الأزمة الداخلية الحالية، بما في ذلك طريقة إدارتها، هي حدث تدميريّ متواصل وغير مسبوق في إسرائيل، لا من حيث حدته ولا من حيث نطاقه ولا من حيث إسقاطاته المستقبلية. من الصعب جداً تقدير كيفية تطور هذا الحدث ووجهات تطوره، إلا إن الفرضية المتفق عليها هو أنه قد نشأ في إسرائيل خلال الأشهر الأخيرة "ميزان رعب" غير مستقرّ ما بين الحكومة والحركة الاحتجاجية. ومن المشكوك فيه، جداً، إن كانا، كلاهما أو كل منهما على حدة، معنيين بالبحث عن إمكانيات التجسير على الفجوات العميقة بينهما، أو مدركين لضرورة هذا البحث أو قادرين عليه. ذلك أن القضية لا تنحصر في المواضيع العينية المتعلقة ببرنامج "الإصلاح" الحكومي في المجال القضائي، وإنما هي تطال، في العمق وبقوة كبيرة، الشرخ الاجتماعي العميق، السابق على الأزمة الحالية بكثير.
في هذا الوضع المركّب، يبدو أن السيناريو الأكثر معقولية وترجيحاً هو استمرار هذه الأزمة الاجتماعية ـ السياسية، بدرجات قوة متغيرة. مثل هذه السيرورة المتواصلة والتفكيكية هي كابوس من التطرف والتفتيت التدريجي لقوة دولة إسرائيل. فقط من خلال إدراك الجمهور الواسع وقادة الدولة مدى حجم الخطر المتراكم هنا المحدق بمجرد وجود دولة إسرائيل كدولة ديمقراطية، بالإمكان الدفع نحو تحرك مشترك يوقف هذا الجنون. لكن هذه الغاية تفتقر إلى الآليات اللازمة والتي يمكنها تجنيد وتكثيف هذه الجهود المضنية الضرورية. ذلك أن التوصل إلى حل يزيل هذه المخاطر، الوجودية، يتطلب آليات مصالحة وحوار غير متوفرة في إسرائيل اليوم.
هذه الخلاصة السوداوية التي تعجز عن التأشير إلى مخرج يمكن أن يكون متفقاً عليه ومقبولاً من الأزمة الاجتماعية ـ السياسية الراهنة في إسرائيل هي الأكثر مركزية ولفتاً للانتباه من بين الخلاصات التي توصل إليها باحثو "معهد أبحاث الأمن القومي" الإسرائيلي الذين اجتمعوا، في أواخر تموز المنصرم، سوية مع باحثين وخبراء آخرين من خارج المعهد، للبحث في "مميزات الأزمة الاجتماعية ـ السياسية في إسرائيل وإسقاطاتها على الأمن القومي"، بمفهومه الأوسع، وذلك بمرور نصف سنة على ظهور هذه الأزمة "التي رفعت إلى السطح الشروخ الحالية التي تنخر في المجتمع الإسرائيلي، والتي هي الأقسى والأخطر منذ قيام الدولة، بما في ذلك الفترة الأولى من حياتها"، وهي الشروخ التي حالت في حينه دون وضع دستور لدولة إسرائيل، ما يعني أن إمكانية وضع دستور الآن هي أكثر صعوبة بما لا يقاس عما كان آنذاك. وما دامت المصالحة آليات غير متوفرة، فإن "مواجهة عسكرية كبيرة ومتعددة الجبهات مع أعداء إسرائيل" تبدو، في نظر الباحثين، خياراً مطروحاً ووارداً، لا بل مُرجّحاً في نظر البعض، كمخرجٍ من هذه الأزمة، ولو لفترة مؤقتة.
جذور الأزمة
اتفق جميع المشاركين في مجموعة البحث هذه على أن الأزمة الحالية، التي تفجرت بكل قوتها مع إعلان الحكومة الجديدة، يوم 4 كانون الثاني 2023 بعد أيام قليلة من تشكيلها، عن "برنامجها الإصلاحي" لجهاز القضاء في إسرائيل، تتغذى من توليفة مجتمعة من السيرورات العميقة، السياسية والاجتماعية، التي كانت قائمة وفاعلة في إسرائيل من قبل وعلى مدى سنوات عديدة، على خلفية التنوع والانقسام الذي تتميز به تركيبة المجتمع الإسرائيلي، بما فيها من شروخ عميقة ضاربة بين "الأسباط الأربعة" التي تحدث عنها الرئيس السابق لدولة إسرائيل، رؤوفين ريفلين، في العام 2015: اليهود العلمانيون، اليهود المتدينون القوميون، اليهود الحريديم والعرب. هذه التركيبة التي لا تزال القواسم المشتركة المتوفرة فيها عاجزة عن تكليل المحاولة التي انطلقت في خمسينيات القرن الماضي بالنجاح ـ والقصد محاولة تشكيل مجتمع يهودي متميز وموحد عبر "فرن الصهر" الاجتماعي. وقد أدى هذا الفشل المتواصل إلى نشوء مستويات مختلفة من التحالفات والانقسامات التي رسمت، في الظاهر فقط، صورة من التضامن الاجتماعي الذي أتاح لمنظومات الحكم الرسمية العمل بدرجة لا بأس بها من النجاعة.
وعلى غرار فشل "فرن الصهر"، كذلك أيضاً مسألة "الوحدة" بشأن تعريف إسرائيل كدولة "يهودية وديمقراطية"، وهو ما يبدو أنه بعيد جداً عن الواقع الحقيقي القائم بين أوساط واسعة جداً من الجمهور الإسرائيلي، اليهودي، إذ ثمة خلافات عميقة جداً حول هذه المسألة الأيديولوجية المركزية التي كان يُفترض بها أن تعرّف طابع دولة إسرائيل وهويتها: هل يمكن أن تكون "يهودية" و"ديمقراطية" في الوقت نفسه؟ ثم، ما هي "الدولة اليهودية" وما هي "الدولة الديمقراطية"؟ ويضيف: الباحثون، استدراكاً: "وهذا حتى قبل أن نتطرّق إلى وضعية الأقلية الكبيرة من العرب مواطني إسرائيل ومكانتهم في هذا السياق"!
لكن خلال السنوات الأخيرة أضيفت إلى الانقسام الاجتماعي الحادّ والعميق أزمة سياسية حادة انعكست، أيضاً، في سلسلة من الانتخابات البرلمانية المتتابعة بلغت خمس معارك انتخابية في غضون ثلاث سنوات فقط (2019 ـ 2022). وتعكس هذه الأزمة مدى هشاشة المنظومة السياسية الإسرائيلية في واقع افتقار الدولة إلى دستور مؤسِّس، كإطار توافقي ومُلزم للجميع، وهو ما يعمق أزمة الثقة بين الجمهور الواسع والمؤسسات الرسمية، الحزبية والحكومية.
ويخلص الباحثون، في تشخيص جذور الأزمة الحالية، إلى القول إن كلا طرفيّ الصراع الحالي يدركان ويشعران بأن هذه الأزمة هي، في العمق أولاً وقبل أي شيء آخر، أزمة هوية متعددة الأبعاد لكنها، في أساسها، تعبير عن صراع على مبنى القوة والتأثير في المجتمع الإسرائيلي. وهي تجسد صراعاً عنيفاً يدور، أساساً لكن ليس فقط، بين النخب الجديدة (التي تصطف في اليمين) وبين النخب القديمة (التي تصطف في الوسط ـ اليسار)، حيث تستجمع النخب الجديدة المزيد من القوة تدريجياً وتتطلع الآن إلى تحقيق قوتها الانتخابية وترجمتها على أرض الواقع باستبدال النخب القديمة التي تراها أشكنازية، استعلائية وإملائية، بصورة فعلية ونهائية.
وتزداد الأزمة الحالية تعقيداً، برأي الباحثين، بكونها تتغذى أيضاً من الاستقطاب في مسألة الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني، ما بين اليمين الأيديولوجي الذي تسعى مركّباته إلى تحقيق حل الدولة الواحدة، وبين الوسط ـ اليسار الذي لا يزال مستعداً للتسويات على أساس الانفصال.
إسقاطات على الأمن القومي وخطر تفكّك الجيش
يؤكد الباحثون، بطبيعة الحال، أن لهذه الأزمة الحالية إسقاطات على الأمن القومي بمفهومه الأوسع، على المديين القريب والبعيد، ويشددون على أبرزها وهي: 1. المناعة القومية ـ الأزمة تُضعف الدولة ومنظوماتها المختلفة وتمسّ بقدرتها على مواجهة التحديات الراهنة والمستقبلية، كما تُضعف مستوى التضامن الاجتماعي بين المواطنين عموماً ـ وهذه، كلها، من مقومات الأمن القومي؛ 2. الاقتصاد القومي ـ تحول هذه الأزمة دون معالجة الأزمة التي تعصف بالاقتصاد الإسرائيلي وخاصة غلاء المعيشة والعمالة بين القطاعات المستضعفة، مما يعمق هذه الظاهرة ويزيد من استفحالها؛ 3. المستوى الإقليمي ـ تضرب الأزمة المستمرة مكانة إسرائيل الإقليمية وأمنها وثمة شواهد تدل على مسٍّ بالردع الإسرائيلي تجاه أعدائها؛ 4. المستوى الدولي ـ تبدو بوضوح آثار سلبية ترتبت على الأزمة فيما يتعلق بمكانة إسرائيل الدولية، وخاصة في العلاقات مع الولايات المتحدة ومع اليهود الأميركيين. 5. تغلغل الخلافات السياسية العميقة في منظومات ومؤسسات الحكم والتأثير على أدائها، وخصوصاً في الدوائر والأذرع الحكومية المختلفة، في الجيش وفي الأجهزة الأمنية الأخرى.
ثم ينتقل الباحثون إلى عرض سيناريوهات المخارج من هذه الأزمة وما وصلت إليه من طريق مسدود، وكلها مخارج محدودة الضمان والنتائج ولن يدوم أثرها لأكثر من فترة زمنية محدودة جداً.
أما أبرز هذه المخارج فهو كما يرد "مواجهة عسكرية كبيرة ومتعددة الجبهات مع أعداء إسرائيل ستبرّد الأجواء الداخلية وتهدّئها، إذ ستولّد حالة من "وحدة الصفوف" و"الاصطفاف تحت العلَم"، وربما تخفي الأزمة عن جدول الأعمال تماماً.... ولكن هذا السيناريو مثير للشكوك ولا يصلح إلا لإعطاء الجميع فرصة مؤقتة، لكنه غير قادر على عقد الارتباطات والمصالحات الضرورية للمدى البعيد".
وفي سياق البحث والتحليل اللذين يتناولان هذه الأزمة السياسية ـ الاجتماعية التي تعصف بإسرائيل وإسقاطاتها على الأمن القومي، بمفهومه الأوسع، واستمراراً لما خاضته مجموعة الباحثين المذكورة أعلاه من أبحاث ومناقشات وما خلصت إليه من استنتاجات، أصدر "معهد أبحاث الأمن القومي"، في أواخر تموز الماضي، ما أسماه "تحذيراً عاجلاً" بشأن التطورات الأخيرة الحاصلة على صعيد الجيش الإسرائيلي وتحركات مجموعات من جنوده وضباطه في إطار الحملة الاحتجاجية من خلال إعلانهم رفض تأدية الخدمة العسكرية الاحتياطية، وخصوصاً في سلاح الجو، طالما لم يتوقف نهائياً قطار تشريعات "الإصلاح القضائي".
وجاء في "التحذير العاجل"، الذي اختار له المعهد عنواناً مثيراً يقول "جيش الشعب يواجه خطر التفكك"، أن المعهد يعتقد بأن "إسرائيل تخطو نحو واقع يكون فيه الجيش ضعيفاً ونحو خطر يهدد معادلة الردع الإقليمية" في الوقت الذي تتزايد فيه وتتصاعد التهديدات المحدقة بإسرائيل على جبهات مختلفة. وأشار التحذير إلى عوامل الخطر المركزية، كما يراها، فشدد على "الهزّة القوية التي تمرّ على الجيش وتضعضع أسس ومقومات جيش الشعب" و"تآكل الردع في مقابل أعدائنا".
في المدى الفوري، يتوقع حصول تراجع واضح في جهوزية منظومات حيوية مختلفة وفي مقدمتها سلاح الجو، الاستخبارات العسكرية، العمليات الخاصة ووحدات النخبة. وبالرغم من التحذيرات التي صدرت عن رئيس هيئة أركان الجيش وجنرالات الجيش بهذا الخصوص، إلا أن المستوى السياسي لم يبدِ دعماً، أو حتى إصغاءً، كافيين ولائقين. وحتى لو عاد جنود وضباط الاحتياط إلى تأدية الخدمة المنتظمة، "فليس بالإمكان إصلاح الضرر الذي لحق بالجهوزية، وكذلك بالوحدة والشرعية الضرورية". ذلك أن منظومة الاحتياط هي "الحلقة الأضعف في الجيش وخاصرته الرخوة" بكونها مبنية على التطوع أساساً، الأمر الذي يعني أن الضرر الذي لحق وسيلحق بهذه المنظومة، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، يلقي بتداعياته ليس على مستقبلها وقدراتها فحسب، وإنما على الجيش برمّته أيضاً، وخصوصاً زعزعة شرعية الجيش في تجنيد الجنود والضباط للخدمة في الاحتياط الأمر الذي قد يشكل بوابة واسعة لتفكك "جيش الشعب".