المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 51
  • حسن خضر

صدرت حديثاً عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار الترجمة العربية لكتاب "المعيار المفقود - من حلّ الدولتين إلى واقع الدولة الواحدة" لمؤلفه إيان لوستِكْ، وفيه يروي مسيرة انعطافه نحو حلّ الدولة الواحدة، بعد أن كان من دعاة حلّ الدولتين، مقدّما مجموعة مسوّغات نظرية لتبرير هذه الانعطافةوترجم الكتاب عن الإنكليزية الكاتب حسن خضر الذي كتب له التقديم التالي:

يمثّل هذا الكتاب مرافعة ضد حل الدولتين من جانب أستاذ في العلوم السياسية، وداعية سابق لهذا الحل، وأحد المختصين البارزين في قضايا الصراع في فلسطين وعليها، والدولة والمجتمع الإسرائيليين. وكما هو الشأن في كل مرافعة يُراد لها أن تكون مُجدية، يشخّص الكاتب عدداً من الأسباب، التي أدى تضافرها إلى انسداد الأفق في وجه حل الدولتين، ويقدّم مسوّغات نظرية، ومُقارنة، لتبرير الدعوة إلى حل الدولة الواحدة.

يمثل الحل المنشود، في نظر الكاتب، استجابة موضوعية فرضها واقعٌ تشكّل، وما زال، على مدار عقود، هو واقع الدولة الواحدة. فالمنطقة ما بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط تقع تحت سيطرة الدولة الإسرائيلية بشكل كامل، كما تحكم وتتحكم بحياة السكان فيها قوانين تمييزية مختلفة، ومتفاوتة، تمنح امتيازات حصرية إلى الجماعة اليهودية دون غيرها.

يدلل الكاتب (مستعيناً بشواهد نظرية وعملية مُستمدة من فلسفة العلوم) على بطلان الحل الأوّل، ويعزز من جدارة الثاني، استناداً إلى فرضية أن كلا الحلين يتجلى بوصفه بنية خطابية واستراتيجيات وتخصصات، ومصالح ورهانات شخصية ومهنية، تشكّل مجتمعة معياراً، أو مسطرة، تُقاس عليها مدى قابلية الحل للتحقيق، والإقناع، وتجنيد الموارد، ناهيك عن توليد مبررات إضافية لتذليل عقبات غير متوقعة. وقد يحتاج الأمر عقوداً طويلة قبل تسليم منتجي المعيار، ومروّجيه، والمستفيدين منه، بالفشل.

ويُشخّص، في معرض تحليله لانسداد الأفق في وجه حل الدولتين، ثلاثة أسباب، أو عراقيل، رئيسة، وما نجم عنها من نتائج غير متوقعة، والتأثير والتأثر المُتبادل بينها في الاتجاهين:

فشل النخب الإسرائيلية الحاكمة في تتويج المراحل الختامية في استراتيجية "الجدار الحديدي" بالتفاوض مع الفلسطينيين والعرب بعد تسليم هؤلاء بوجود الدولة اليهودية، وميلهم إلى "الاعتدال"، واستعدادهم للتعايش معها.

 ونجاح الإسرائيليين في الحصول على مساعدات أميركية مالية وعسكرية هائلة، إضافة إلى الغطاء الدبلوماسي في المحافل الدولية، نتيجة ما لدى اللوبي الإسرائيلي من نفوذ في أروقة السياسة الأميركية، إضافة إلى عوامل أيديولوجية، وسياسية، وثيقة الصلة بالحراك الاجتماعي، واللعبة السياسية، في الولايات المتحدة.

 وأخيراً، مركزية الهولوكوست، العملية التي أثرت بطريقة سلبية على علاقة اليهود الإسرائيليين بالعالم، وجعلت من المصير المأساوي لليهود الأوروبيين على يد النازي، في الحرب العالمية الثانية، مرآة للحياة والتاريخ اليهوديين.

2-

والواقع أن الكتاب يحفل بشواهد كثيرة للتدليل على دور العوامل سالفة الذكر في صعود "اليمين" في السياسة والمجتمع الإسرائيليين، وإحباط محاولات التقدّم على طريق حل الدولتين. ويمثل، بهذا المعنى، مرجعاً موثّقاً وغنياً لما طرأ على السياسة والمجتمع الإسرائيليين من تحوّلات، ناهيك عن كونة إضافة ضرورية إلى أدبيات الدراسات الإسرائيلية، ودراسات الهولوكوست، والعداء للسامية، والعلاقات الإسرائيلية – الأميركية، في المكتبة العربية.

ومع هذا في البال، فإن الحلقة المفقودة، في العلاقة المتبادلة بين العوامل المذكورة، التي تفسّر ما أطلق عليه الكاتب تعبير "النتائج غير المتوقّعة"، هي موقف النخب الإسرائيلية السائدة من مشروع الدولة. ففي معرض تحليله لاستمرارية الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة، يذكر عالم الاجتماع الإسرائيلي غيرشون شافير، أن طول الفترة الزمنية للاحتلال، مقارنة باحتلالات عسكرية وقعت في مناطق أُخرى من العالم، مصدرها إحساس النخب المعنية بأن مشروع الدولة لم يكتمل بعد.[1]

 وهذه الفرضية، بالذات، أي عدم اكتمال مشروع الدولة، هي التي تستدعي الحلقة المفقودة بطريقة تبدو فيها "النتائج غير المتوقعة" متوقعة فعلاً، ونتيجة طبيعية، إذا وضعنا في الاعتبار (1) أن كل جنوح من جانب الفلسطينيين والعرب إلى "الاعتدال" قوبل من جانب الإسرائيليين بجنوح مضاد إلى "التطرّف" (منذ زيارة السادات إلى القدس) و أن (2) مركزية الهولوكوست تطوّرت مع ازدياد ثقة الدولة بقوتها العسكرية والاقتصادية مقارنة بأعدائها (منذ صعود "اليمين" إلى سدة الحكم، وتدمير المفاعل النووي العراقي، وغزو لبنان 1982) وأن (3) الفشل في تتويج المراحل الختامية لاستراتيجية الجدار الحديدي بالتفاوض، ليس فشلاً، بالضرورة، بل ترجمة سياسية وأيديولوجية، معززة بالقوّة العسكرية، لإمكانية الحصول على أرض أكبر، وتنازلات أكثر (الزيادة الهائلة في وتيرة الاستيطان بعد أوسلو).

الحلقة المفقودة، إذاً، هي مشروع الدولة، الذي يتخذ أشكالاً مختلفة، ومتفاوتة، من حيث التجلي والخفاء. وقد تجلى بطريقة تبدو وحشية تماماً، بلغة القانون الدولي، والقانون الدولي الإنساني، ومذكرات التوقيف الصادرة عن محكمة الجنايات الدولية، في الحرب على الفلسطينيين، التي اندلعت في السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023، ولم تتوقف حتى كتابة هذا السطور (تشرين الثاني 2024).

لذا، لا نجد مجازفة في القول إن ما صدر من تصريحات، خلال الفترة المعنية، على لسان مسؤولين إسرائيليين، عن تهجير السكان، والاستيلاء على أرضهم (ليس في غزة وحسب، بل وفي جنوب لبنان أيضاً) يشبه عودة عنيفة للمكبوت السياسي والأيديولوجي، الشبح الذي يشعر الناس، بطريقة ما، أنه دائماً هناك، ولكنه لا يشكو ندرة عنصر المفاجأة، التي تصيبهم بالصدمة، كلما تجلى في الواقع.

3-

على أي حال، يفترض الكاتب أن موت حل الدولتين، وواقع الدولة الواحدة، القائم بحكم الأمر الواقع، يسوّغ طرح معيار جديد هو حل الدولة الواحدة، ولكن بطريقة تختلف تماماً عن التفكير السائد، والتصوّرات المتداولة.

فالدولة الواحدة تبدو في نظر دعاتها، نهاية سعيدة للحل التفاوضي، والقبول المُتبادل، بين شعبين يقيمان على أرض فلسطين. بينما قد يستغرق الحل المنشود، في نظره، عقوداً طويلة، ويغطي حياة أكثر من جيل، قبل الوصول إلى نهاية سعيدة، لن تتحقق بالمفاوضات، بل بالتراكم، ولقاء المصالح الفئوية والسياسية المشتركة لجماعات فلسطينية ويهودية إسرائيلية، بما يخدم مصلحة الطرفين في قضايا محددة ومحدودة في البداية، قبل الوصول، بالتراكمات الصغيرة، والتحالفات على نطاق أوسع، إلى المساواة الكاملة في المواطنة والحقوق المدنية والسياسية في كامل المنطقة ما بين البحر والنهر.

يستعين الكاتب، للتدليل على طول المدى الزمني، وما يسم عملية كهذه من تعقيدات، بالصراع في جنوب أفريقيا، وكفاح السود، وحركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة، والصراع في أيرلندا الشمالية، بل وحتى بكفاح النساء للحصول على حق التصويت في بلدان أوروبية مختلفة، كوسائل إيضاح. ويستشهد، في السياق نفسه، بنماذج تمثيلية محدودة لتعاون الفلسطينيين واليهود الإسرائيليين في الحقل السياسي الإسرائيلي، في الكنيست، وبلدية القدس.

يصدر هذا السيناريو عن اعتراف بواقع الدولة الواحدة، وحقيقة وجودها بين البحر والنهر، وعن اعتراف بكونها دولة أبارتهايد يحتكر فيها اليهود الإسرائيليون لأنفسهم حقوقاً وامتيازات استثنائية تكفلها سلطة الدولة بالقوانين العنصرية والعنف. وإذا شئنا إمساك الثور من قرنيه، كما يُقال، فإنه يستند، أيضاً، إلى معطى سابق بالنسبة للفلسطينيين والإسرائيليين والعالم.

المعطى السابق بالنسبة للفلسطينيين هو التخلي عن، أو اليأس مِنْ، الحق في تقرير المصير، وما يستدعي من نضالات سلمية أو عنيفة للحصول على دولة فلسطينية مستقلة، والقبول بالأمر الواقع، أي نظام الفصل العنصري، ومحاولة التأقلم معه، والرهان على مستقل سمته العدل والمساواة بعد أجيال.

والمعطى السابق بالنسبة لليهود الإسرائيليين هو التخلي عن، أو اليأس منْ، دولة المشروع الصهيوني، اليهودية الحصرية في فلسطين، وانتظار مستقبل سمته العدل والمساواة، والرهان في الأثناء (من جانب المؤمنين بحل كهذا) على تحقيق التراكم، أو الرهان (من جانب معارضيه) على تأبيد نظام الفصل العنصري، وإيجاد حلول وقائية للخلل في الميزان الديمغرافي، ومخاطر اللعبة الديمقراطية. وقد تكون المزيد من المذابح وعمليات التهجير القسرية.

والمعطى السابق بالنسبة للعالم هو التأقلم مع الاستثناء اليهودي الإسرائيلي، كأمر واقع على مدار عقود طويلة، خاصة بعد تأقلم الفلسطينيين أنفسهم، والرهان على نجاح الطرفين في تحقيق تراكمات صغيرة، على طريق تفكيك نظام الأبارتهايد بالشراكة الديمقراطية، وصولاً إلى تحقيق العدل والمساواة. وهذا، بدوره، ينطوي على تسليم بتأقلم القوانين الدولية، ذات الصلة، مع الاستثناء نفسه، بطريقة تؤدي إلى بطلانها، أو إلى تكريس ازدواجية المعايير.

الاستثناء اليهودي الإسرائيلي في صميم فكرة السيناريو، إذاً، ونجاحه مشروط بتفكيك الاستثناء بطريقة طوعية، أيضاً. لذا، ثمة ما يبرر وضع اليد على المزيد من الجوانب الإشكالية في السيناريو المطروح، قبل التفكير في كونه خارطة للطريق. ماذا سيحدث إذا كفت اللعبة الديمقراطية عن كونها لعبة لحل الصراعات السياسية في إسرائيل؟ وماذا سيحدث إذا نشبت حرب أهلية يهودية – يهودية أو يهودية – فلسطينية؟ وما هي التداعيات السياسية والأخلاقية لما أصاب صورة دولة الاستثناء اليهودي من ضرر، في أماكن وأوساط مختلفة من العالم، نتيجة ما حدث، ويحدث، في آخر جولات الصراع في فلسطين وعليها؟

4-

كانت مهمة نقل هذا الكتاب إلى اللغة العربية، في زمن الحرب، شاقة بالنسبة لي، لا بالمعنى التقني، بل الإنساني في المقام الأوّل. الأمر، هنا، لا يقتصر على تماهي الإنسان مع بني شعبه، بل يتعداه إلى العائلي والشخصي بصفة حصرية تماماً. فالأماكن المُتداولة في نشرات الأخبار اليومية، كما الصور على شاشة التلفزيون، محفورة في ذاكرة أوائل العمر والصبوات، بما لا يحصى من الأسماء والتفاصيل الكبيرة والصغيرة، أما خبر الغارة الجوية، أو القصف المدفعي، فيعني عذاباً يتكرر بصفة يومية، وفشلاً في نزع شوكته والتأقلم معه، والدوران في دائرة مُفرغة من اليأس:

 تفتّش اليد بعد سماع أو قراءة الخبر، عن الهاتف للاطمئنان، أو الاستعداد لسماع الأخبار المُفزعة، وغالباً ما لا يتحقق الاتصال، ثم التفتيش في المنشورات السريعة على وسائل التواصل الاجتماعي، عن أخبار الضحايا، والخوف من احتمال العثور بين أسماء الضحايا على مَنْ حاولت الاتصال بهم قبل قليل.

على أي حال، لن تنجو كل محاولة للتفكير في سيناريوهات للحاضر، أو المستقبل، بعد هذه الحرب، من تداعياتها، المباشرة وغير المباشرة، الآنية وبعيدة المدى. وهذا يصدق على كافة الأدبيات، ذات الصلة، التي اجتهد أصحابها في تفسير الصراع في فلسطين وعليها، وانطوت على تصوّرات واقتراحات صريحة أو ضمنية، للحل، بما فيها هذا الكتاب، الذي يزوّد القارئ بمعرفة مطلوبة، وضرورية، للعلاقات الأميركية الإسرائيلية، ومركزية الهولوكوست في مجتمع اليهود الإسرائيليين ومخيالهم السياسي.

وفي السياق نفسه، تجدر الإشارة إلى أن الكاتب استخدم تعبيرات بعينها، تبدو ذات دلالة في اللغة الإنكليزية، ولكن معانيها في المعجم العربي لا تنطوي على الدلالة نفسها. لذا، استدعت الضرورة نقلها بمفردات تبدو أقرب إلى منطق العربية دون التفريط بمعناها الأصلي.

ومنها مفردة template التي تأتي بمعنى النموذج، أو المُرشد لشيء ما، وهي أقرب إلى كلمة الاستمارة، التي يملأ الناس فراغاتها. استخدمها الكاتب في معرض القول إن الهولوكوست صار نموذجاً للحياة اليهودية، واستعضت عن النموذج بتعبير المرآة، استناداً إلى أن الهولوكوست، كما النكبة، بنية خطابية، في حالة حراك دائم. لذا تبدو المرآة أكثر دلالة، فالإنسان يرى نفسه في مرآة يُسهم في صناعتها، وتُسهم في تمكينه من تأمّل صورته، أما النموذج، أو الاستمارة، فأشياء ثابتة.

ثمة مفردة أُخرى هي holocaustia اشتقها الكاتب من مفردة holocaust ووجدت أن أقرب تعبيراتها دلالة في العربية تعني التمركز على الهولوكوست، أو مركزية الهولوكوست، على غرار المركزية الأوروبية، التي تعني التمركز على معطى سابق يتمثل في جوهر ثابت وتحويله إلى معيار لقياس وتشخيص وتعريف العلاقة بالعالم.

وبقدر ما يتعلّق الأمر بالهوامش فقد أبقيتُ عليها في صيغتها الإنكليزية الأصلية، مع استثناءات قليلة، طالما أن المُهتم بالعودة إلى المراجع بلغتها الإنكليزية الأصلية لن يجد صعوبة في هذا الشأن.

ولا تفوتني، في هذا السياق، ضرورة التعبير عن بالغ التقدير للدكتورة هنيدة غانم، مديرة مركز مدار، وطاقم المركز، نتيجة الصبر على التأخير، لأسباب معلومة، وتأجيل الصيغة النهائية للكتاب أكثر من مرّة في الأشهر الأخيرة.

 

[1] صدر كتاب شافير بمناسبة مرور نصف قرن على الاحتلال الإسرائيلي. وقد أشار لوستِك إلى هذا الكتاب في معرض تعليقه على فكرة لشافير بشأن حل الدولتين، ويبدو أن فكرة "مشروع الدولة" التي نركّز عليها، هنا، والتي تبدو مركزية في تحليل شافير لديمومة الاحتلال لم تثر اهتمامه بالقدر الكافي.

Gershon Shafir,A Half Century of Occupation: Israel, Palestine, and the World's Most Intractable Conflict, University of California Press 2017

المصطلحات المستخدمة:

الكنيست

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات