزية ذات الصلة بمجال التعليم ينبغي أن يكون واضحا، موضوعيا ومركّزا "بما يساعد على فهم نقاط ومجالات الاختلاف الدقيقة".

يركز المؤلف على أهمية البحث والتحليل الأخلاقيين، كما جسدهما في الكتاب، نظرا لكونهما "القاعدة الأساسية لفحص ونقد الواقع التعليمي في إسرائيل خلال العقود الأخيرة: مفاصل مركزية في السياسات التعليمية، مثل الدمج والتكامل، النيو ليبرالية والخصخصة؛ عدم المساواة في توزيع الموارد وخلق مسارات تعليمية مختلفة لمجموعات اجتماعية مختلفة؛ صراعات على الأهداف التعليمية تنعكس في خلافات حول مناهج التعليم في المواضيع التعليمية المركزية وفي موضوع التربية المدنية (المدنيات)؛ التربية المتعددة الثقافات واستنتاجات "لجنة بيطون" (حول جهاز التعليم للطلاب المشرقيين) وقضايا مركزية أخرى تحتل حيزا أساسيا وهاما على جدول الأعمال العام في إسرائيل خلال السنوات الأخيرة".

كذلك، ثمة أهمية قصوى للمنظور التجريبي في البحث والتحليل، إذ أن البحث الفلسفي المعياري بشأن أهداف التعليم وسياسات توزيع الموارد لا يجري في فراغ. ذلك أن البحث في الشروط اللازم توفرها بغية تحقيق مُثل العدل الاجتماعي يستدعي معرفة وفهم الواقع التعليمي ـ الاجتماعي ـ السياسي ـ الثقافي ـ الاقتصادي الذي يجري البحث في سياقه، أولا. فالبحث المعياري في المُثُل والمبادئ الأخلاقية وسط تجاهل الواقع الحقيقي قد يكون عديم القيمة والفائدة، أو قليلهما جدا. المطلوب ليس فقط فهم الواقع كما كان في الماضي وكما هو في الوقت الراهن، وإنما أيضا فهم الأسباب والسيرورات التي تنتج الواقع التعليمي والاجتماعي، ثم وضع تعريف محدد وواضح للنتائج التعليمية والاجتماعية المراد بلوغها و/ أو التي يمكن اعتبارها تحقيقا فعليا للمثل والقيم الأخلاقية المرغوبة. هكذا، على سبيل المثال، تختلف السياسة الجماعية التي اعتمدها جهاز التعليم في عهد إيديولوجيات من قبيل "بوتقة الصهر" و"دمج الشتات"، والتي تغيّت تشكيل أمة إسرائيلية وتصميم الإسرائيلي الجديد ـ تختلف، جوهريا، عن سياسة جهاز التعليم العامل في ظروف العولمة الاقتصادية القائمة على قوانين السوق التنافسية والتي تتميز بالفصل السياسي، الثقافي والاجتماعي وبوضع الفرد في مركز الصورة والاهتمام. فابتداء من ستينيات القرن الماضي وحتى ثمانينياته، رفعت دولة إسرائيل لواء مبدأ المساواة باعتباره هدفا مركزيا لسياساتها التعليمية، بينما تضاءل التزامها بهذا المبدأ وتراجع باستمرار ابتداء من ثمانينيات القرن الماضي وحتى اليوم، ليحل محله مبدأ "الإدارة الذاتية" وسياسة الخصخصة.

تقليص الفجوات لتشكيل جماعة يهودية جديدة وموحدة

ابتداء من منتصف الستينيات، كانت "سياسة الدمج والتكامل" هي السياسة التعليمية المركزية التي اعتُمدت في إسرائيل بغية تحقيق مبدأ المساواة في الفرص، إذ جرى وضع هذه السياسة وتطبيقها على خلفية الفجوات التعليمية العميقة جدا التي تكشفت بين الطلاب الأشكنازيين أبناء الطبقات المثقفة والمتمكنة اقتصاديا وبين الطلاب السفاراديين من الطبقات الفقيرة. وتمثل هدف هذه السياسة المركزي في "تقليص هذه الفجوات خشية تشكُّل مجتمع ضعيف، غير متساو، منقسم ومتنازع على خلفية طائفية، وبسبب الرغبة في تشكيل جماعة يهودية جديدة وموحدة". وقد تجندت لهذه المهمة جميع الجهات والمؤسسات الرسمية ـ الكنيست، وزارة التعليم والمحاكم ـ لكن بالرغم من ذلك، نجحت فئات من المجتمع الإسرائيلي في "التملص من عملية الدمج والتكامل"، كما يقول المؤلف.

ومع تعزز الإيديولوجيات النيو ليبرالية وسياساتها في إسرائيل، كما في دول عديدة أخرى في العالم إبان الثمانينيات، على ما رافقها من انتقال من الجمعانية إلى الفردانية وتشديد على النجاعة الاقتصادية، حصل في إسرائيل تحوّل قيميّ جدي فقدت سياسة الدمج والتكامل ومبدأ مساواة الفرص التعليمية، في أعقابه، أهميتهما وتراجع الاهتمام بهما بصورة حادة. وتطورت، في سياق ذلك، مفاهيم تعليمية مختلفة اندحرت فيها قيمة المساواة في الفرص إلى الهوامش لتحل مكانها، في مركز الاهتمام وصدارته، قيمة "الإدارة الذاتية". ذلك أن الإيديولوجية النيو ليبرالية ترفض وتعادي تدخل الدولة وتعتبر تدخل السلطة المركزية في النشاط الاقتصادي والاجتماعي "مساً بالحريات الفردية"، بما في ذلك "المس بحرية الأهل في تحديد مكان تعليم أولادهم وطابعه". كما اعتُبر هذا التدخل، أيضا، "مساً بقيمة أخرى، هي قيمة النجاعة الاقتصادية". وعلى ذلك، "كان من الطبيعي أن ينظر واضعو السياسات إلى سياسة الدمج والتكامل في تلك الفترة، بمعزل عن النجاح أو عدم النجاح، بوصفها سياسة غير لائقة من ناحية أخلاقية واقتصادية، يتعين استبدالها بمنطق اقتصاد السوق، بسياسة الخصخصة وبفرض قواعد تنافسية تُنتج، في المحصلة، عدالة تعليمية مغايرة". وكان هذا التحول جزءا من سيرورة أوسع أصبحت فيها الإيديولوجية والسياسة النيو ليبرالية هي السائدة في إسرائيل، كما في دول عديدة أخرى في العالم".

من الواضح أن تحديد أهداف التعليم، أيضا، مشتق من الواقع السياسي، الاجتماعي، الثقافي والاقتصادي. وقد انطلقت المداولات التي جرت حول أهداف التعليم في دول عديدة، قبل بضعة عقود، من فرضية كون الواقع الاجتماعي والثقافي واقعا متجانسا يتمتع فيه المواطنون جميعا بالحق في مكانة متساوية. تميزت تلك المداولات بـ "عمى الألوان" ـ بمعنى، عدم إيلاء أية أهمية لانتماء المواطنين العرقي، الجندري، الإثني والقومي في سياق البحث الأخلاقي والتجريبي حول أهداف جهاز التعليم في الدولة الديمقراطية. والعكس هو الصحيح، تمحور هدف جهاز التعليم حول مهمة "طمس الهويات المتغايرة بغية إنتاج هوية وطنية مدنية موحدة ومتجانسة". غير أن البنية الديمغرافية في العديد من الدول قد شهدت تغييرا حادا وجوهريا خلال العقود الأخيرة، بفعل الهجرات المختلفة والزيادة الكبيرة في حجم هجرات العمل، وخاصة من الدول الفقيرة إلى الدول الغنية. كما بدأ يظهر، في دول عديدة، نهوض سياسي لافت بين مجموعات قومية وإثنية تولي هويتها الثقافية أهمية عليا وتعتبرها جديرة بالاعتراف الرسمي في الحيز العام. وكان أن تسللت المطالبة بهذا الاعتراف إلى أجهزة التعليم أيضا، إذ طولبت هذه بإتاحة التعبير عن تلك الهوية وباحترام الهويات الثقافية والدينية المختلفة. وليس خافيا أن واقع التعددية الثقافية هذا كان بالغ الأثر على تحديد أهداف التعليم وصياغتها أيضا.

أدى واقع تعدد الثقافات إلى ظهور وبلورة توجهات معيارية مركزية جديدة في مجال تحديد وصياغة أهداف التعليم في المجتمعات الديمقراطية. وينبغي النظر إلى مطلب الاعتراف الثقافي، سواء في أجهزة التعليم أو في الأجهزة الأخرى، باعتباره جزءا من المطالبة بالعدالة في نظام ديمقراطي يضطلع فيه جهاز التعليم بمهمة تعليم المواطنين البالغين الذين يتعاملون مع بعضهم بعضا بالتساوي، بحيث يتجسد الموقف المتساوي، أيضا، في الاعتراف بتمايز المجموعات المختلفة وخصوصيتها. غير أن ما حصل بالفعل هو أن مطالبة المجموعات المختلفة بإصلاح واقع انعدام العدالة الاعترافية ـ انعدام العدالة الذي يطال المجموعات التي لا تحظى هويتها الثقافية الخاصة بالاعتراف والشرعية ـ قد قوبلت بالتجاهل وبموقف عدائي ومهين.

جهاز التعليم الإسرائيلي والاحتلال

في جهاز التعليم الإسرائيلي تجسدت هذه المطالبة (بالعدالة الاعترافية)، ضمن أشياء أخرى، في مطالبة المواطنين العرب، مثلا، بالإدارة الذاتية الثقافية؛ في معارضة المجتمع الحريدي لتدخل الدولة في إدارته الذاتية وفي وضعه مناهج ومضامين التعليم الخاصة به؛ في المطالبة بالاعتراف بالثقافة، بالتاريخ وبالهوية المشرقية كما عبرت عنها توصيات "لجنة بيطون" التي دعت إلى ضمان تثميل منصف ولائق للمشرقيين في مؤسسات مركزية تابعة لجهاز التعليم وإلى تغيير مناهج التدريس. يعني مطلب الاعتراف هذا، من ضمن ما يعنيه، اعتبار مناهج التدريس أحد الموارد العامة الرمزية التي يحق للمجموعات الثقافية المختلفة الحصول عليه وعلى تمثيل لائق فيه، بمعنى: ضرورة أن تشمل مناهج التدريس روايتها وأن تتيح لها إسماع صوتها وكلمتها. ذلك أن المفهوم الشامل للعدل ينبغي أن يشمل، أيضا، العدل التوزيعي ـ أي، التوزيع العادل للموارد الاجتماعية والاقتصادية ـ والعدل الاعترافي الذي يعني ضمان تمثيل وتعبير ملائمين ولائقين لهويات المجموعات الثقافية المختلفة. ويقوم هذا المفهوم على فكرة أن تحقيق العدل الاعترافي يساعد في تحقيق العدل التعليمي والتوزيعي. فضمان التمثيل اللائق للمجموعات الثقافية المختلفة في جهاز التعليم من شأنه أن يخفف من حدة الاغتراب والعداء اللذين يشعر بهما الطلاب من مجموعات الأقلية، القومية والثقافية، تجاه الجهاز التعليمي. فالطلاب الذين يتعلمون مضامين تعكس ثقافتهم وتحترم هويتهم سيبدون قدرا أكبر من الاهتمام بالمواد التعليمية وسيشعرون بأن جهاز التعليم يتعامل معهم بكونهم متساوين.

يؤكد المؤلف أن الخطاب الذي يصاحب النقاش العام، وخصوصا خطاب السياسيين وواضعي السياسات، يتميز بما يسميه "خطاب الأمل" ـ الأمل في أن يكون الجهاز التعليمي المصدر الأساس للتعافي الاجتماعي، إذ بمقدوره تحويل مجتمع غير عادل إلى مجتمع عادل وتحقيق المساواة في الفرص بما يؤدي إلى إصلاح واقع انعدام المساواة الاجتماعية والاقتصادية ـ هذا الواقع الذي يشكل نقطة انطلاق الطلاب الأساسية نحو مسارات حياتهم المختلفة. ولكن، بالرغم من أهمية جهاز التعليم في الدولة الديمقراطية ومكانته المركزية، إلا أن هذا الأمل في أن يتولى جهاز التعليم وحده، حصريا، مهمة تحقيق مبادئ العدالة الاجتماعية "هو أمل مبالغ فيه كثيرا".

ينبغي أن تكون توقعات المواطنين من قدرة جهاز التعليم على إحداث تغييرات اجتماعية راديكالية "توقعات أكثر واقعية وتواضعا"، إذ أن جهاز التعليم، في كثير من الأحيان والحالات، "لا يشكل ميدانا للتغيير والإصلاح الاجتماعيين، وإنما هو ميدان يعكس الواقع غير المتساوي ويستنسخه"، كما هو الحال في إسرائيل. ذلك أن الواقع في داخل الجهاز التعليم ليس منفصلا، البتة، عن الواقع خارج ميدان التعليم "ومن الصعب تحقيق العدل التعليمي في لجة بحر من انعدام العدل الاجتماعي تعصف به ظواهر الإقصاء، التمييز، الفقر المتفاقم وعدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية". بل الأهمّ: "من الصعب التربية في إسرائيل على قيم مساواة الإنسان، المواطنة الحقيقية والثقافة الديمقراطية الحقة، في واقع تتواصل فيه، منذ أكثر من خمسين عاما، سيطرة عسكرية وسياسية إسرائيلية على أكثر من مليونيّ فلسطيني لا يتمتعون بأية مكانة أو حقوق".

فصول الكتاب: العدل التعليمي والخصخصة وأهداف التعليم في إسرائيل

يتوزع كتاب البروفسور يوسي دهان الجديد، كما ذكرنا أعلاه، على ثلاثة فصول تعالج ثلاثة مواضيع مركزية يبحث المؤلف، بواسطتها، نمط تنظيم التعليم، دلالاته، مضامينه وأهدافه: العدل التعليمي، الخصخصة وأهداف التعليم في إسرائيل.

يبحث الفصل الأول (العدل التعليمي) في المفاهيم الأخلاقية المختلفة للعدل التعليمي. والمبدأ المركزي الذي يبحث فيه هذا الفصل هو مبدأ تكافؤ الفرص، الذي يُعتبر مبدأ مؤسِّساً في أي جهاز تعليمي في دولة ديمقراطية. ويعرض الفصل تفسيرات مركزية مختلفة لهذا المبدأ وينمذج على دلالاتها في سيرورة توزيع الموارد العامة في جهاز التعليم. وإلى جانب مبدأ تكافؤ الفرص، يعرض الفصل أيضا رؤية بديلة للعدل التعليمي: رؤية الحد الأدنى التي لا يعالج العدل التعليمي بموجبها مسألة مساواة الفرص وتقليص الفجوات بين الفئات المختلفة من الطلاب، وإنما يتركز في الحرص على أن ينال كل طالب مستوى من التعليم يلبي "شروط الحد الأدنى" الضرورية لتحقيق المواطنة الديمقراطية.

أحد المصادر المركزية لواقع غياب المساواة وانعدام العدل التعليمي في إسرائيل يتمثل في قدرة الفئات الغنية والمقتدرة من المواطنين على إنشاء أطر تعليمية منفصلة خاصة بها، سواء في نطاق جهاز التعليم الرسمي أو خارجه. يبحث الفصل في الوسائل المختلفة التي تستخدمها هذه الفئات من أجل المحافظة على تفوقها الاجتماعي والاقتصادي وتكريسه. كما يتتبع، أيضا، سياسة الدمج والتكامل في إسرائيل، منذ بداياتها في الستينيات كسياسة مركزية اعتُمدت لتطبيق مبدأ المساواة في الفرص، تقليص الفجوات وتشكيل مجتمع ديمقراطي متكافل، من خلال اللقاء بين الطلاب من فئات اجتماعية واقتصادية مختلفة في ظروف وشروط ومناسبة. ويفحص الفصل ما إذا تحققت في إسرائيل الشروط الضرورية اللازمة لتحقيق الأهداف المعلنة لهذه السياسة.

يعالج الفصل الثاني مسألة الخصخصة ـ السياسة الاقتصادية والاجتماعية التي أضحت سياسة مركزية في إسرائيل، وفي دول مختلفة أخرى، ابتداء من ثمانينيات القرن الماضي. يبحث الفصل في التطبيقات العملية المختلفة لسياسة الخصخصة في مجال التعليم وتسويغاتها الاقتصادية، القانونية والأخلاقية، ومن بينها التسويغات التي تشدد على الحق في الإدارة الذاتية الوالدية في التعليم، كما تلك التي تعارض تدخل الدولة في وضع وفرض السياسات التعليمية.

تتجسد سمات الخصخصة في مجال التعليم، بين أشياء أخرى، في التمويل الشخصي الذاتي لخدمات تعليمية، في تزويد خدمات تعليمية من قبل أجسام ومؤسسات غير تابعة للدولة وفي إقامة مدارس، صفوف تعليمية وشرائح خاصة يكون التعليم فيها مشروطا بالقدرة المادية على تمويلها. وثمة مفهوم مركزي إضافي آخر للخصخصة يتعلق بعملية اتخاذ القرارات في مجال التعليم: ففي إطار سياسة الدمج والتكامل، تضطلع الدولة بدور مركزي وحاسم في تحديد جمهور المدرسة وتركيبته، لكن سياسة فتح مناطق التسجيل (المسماة، أيضا، "سياسة اختيار الأهل") تؤدي إلى خصخصة القرار في هذه المسألة بدرجة كبيرة ووضعه (القرار) في أيدي الأهل. ويبحث الفصل هذه السياسة وإسقاطاتها على المساواة في التعليم والمساواة في الفرص، كما يعالج التغييرات التي تحدثها الخصخصة في طابع عمليات اتخاذ القرارات المتعلقة بشؤون التعليم في نظام ديمقراطي.

إحدى النتائج المترتبة على سياسة الخصخصة هي دخول مؤسسات وأجسام خاصة إلى المدارس بصورة قوية ومتزايدة باستمرار: من وضع وكتابة مناهج تعليمية وحتى ممارسة الرقابة المباشرة على عمل المدارس وطواقمها المهنية، بما ينعكس أيضا على علاقات العمل بين المدرسة (كمشغِّل) والعاملين فيها. وقد برز هذا، في السنوات الأخيرة بشكل خاص، في اتساع ظاهرة تشغيل معلمين من خلال مقاولين وشركات القوى العاملة، على ما في هذا من تقليص حاد وخطير في حقوقهم النقابية ووضعهم في حالة من انعدام الأمن التشغيلي.

كما يعالج الفصل، أيضا، أبعاد سياسة الخصخصة وانعكاساتها على مفاهيم مختلفة تتعلق بالعدل التعليمي والطريقة التي تحدث بها الخصخصة تغييرات جوهرية في الطابع الديمقراطي لعملية اتخاذ القرارات في مجال التعليم، في المكانة المهنية ـ النقابية للمعلمين وفي مضامين التعليم.

أما الفصل الثالث فيعالج أهداف التعليم في إسرائيل ويقدم، في القسم الأول منه، عرضا نقديا للتوجهات الفلسفية التي تقترح أجوبة على السؤال المركزي: ما هو هدف التعليم في دولة ديمقراطية تعددية تعيش فيها مجموعات دينية، إثنية وقومية مختلفة؟. ويكتسب عرض هذه الأجوبة المختلفة أهمية خاصة لأنها تشكل المرجعية التي تشتق منها التوصيات المختلفة الخاصة بالسياسات التي يجدر اعتمادها في القضايا المركزية المختلفة، مثل مضامين التعليم، طرق وأساليب التعليم، تنظيم المدارس وغيرها.

في القسم الثاني من الفصل الثالث يعرض الكتاب مفاصل مركزية في جهاز التعليم الإسرائيلي على ضوء التوجهات الفلسفية التي عرضها في القسم الأول من هذا الفصل. كما يتطرق، أيضا، إلى التعليم المتعدد الثقافات ويتصدى للإجابة على أسئلة مركزية من بينها: هل ثمة تعليم كهذا في إسرائيل؟ هل عكست مناهج التعليم الإسرائيلية ثقافة مواطني إسرائيل من أبناء الأقلية القومية العربية ـ الفلسطينية، كما ثقافة أبناء الطوائف الشرقية؟.

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات