أقرت الهيئة العامة للكنيست، في الأسبوع الماضي، بالقراءة التمهيدية (من حيث المبدأ)، مشروع قانون يفرض ضريبة 80% على الجمعيات التي كل تمويلها يأتي من الخارج، وليست مدرجة على قوائم الجمعيات التي تتلقى دعما من الخزينة الإسرائيلية. وهي صيغة تستهدف الغالبية العظمى من الجمعيات الحقوقية، إلى درجة تصفيتها، وهي الجمعيات التي لا يتوافق نهجها مع سياسات الحكومة. ومشروع القانون هذا ليس جديدا، وظهر لأول مرّة قبل 15 عاما، لكن المعارضة الداخلية والخارجية، بما فيها ضغوط على الحكومة، ردعت تشريعه كليا. وسنرى كيف أن التعامل مع هذا القانون هو نموذج واضح للتقلبات السياسية في إسرائيل في السنوات الأخيرة.
وكانت الهيئة العامة للكنيست قد أقرت، في الأسبوع الماضي، بغالبية أصوات الائتلاف وأصوات قسم من نواب المعارضة الصهيونية، وبالقراءة التمهيدية (من حيث المبدأ)، مشروع قانون يفرض ضريبة بنسبة 80%، على التبرعات التي تتلقاها جمعيات من جهات خارجية، إذا كانت هذه الجمعيات لا تتلقى تبرعات من الخزينة الإسرائيلية.
كذلك يمنع القانون المحاكم الإسرائيلية من معالجة التماسات تقدمها هذه الجمعيات التي يتم تمويلها بشكل أساس من قبل كيان سياسي خارجي، وإذا لم تكن الجمعية مدرجة في ميزانية الدولة. كما يمنح مشروع القانون صلاحية لوزير المالية ليقرر اعفاء جمعية ما من الضريبة أو أن يخفض نسبتها، ليكون هذا البند ثغرة تسمح للحكومة بالتصرف، في حال وُجدت جمعية تابعة لليمين المتشدد تتلقى دعمها كاملا من الخارج.
وبادر لمشروع القانون عضو الكنيست أريئيل كالنر من كتلة الليكود.
وبحسب التفسير المرافق لمشروع القانون، نورد الاقتباس التالي: "الغرض من مشروع القانون هذا هو الحد من التأثير غير المباشر للحكومات الأجنبية والكيانات السياسية على دولة إسرائيل. ويتجلى هذا التأثير، من بين أمور أخرى، في الدعم المالي المباشر للمنظمات غير الربحية في إسرائيل، والتي تعمل كوكالة تغيير نيابة عن هذه الكيانات.
وهذه الظاهرة تتجاوز حدود الإطار الديمقراطي وتضر بسيادة واستقلال الدولة، التي يتم فيها ذلك".
وعددت صحيفة "هآرتس" الجمعيات المستهدفة من هذا القانون، ومنها، جمعيات تروج لقيم الديمقراطية الليبرالية، وحقوق الإنسان، والأقليات، والنساء، وذوي الاحتياجات الخاصة، والأطفال، والمهاجرين، والإدارة السليمة، ومكافحة الفساد، والسياسة النقية، وجودة وحماية البيئة، والسلام، والشراكة العربية اليهودية، والتسامح تجاه الميول الجنسية المتنوعة، والخروج عن الدين، ومكافحة العنف تجاه النساء، والتفكير بـ "اليوم التالي" وطرح حلول للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وترفضها الحكومة الحالية.
كذلك فإن القانون قد يطاول منظمات تعمل في صالح حق المرأة في جسدها، والحق في الإجهاض، والإعلام الحر، والأكاديمية المستقلة، والتعددية اليهودية والترويج لتيارات متنوعة في اليهودية.
تحولات سياسية خلال 15 عاماً
ظهر قانون الجمعيات، كما ذكر سابقا هنا، لأول مرّة على أجندة الكنيست خلال العام 2010، وحتى أن تفاصيله كانت أقل وطأة، نسبيا، مما ظهر في صيغة مشروع القانون الذي أقر في الأسبوع الماضي بالقراءة التمهيدية، لكن كان يقضي أيضاً بفرض ضريبة على التبرعات تصل إلى 60%.
إلا أنه حينما تم طرح مشروع القانون، في ذلك الحين، ثارت ضجة في الكنيست في صفوف المعارضة الصهيونية، وكانت أكبر كتلة يومها لحزب "كديما" المنحل لاحقا، بقيادة تسيبي ليفني، كما كانت معارضة في حزب العمل الذي كان يومها شريكا في الائتلاف، قبل أن تنشق كتلته في مطلع العام 2011، وبات رئيس الحزب يومها إيهود باراك، رئيس الشق الأصغر، وبقي في الحكومة.
وتعرّضت حكومة بنيامين نتنياهو في ذلك العام إلى ضغوط جمّة، بشكل خاص من الدول الأوروبية المانحة للجمعيات الحقوقية، وأيضا دول أوروبية كبرى أخرى، كما شاركت في الضغوط الإدارة الأميركية برئاسة باراك أوباما.
لكن اللافت أكثر، أن المعارضة للقانون كانت أيضا في كتلة الليكود، بالذات من الوجوه البارزة في ما يسمى "التيار الأيديولوجي" الأول، الذي أسس حزب حيروت، الحزب الأساس الذي شكّل الليكود في العام 1974، هذا التيار الذي عمل نتنياهو، على مدى سنوات، على استبعاده من كتلة الكنيست، ونجح في هذه المهمة، تقريبا كليا، في انتخابات العام 2013، باستثناء من بات لاحقا رئيسا للدولة، رؤوفين ريفلين.
وبلغت حدة المعارضة إلى درجة تنظيم مظاهرة ضخمة، بمشاركة عشرات الآلاف، في شوارع تل أبيب، في الشهر الأول من العام 2011، وكانت ضمن المتقدمين في الصف الأول لهذه المظاهرة، تسيبي ليفني، وعدد من الوجوه البارزة في حزبها، ومن حزب العمل بالتزامن مع انشقاقه.
في نهاية المطاف لفلفت حكومة نتنياهو أذيالها وأوقفت مسار تشريع القانون، إلا أنه لم يسقط عن مبادرات نواب كتل اليمين الاستيطاني على مر السنين. وفي الولاية البرلمانية الحالية، تم طرح قانون شبيه في العام 2023، لكن أيضا تم وقف تشريعه، إلى أن عاد في الأسبوع الماضي، تحت أدخنة الحرب الإسرائيلية، التي أنهت الغالبية الساحقة مما كان يظهر وكأنه فوارق بين الفريق الحاكم، ومعظم نواب كتل المعارضة الصهيونية.
ورأينا في استعراض نتيجة التصويت، أنه لم يكن جهد من المعارضة لإسقاط مشروع القانون، وهذا ما جعل الائتلاف يقِل في تجنيد نوابه لجلسة التصويت، التي شارك فيها 66 نائبا من أصل 120 نائبا. من بينهم 47 نائبا أيدوا مشروع القانون، من كتل الائتلاف الحاكم، وكتلة "إسرائيل بيتنا" المعارضة بزعامة أفيغدور ليبرمان، إذ أن هذا الحزب كان من المبادرين لمثل هذا القانون في السنوات الماضية.
وعارض القانون 19 نائبا، إذ برز تغيب واضح من كتل المعارضة الصهيونية عن جلسة التصويت، باستثناء كتلة حزب العمل التي شارك نوابها الأربعة معارضين، بينما شارك 9 نواب من أصل 23 نائبا في كتلة "يوجد مستقبل" بزعامة يائير لبيد، الذي برز غيابه، ونائب واحد من أصل 8 نواب في كتلة "المعسكر الرسمي"، بزعامة بيني غانتس، الذي هو أيضا تغيب عن الجلسة.
ومن الضروري الإشارة إلى أن هذا هو أحد مشاريع قوانين تقويض الديمقراطية، وفي طياته ضرب لصلاحيات الجهاز القضائي، ورغم ذلك، لم نشهد موقفا حازما من أحزاب المعارضة التي قادت حملة احتجاج واسعة من مطلع العام 2023 وحتى شن الحرب في أواخر العام نفسه، ضد ضرب مقومات الديمقراطية، وضد تقويض جهاز المحاكم، وهو ما أسمته تلك الأحزاب "الانقلاب على مؤسسات الحكم"، أو "الانقلاب على الجهاز القضائي". ورغم أن هذه الأحزاب، وفي أوج حملتها المذكورة، لم ترفع صوتها بشكل واضح، ضد تشريعات تستهدف الفلسطينيين في إسرائيل ومؤسساتهم، وحتى أن بعض نواب المعارضة كانوا من المبادرين لقوانين ذات طابع عنصري وتمييزي.
ليس واضحا كيف سيتطور مسار تشريع هذا القانون لاحقا، وإذا ما سيصل إلى الإقرار النهائي، وبأي صيغة. لكن منذ الآن بات واضحا أنه لن تكون ضغوط من جانب الإدارة الأميركية، لا بل إنها قد تكون سندا لإسرائيل في حال واجهت دعوات أو ضغوطا أوروبية. كذلك هناك شك في ما إذا ستكون ضغوط أوروبية ذات وزن. أو أن إسرائيل ستأخذ بالحسبان توجهات أوروبية في حال ظهرت.
وكل هذا، أمام عدم ظهور معارضة إسرائيلية ذات وزن، وهذا ينعكس ليس فقط في الكنيست، بل أيضا في وسائل الإعلام الإسرائيلية باستثناء صحيفة "هآرتس"، حتى الآن.
تحذيرات محللين
وقالت صحيفة "هآرتس"، في مقال افتتاحي لهيئة التحرير، إن "الصيغة التي يجري العمل عليها لتعديل قانون الجمعيات هي الأكثر تطرفا في المشاريع التي طرحت على البحث وشطبت منه في السنوات الأخيرة. مشروع قانون سابق مشابه قضى معدل ضريبة 65%. ومع "الإصلاح القضائي" ارتفع معدل الالزام الضريبي للجمعيات إلى 80%، ربما لأجل الوصول لاحقا إلى حل وسط سام وكاذب، على طريقة الحكومة، يقرر معدل 65% ويصنّف كتنازل سخي يحظى بتأييد ممثلي الوسط بل وربما رئيس الدولة، المحب للحلول الوسط الوهمية".
ودعت الصحيفة قوى المعارضة ومنظمات المجتمع المدني والجمهور إلى "أن يصارع ضد مشروع القانون الذي هو مدماك مركزي في الانقلاب على النظام". وأضافت أنه إذا ما تم تشريع القانون، "سيبدأ العد التنازلي لتصفية منظمات المجتمع المدني".
وقال الخبير في الشؤون القضائية والحقوقية، مردخاي كريمنيتسر، في مقال له في صحيفة "هآرتس"، أنه "يبدو أن هذا القانون يمكن أن ينظم نشاطات الجمعيات التي تمولها دول أجنبية، لكن عمليا الحديث يدور حول تصفيتها. فأي دولة ستقوم بتبذير أموال دافع الضرائب لديها على تبرعات 80% منها تذهب للضرائب؟ وفي ظل غياب مقاربة مضمونة للمحاكم، فما الذي سيساعد هذه الجمعيات؟ من هو الوطني الإسرائيلي الذي يريد أن يكون عضوا أو فقط يؤيد جمعية يوصمها المشرّع بوصمة "عميل أجنبي" والتي تخدم مصالح دولة أجنبية؟.
"هذه العملية غير مفاجئة. فقادة الانقلاب على النظام تعلموا كيفية استخدام قوة إنفاذ القانون والتلاعب والكذب ونزع الشرعية. وهذا عار على اليمين في إسرائيل، الذي كان ذات مرة ليبراليا وحوّل جلده إلى ديكتاتورية لا حدود لها، مع إدارة الظهر للإرث الذي تفاخر به. بدلا من الدفاع عن حقوق الإنسان، فإنه يرفع الفأس على هذه الحقوق ويسمح بسحقها. في هذه الحالة يتم سحق حقوق مهمة: الحق في حرية التعبير السياسي، الحق في إقامة جمعيات والحق في المساواة. وبدلا من اعتبار حقوق الإنسان إرثا عالميا ويهوديا، والذي تتفاخر إسرائيل بالانتماء إليه، تم إلصاق حقوق الإنسان بالاسم المعيب ’اليسار’".
وتابع: "إسرائيل كانت في السابق تتفاخر (وما زالت أحيانا) بأنها جزء من العالم الديمقراطي الليبرالي، وشريكة في قيمه العالمية التي ترتكز إلى حقوق الإنسان. لكن مشروع القانون، الذي هو قيد النقاش، يصور إسرائيل وكأنها تفتح جبهة ضد حقوق الإنسان... بدون التزام عميق ودفاع جدي عن حقوق الإنسان فان الديمقراطية ستفقد أسسها".
وكتب كريمنيتسر: "مناعة ديمقراطية الدولة يتم فحصها حسب نشاطات المجتمع المدني فيها. في إسرائيل التي تعاني من محاولة تحويلها إلى دولة قومية متطرفة – متدينة تحكمها سلطة مستبدة، فإن دفاع المجتمع المدني عن الطابع الديمقراطي- الليبرالي- العلماني والوطني الثقافي- هو خط الدفاع الأخير".
ويقول المحلل والخبير في الشؤون القضائية موشيه غورالي، في مقال له في صحيفة "كالكاليست" الاقتصادية التابعة لصحيفة "يديعوت أحرونوت"، إنه "يتبين أن الدول المانحة لهذه الجمعيات تساهم بشكل خاص في الجمعيات التي تروج لما يسمى بالخطاب الديمقراطي الليبرالي "القيم المشتركة"؛ وليس هناك ما هو أكثر إثارة للخوف بالنسبة للتيار الديني الفاشي، القائم لدينا، من هذه القيم المشتركة، بالنسبة لإسرائيل والعالم الديمقراطي، بما في ذلك الولايات المتحدة القديمة، في عهد جو بايدن. هذه هي قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان ودعم الأقليات ودعم التعاون بين اليهود والعرب. باختصار، وبكلمة واحدة - يسار".
ويتابع: "إن مسألة كيف أصبحت حقوق الإنسان اسما رمزيا لليسار، وحتى اليسار الغادر، تستحق دراسة منفصلة. أما الجمعيات اليمينية التي تروج للاستيطان أو بناء الهيكل، مثل جمعية بناء الهيكل، وأصدقاء مدينة داود، وعطيرت كوهانيم وغيرها، فلا داعي للقلق. ويتم التبرع لها بكميات أكبر، ولكن ليس من دول "القيم المشتركة"، ولكن من المليارديرات والكيانات الخاصة. ولذلك لا يطبق عليهم القانون".
ويختم غورالي قائلاً: "يمكن تلخيص هذا التقسيم على النحو التالي: إسرائيل دولة يهودية وديمقراطية. أولئك الذين يساهمون في تعزيز الصورة اليهودية معفون من الضرائب. أما أولئك الذين يساهمون في تعزيز الصورة الديمقراطية فسيتم فرض ضريبة عليهم بنسبة 80%. وهذه طريق أخرى للسيطرة اليهودية على الديمقراطية".
المصطلحات المستخدمة:
الصهيونية, يديعوت أحرونوت, هآرتس, باراك, كديما, الليكود, الكنيست, بنيامين نتنياهو, يائير لبيد, أفيغدور ليبرمان