هناك عدة نظريات توضح الكيفية التي يمكن من خلالها إدارة الصراعات الدولية والتعامل معها، من أبرزها "نظرية المباريات اللعبة" التي يبدو أنّها الأنسب لدراسة الصراع ما بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران، حيث تعتبر هذه النظرية أحد المناهج المتّبعة في دراسة العلاقات الدوليّة.
تقوم النظرية على افتراض أنّ صنع القرار يتضمن درجة معينة من العقلانية، فكل لاعب يسعى لنيل مكاسب قصوى وإن نتيجة المباراة ترتبط بخيارات اللاعب أو اللاعبين المقابلين حيث تسعى الأطراف المشاركة في اللعبة إلى تحقيق أكبر قدر من العوائد وتجنب أكبر قدر من الخسائر.
وهذا على ما يبدو ما حصل بين أميركا وإيران، فقد أعلنت مجموعة القوى الكبرى 5+1 (الأعضاء الدائمون في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بالإضافة إلى ألمانيا) عن التوصّل إلى اتفاقٍ نهائي مع إيران حول برنامجها النووي، ويقوم الاتفاق على رفع العقوبات الدولية عن إيران مقابل تخليها عن الجوانب العسكرية لبرنامجها النووي، كما يعزّز هذا الاتفاق الإجراءات والضمانات الرقابية الصارمة على الأنشطة والمنشآت النووية الإيرانية ويضع قيودًا على مستوى تخصيب اليورانيوم والبلوتونيوم ويحدِّد عدد أجهزة الطرد المركزي التي تملكها إيران.
رغم أن الاتفاق يضمن عملياً تجميد البرنامج النووي الإيراني، حيث وافقت إيران على التخلي عن 97% من كمية اليورانيوم الذي قامت بتخصيبه مما يعني أنها إذا قررت في أي وقت خرق الاتفاق وصناعة قنبلة نووية ستكون قدراتها محدودة جدًا في هذا الشأن، وستحتاج لعام كامل بدلاً من شهرين أو ثلاثة، إلى جانب وقف العمل في منشآتها النووية، باستثناء عملية تخصيب رمزية بنسبة أقل من67ر3% (تحتاج القنبلة النووية إلى تخصيب نسبته 90%)، إلا أنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وصف الإتفاق بأنه "خطأ تاريخي صادم" وأعلن أنّ إسرائيل لن تلتزم به، ويلاحظ أنّه يوجد شبه إجماع داخل إسرائيل على رفض الاتفاق لدرجة توحد كل من الحكومة الإسرائيلية والمعارضة بجميع أطيافها على ذلك، ولم يشذ عن التيار العام سوى بعض القادة الأمنيين "السابقين" أمثال رئيس جهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك) الأسبق عامي أيالون ورئيس جهاز المهمات الخارجية "الموساد" الأسبق إفرايم هليفي اللذين أعربا عن تأييدهما للاتفاق النووي، ووصفاه بأنه الخيار الأفضل.
يعتبر إبرام الاتفاق بمثابة فشل كبير للسياسة الخارجية الإسرائيلية بشكل عام وفشل لنتنياهو بشكل خاص، فهو الذي وعد ناخبيه بالتصدي للخطر النووي الإيراني ولطالما استخدم التهديد الإيراني كفزاعة من أجل كسب أصوات الناخبين، وهذا ما دفع يائير لبيد رئيس حزب "يوجد مستقبل" المعارض لدعوة نتنياهو إلى تقديم استقالته وتشكيل لجنة رسمية للتحقيق في هذا الفشل المدوي.
كما يفند الاتفاق الفرضية السائدة عند بعض المحللين بأنّ اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة يتحكم بالسياسة الخارجية الأميركية، فقد أثبت الإتفاق أنّ أميركا تقدم مصلحتها الإستراتيجية على مصلحة حليفتها المدللة إسرائيل، ففي السياسة الخارجية للدول لا يوجد أصدقاء أو أعداء دائمون بل توجد مصالح دائمة.
لماذا ترفض إسرائيل الاتفاق؟
بحسب تصريحات نتنياهو وبعض المحللين الإسرائيليين توجد عدة مبررات لرفض الاتفاق، من أهمها:
1. الاتفاق يفتح لإيران الطريق للحصول على ترسانة من القنابل النووية خلال عقد ويمكّنها من تحقيق الاختراق نحو السلاح النووي حتى قبل انتهاء هذه الفترة بسبب الثغرات العديدة في بنود الاتفاق الخاصة بمراقبتها كما حدث مع كوريا الشمالية.
2. الاتفاق "سيمنح إيران (بعد رفع العقوبات الدولية عنها) مئات المليارات من الدولارات التي ستصرف على تمويل العمليات الإرهابية في كل أنحاء العالم وعلى أعمالها العدوانية في المنطقة وعلى جهودها غير المتوقفة الرامية إلى تدمير إسرائيل"، فالاتفاق لم يتضمن أي تفاهمات يتم بموجبها وقف دعم إيران للتنظيمات "الإرهابية"، وقد اتضح ذلك عبر تأكيد الرئيس الأميركي باراك أوباما أنّ الولايات المتحدة ستدعم حلفاءها في المنطقة وتحديدًا إسرائيل ودول الخليج العربي، للتصدي لأي تصرفات إيرانية تهدّد استقرار المنطقة أو تزعزعه.
3. الاتفاق سيقود إلى اشتعال سباق نووي في المنطقة وقد يدفع دولها للسعي من أجل امتلاك السلاح النووي.
4. الاتفاق يضفي شرعية دولية على برنامج إيران النووي ويبقيها كدولة على "حافة القدرة النووية" بدلا من تجريدها من قدراتها النووية.
5. الاتفاق يحول إيران من دولة مارقة إلى لاعب إقليمي معترف به دولياً يمكن التوصل معه لتفاهمات حول قضايا المنطقة، حيث ستصبح إيران جزءاً من حل المشاكل وليست المشكلة.
6. عدم تضمين الاتفاق إجراءات أو عقوبات في حال تم خرقه من إيران.
7. إقرار الاتفاق من قبل مجلس الأمن يقيد إسرائيل ويحرمها من حق القيام بأي عمل عسكري لأنّ معنى ذلك أنّ إسرائيل ستقف في مواجهة العالم.
8. الاتفاق لا يمنع إيران من تطوير وإنتاج الصواريخ البالستية (التي يمكن استخدامها لحمل الرؤوس النووية).
السيناريوهات المستقبلية المتوقعة للاتفاق من وجهة نظر إسرائيل
1. سيناريو التحوّل الداخلي في إيران: يؤدي الاتفاق لنشوء طبقة من أصحاب المصالح مستفيدة من الانفتاح الاقتصادي ورفع الحصار، بحيث تضغط هذه الطبقة على المؤسسة الحاكمة من أجل تغيير سياساتها الخارجية نحو مزيد من الاعتدال والبعد عن تصدير"الثورة". احتمالية تحقق هذا السيناريو ضئيلة إذا بقي النظام في إيران مسيطرا عليه من قبل المرجعية الدينية التي لن تسمح بحدوث مثل هذا التحول.
2. سيناريو التزام إيران بالاتفاق: وهذا يعني استغلالها لفترة 10-15 سنة المنصوص عليها في الاتفاق من أجل تدعيم قوتها الاقتصادية، ومن ثم التفرغ فيما بعد لبرنامجها النووي. هذا السيناريو هو الأكثر احتمالاً في ظل حاجة إيران لالتقاط أنفاسها بعد تعرضها لأزمة اقتصادية حادة نتيجة الحصار ونزول أسعار البترول.
3. سيناريو خرق إيران للاتفاق: وهذا شبيه بما حدث مع كوريا الشمالية، هذا السيناريو احتماله وارد وإن كان بشكل غير كبير؛ ففي حال وجدت إيران أنّها لم تستفد من الاتفاق كما يجب فستلجأ لخرق الإتفاق.
الإجراءات الإسرائيلية المتوقعة
1. محاولة عرقلة التصديق على الاتفاق في الكونغرس الأميركي. نسبة نجاح هذه المحاولة ضئيلة للغاية بسبب طبيعة النظام السياسي الأميركي الذي ينص على وجوب تصويت أكثر من ثلثي أعضاء مجلسي النواب والشيوخ مجتمعين على رفض الاتفاق في حال فشل أوباما في الحصول على أغلبية الأصوات في مجلس النواب لإقرار الاتفاق. ورغم صعوبة النجاح في عرقلة الاتفاق من المتوقع أن يلجأ نتنياهو لذلك لسببين، أولهما الظهور أمام ناخبيه بأنّه لم يقصر في إعاقة الاتفاق، وثانيهما ابتزاز الإدارة الأميركية لأقصى حد من أجل الحصول على تعويضات.
2. تعزيز قسم سلاح الحرب الإلكترونية "السايبر" التابع للجيش الإسرائيلي والذي تم إنشاؤه مؤخراً، من أجل مهاجمة المفاعلات النووية الإيرانية وتعطيلها، ومن المتوقع الانتهاء من انشاء هذا القسم خلال سنتين.
3. طلب سلاح نوعي من الولايات المتحدة كتعويض عن الاتفاق يضمن تفوق إسرائيل النوعي.
4. تعزيز التعاون الاستخباراتي مع الولايات المتحدة من أجل رصد أي خرق للاتفاق من قبل إيران، مع السعي للوصول لاتفاق مع الولايات المتحدة على آلية للرد في حال حصل أي خرق.
5. بناء منظومة استخباراتية تهتم بمنطقة الخليج العربي من أجل رصد أي تحرك خليجي وبشكل خاص في السعودية، كي لا تتفاجأ إسرائيل بحصول إحدى الدول الخليجية أيضاً على سلاح نووي.