المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 1925

"بعد بضعة أجيال: هل نحن في طريقنا إلى دولة دينية؟" ـ هذا هو السؤال المركزي الذي يشكل هاجس أوساط مهتمة بمستقبل دولة إسرائيل وسيرورات تطورها، الديمغرافي والاجتماعي، بما يستبطن من أسئلة "ثانوية" أخرى من ضمنها: "هل سيصبح المتدينون أغلبية في الدولة"؟ و"هل سيتلاشى المجتمع العلماني ويختفي؟" و"هل نحن في مستهل سيرورة ستنتهي بهجرة كثيفة للعلمانيين من البلاد؟"!
وهي تساؤلات طرحتها الصحافية راحيل مالك بودة على مجموعة من المثقفين وعلماء الاجتماع والحاخامين اليهود الإسرائيليين وجمعت إجاباتهم عليها، واستمزجت مواقفهم وآراءهم، في تقرير موسع نشرته صحيفة "مكور ريشون" (يمينية) يوم 13 تشرين الثاني الأخير، برسم ما تصفه الصحافية بـ"المأساة العلمانية كما تتجسد أمامنا: الخوف من يوم قادم تصبح فيه العلمانية غير ذات معنى أو أهمية وتتحول إسرائيل إلى دولة شريعة أصولية يديرها متدينون"! بما يستدعي، بل يحتّم، في نظرها، طرح "سؤال آخر هو: هل سيبقى ثمة علمانيون في إسرائيل بعد 20 سنة؟"، أو "بكلمات أخرى: هل يمكن الحديث، منذ الآن، عن موت العلمانية (في إسرائيل)؟"!

الديمغرافيا وخليط الدولة والدين والقوموية

تستدرك الصحافية فتقول إن استخدام تعبير "موت" في سياق الحديث عن جمهور كبير جدا في دولة إسرائيل "قد يبدو مبالغاً فيه"، لكن اللقاءات التمهيدية العديدة التي أجرتها مع عدد من العاملين في الحقل الثقافي في مدينة تل أبيب "تبيّن أنه حتى لو كانت المعطيات تشير إلى غير ذلك، ربما، إلا أن هذا الخوف هو السائد اليوم، عاطفيا وشعوريا، في حاضرة غوش دان" (مدينة تل أبيب وضواحيها من المدن المحيطة، في وسط إسرائيل)... و"ثمة شعور عميق بأن ظهر البعير على وشك الانقصام"، لأن "ثمة تياراً علمانيا في دولة إسرائيل، بكل شرائحها، لكن هذا التيار يشعر اليوم بأنه أقلية، إذ أن خليط الدولة والدين والقوموية آخذ في إحكام الحصار حوله"، كما تورد على لسان أوري مسجاف، الصحافي في جريدة "هآرتس"، الذي يؤكد أن موجة هجرة العلمانيين اليهود من إسرائيل "تحصل الآن" وأنه "لا يمكن إجراء نقاش حول هذا الأمر بمعزل عن التطرف القوموي ـ اليميني المتصاعد باستمرار، إلى جانب اعتداءات وانتهاكات أخرى كثيرة تطال الديمقراطية، سلطة القانون، حقوق الأقليات والقيم التي قامت هذه الدولة على أساسها" و"إذا ما استمر هذا المنحى، فمن المؤكد أن هجرة العلمانيين ستصبح أكثر كثافة وأسرع وتيرة". ويضيف مسجاف: "نحن جيدون جدا في الضحك والسخرية من جميع جاراتنا الدول غير الديمقراطية وغير الحرّة، لكن الحقيقة أننا نتقدم نحوها بخطوات هائلة"!


وتستعين الكاتبة ببعض النتائج التي توصل إليها أرنون سوفير، أستاذ الجغرافيا سابقا في جامعة حيفا وأبرز منظّري "الخطر الديمغرافي" (العربي، أساسا)، فيما يتعلق بعدد المتدينين اليهود في إسرائيل خلال العقود القريبة والتي نشرها ضمن بحث بعنوان "إسرائيل 2010- 2030، في الطريق نحو دولة دينية"، يتمتع فيها المتدينون اليهود بتفوق من حيث الوزن العددي، الاجتماعي، الثقافي والسياسي وهو ما "سيؤدي، في نهاية المطاف، إلى موجة كبيرة وواسعة من هجرة العلمانيين من إسرائيل" (اقرأ عن البحث في مكان آخر من هذه الصفحة).

وفي السياق ذاته، أشارت الكاتبة إلى سلسلة تقارير صحافية حول "الخطر الديمغرافي" بثتها القناة العاشرة في التلفزيون الإسرائيلي قبل بضعة أسابيع ورد خلالها، مثلا، أن ثمة توقعات، مبنية على معدلات التكاثر الطبيعي، تقول بأن المتدينين اليهود (من جميع الاتجاهات) سيشكلون نحو 53% من مجمل سكان إسرائيل في العام 2034 وأن ما بين 33% حتى 40% من مجمل سكان الدولة في العام 2059 سيكونون من المتدينين الحريديم!


وفي المقابل، يرى الحاخام موشي روط، حامل لقب الدكتوراة في الفلسفة من جامعة بار إيلان، أن "الأغلبية العلمانية ليست شرطاً لبقاء إسرائيل دولة ديمقراطية". ويقول: "أعتقد أحيانا بأن أحد الأخطاء الكبرى التي يرتكبها المتدينون هو وضع الكيباه (الطاقية الدينية اليهودية)، لأن هذه في أيامنا لا تقول الكثير عن الإنسان... إنها تقيم ما يشبه حداً مصطنعاً بين التديّن والعلمانية... ونظريا، إذا ما خلع جميع المتدينين الكيباه عن رؤوسهم فسيتضح إن لا أقلية دينية هنا ولا أغلبية علمانية، بل هي مجموعة كبيرة من جدا من الناس المرتبطين باليهودية وبالتقاليد بشتى الصور وبمختلف المستويات، مقابل أقلية صغيرة جدا اختارت القطيعة".

ويصب هذا الكلام في خلاصة أنه "رويدا رويدا، ينشأ هنا ويتنامى قطاع وسطيّ واسع جدا مكون من تشكيلة واسعة من "غير المعرَّفين" ـ متدينون ابتعدوا عن الدين، علمانيون اقتربوا من الدين، متدينون سابقون، تقليديون وما بينهم. إنه قطاع كبير جدا، إلى درجة أنه أصبح من الصعب وصفه بالقطاع، بل يبدو أنه هو هو التيار المركزي في المجتمع الإسرائيلي".

السياق السياسي و"تصاعد قوة العرب"

لا يمكن الحديث عن المجتمع الإسرائيلي وما يعتمل في داخله من تحولات وسيرورات بمعزل عن السياق السياسي العام، بالطبع. بل يذهب بعض المتحدثين في هذا التقرير إلى القول إن هذا السياق، تحديدا، هو الذي "يفسر سيرورة التباعد والتفرق الحاصلة بين قطاعات المجتمع الإسرائيلي المختلفة". وبكلمات أخرى، فإن "تصاعد قوة العرب ووزنهم يدفع كثيرين (من اليهود) إلى البحث عن هوية مميزة وعن قاسم مشترك واسع، علاوة على ما في ذلك من ردة فعل على الوضع الأمني، بالطبع".

وتعتبر معدة التقرير أن "في هذا الشعور ما يفسر، أيضا، سر نجاح نفتالي بينيت في تصوير حزبه (البيت اليهودي) بأنه حزب جميع مصوتيه"!

ويقول البروفسور آشير كوهن، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بار إيلان، إن "المتدينين يظهرون كأنهم الممثلون الأمينون للموقف اليميني الحقيقي في الدولة، وليس ثمة شك في أن لهذا تأثيرا كبيرا وعميقا على وعي الانتماء، فضلا عن أنه يتجسد، أيضا، في تحوّل اليسار المتدين إلى ما يمكن وصفه بأنه فشل إحصائي... وفي هذا الإطار، يُطرح السؤال: ما هي دائرة الانتماء الأقوى والأهمّ، أهو الموقف اليميني أم التدين؟".

ويعتقد روط بأن المركّب القوموي يؤثر كثيرا على التوجهات والوجهات، لكنه لا يكتفي بهذا التفسير، بل يقول: "صحيح أن تصاعد قوة العرب يدفع الناس (اليهود) إلى البحث عن هوية خاصة بهم، لكن يوجد سبب إضافي آخر لهذا التحول نحو التدين يتمثل في الشعور بالخواء والملل في عالم العلمانية"! ويجزم بأنه "إذا ما استمرت هذه الوجهات، فلا شك في أن الدولة ستصبح أكثر تدينا وأكثر يهودية". ويضيف: "وأنا أومن بأنه سيكون لدينا رئيس حكومة متدين في مرحلة ما ليست بعيدة، رغم أن هذا لا يعني أنه سيستبدل قوانين الدولة بقوانين الشريعة (اليهودية)، بل يعني الجوّ العام الدولة ـ كيف تبدو الشوارع، ما هي الألبسة المقبولة، أية مضامين يتم بثها في قنوات ووسائل الاتصال المختلفة وما إلى ذلك".

العلمانية أنهت مهمتها التاريخية

وردا على سؤال عما إذا كان يعتقد بأن العلمانيين سيكونون معنيين بالعيش في دولة كهذه، يقول: "لقد أخذوا فرصتهم. اليسار العلماني حكم الدولة طوال عشرات السنين وإن خسر فيبدو أن ثمة سببا وجيها لذلك"! ثم يضيف: "نحن نرى في أوروبا أيضا أنه كلما اتسعت العلمنة والإلحاد تضاءلت معدلات الولادة، بينما يهاجر العرب إلى هناك ويسيطرون.... إن النماذج الوحيدة التي نعرفها نحن هي نماذج الدول الإسلامية ومن الخطأ المقارنة بيننا وبينها، لأن الأمر سيكون بمثابة القول بأن الديمقراطية والدكتاتورية هما الشكلان الوحيدان الممكنان للسلطة، ولذلك فنحن لا نريد سلطة"!


وردا على سؤال آخر عما إذا كان يعتقد بأن "دولة إسرائيل ليست في حاجة إلى علمانيين"، قال روط: "أنا لا أعتقد أننا في حاجة إلى علمانيين. وبنظرة إلى الوراء، يمكن القول كما قال الحاخام كوك (أبراهام كوك هو الحاخام الأكبر الأول للأشكناز في فلسطين برز في محاولاته تقريب الصهيونية إلى المتدينين) بأن دور العلمانية كان ضروريا في المرحلة التي لم تكن فيها اليهودية قادرة على تدبر أمور إدارة الدولة والجيش... أما وقد أصبح المتدينون يحتلون جميع هذه المواقع، فبالإمكان القول إن العلمانية قد أنهت مهمتها التاريخية. كل ما قامت به يستطيع القيام به اليوم أشخاص متدينون... وأعتقد أن العلمانية في العالم أجمع قد استنفدت ذاتها، ونظرا لكونها تقود إلى نوع من التدمير الذاتي، فيبدو أنه من الأجدى الانتقال إلى المرحلة التي تليها"!

معطيات... اتساع التدين وتبدل المواقع

يقول التقرير إن معطيات مختلفة من أبحاث إحصائية عديدة "تدل، حقا، على أن دولة إسرائيل تمر الآن في ذروة سيرورة اتساع التدين وتعمقه. فقد أظهر بحث من العام 2012 أجراه معهد غوتمان أن 80% من اليهود في إسرائيل يؤمنون بالله، 76% منهم يحافظون على حرمة السبت، 92% يحيون ليلة الفصح العبري، 78% لا يتناولون أطعمة غير حلال في عيد الفصح العبري، 40% من العلمانيين اليهود يحافظون على قواعد وأحكام الطعام الحلال و26% من العلمانيين يصومون في يوم الغفران العبري. ومع ذلك كله، فإن 40% من اليهود الإسرائيليين يعرّفون أنفسهم بأنهم علمانيون ـ وهي نسبة ثابتة لم تتغير طوال سنوات عديدة جدا".

ويقترح البروفسور آشير كوهن تفسيرا آخر لهذه المعطيات فيقول إن غالبية كبيرة من العلمانيين تضيء الشموع في عيد الأنوار (حانوكا) لأن هذا العيد قد اكتسى صبغة مناسبة قومية، وليس لأن البعد الديني هو الذي يعنيهم. والأمر ذاته يمكن قوله عن إحياء ليلة الفصح، إذ أصبحت هذه أشبه بمناسبة عائلية. لكن هذه الأمور أصبحت ملموسة بصورة واضحة الآن لأن المتدينين يحتلون مواقع مركزية في السلطة. وهذا عامل مهم آخر يعزز شعور "موت العلمانية". من الواضح أن النخب العلمانية، التي أدارت البلاد وحدها في الماضي، تشاهد الآن أمورا لم ترها من قبل، إطلاقا... فمتدين رئيس جهاز "الشاباك"، ومتدين قائد عام للشرطة، ومتدين مرشح لرئاسة جهاز "الموساد" ـ وهذا كله يخلق شعورا بازدياد المتدينين عدديا وانتشارهم، لكن ما تغير في الحقيقة هو ليس عدد المتدينين، بل مواقعهم ومكانتهم في المجتمع".

موجة استعراق، لا تديّن

يرى د. تومر بيرسِكو، الباحث والمحاضر في موضوع الأديان عامة، واليهودية خاصة، أن نظرة فاحصة إلى المجتمع الإسرائيلي تُبين أن ثمة "نهضة يهودية" قوامها أن المنتمين إلى مجموعة العلمانيين ودوائرهم المختلفة "يبدون اهتماما بالتقاليد الدينية وبكل جوانبها، لكن هذا لا يعني التوقف عن كونهم علمانيين بالمفهوم السوسيولوجي، بل العكس هو الصحيح ـ إنهم يحددون لأنفسهم كيف يترجم هذا اللقاء بينهم وبين التقاليد الدينية، إنهم يخيطون لأنفسهم بدلة يهودية على هواهم وكما يشتهون أن يلبسوا. ليست في هذا أية عودة جماعية إلى الدين".

ويشير بيرسكو إلى وجهة أخرى تتمثل في "موجة الاستعراق" (التعصب والاستعلاء العرقي) التي يجسدها، في رأيه، ازدياد قوة حزب "البيت اليهودي" خلال السنوات الأخيرة. ويقول: "لدينا حزب ديني قومي وفجأة، ذات يوم، يضمّون إليه امرأة علمانية، ثم علمانيا آخر. إنها موجة يتم خلالها تعريف الإسرائيلية بأنها الانتماء إلى الشعب اليهودي، وهو ما يتحدد ليس وفقا لمدى الالتزام بالشريعة اليهودية وأحكامها، بل بموجب السؤال: "مَع من تتماهى؟". وبهذا المعنى، فإن يانون ميجال وأييلت شاكيد هما "يهوديان جدا"، ليس بالمفهوم الديني وإنما بالمفهوم الوطني. وهذا التماهي، بالذات، هو الذي يتيح لمجموعات مثل الصهيونية الدينية استيعاب أشخاص لا يلتزمون بالأحكام الدينية مطلقا، بل لمجرد كونهم يتماهون معها كأشخاص وطنيين. ونفتالي بينيت هو التجسيد الأبرز لهذه الظاهرة. فهو رئيس الحزب الديني الأكبر، بينما هو لم يدرس الشريعة اليهودية بصورة جدية ويختلف، تمام الاختلاف، عن كل الذين أشغلوا رئاسة حزب "المفدال" سابقا. ومعنى هذا أن ثمة شرعية لهذه المواقف، أيضا"!

ويرى بيرسكو إن هذه الظاهرة تجسّد "تحولا اجتماعيا واضحا، دون شك. وهذا لا يعني أن هؤلاء الأشخاص ليسوا علمانيين، لكن هذا الوضع يثير خوفا كبيرا وشديدا لدى كثيرين من العلمانيين الذين لا تربطهم رابطة حقيقية بالدين وشرائعه وشعائره". ومن هنا، فهو يعتقد بأن "دولة إسرائيل تصبح، بكثير من المعاني، أكثر تعددية وأكثر تنوعاً. ثمة شرعية أكبر لمجموعات دينية مختلفة وقد تشكل هنا نوع من اليهودية الإسرائيلية التي تمثل ظاهرة من الازدهار الثقافي وهذا أمر رائع. المجتمع بحاجة إلى هذا لكي ينمو ويزدهر".

المشرقية ـ هوية جديدة؟

ولإغلاق دائرة الحديث عن الهويات، يختتم التقرير بمحاولة استيضاح مكانة ودور اليهود المشرقيين في هذه السيرورة بمجملها من خلال طرح السؤال التالي: هل يعني موت العلمانية، عمليا، انتصار المشرقية؟

وفي محاولة الإجابة عن هذا السؤال، يقول د. مئير بوزاغلو، أستاذ الفلسفة في الجامعة العبرية في القدس، إن كثيرين من أبناء الطوائف اليهودية المشرقية "يرون أن هذا التقسيم الثنائي بين متدينين وعلمانيين لا يمثلهم ولا يعبر عنهم. ومن هنا تأتي شرعية التمسك بالتقاليد. أي أن هذا التقسيم الثنائي يتيح لليهود الشرقيين الذين كانوا يعرّفون أنفسهم سابقا بأنهم علمانيون إمكانية تعريف أنفسهم الآن بصورة أكثر دقة وتحديدا. ونتيجة لذلك، يهتز التصنيف على أساس متدين ـ علماني ويتزعزع. والاتجاه الأبرز الذي يعكس هذا هو بين المثقفين الشرقيين، الذين كانوا أكثر ملاءمة في الماضي لنموذج القوس الديمقراطي الشرقي (حركة اجتماعية تأسست في العام 1996 بمبادرة مجموعة من أبناء الطوائف اليهودية الشرقية في إسرائيل من أجل تقليص الفجوات في المجتمع الإسرائيلي) ـ علمانيون يتبنون ميول وتوجهات اليسار الأشكنازي".

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات