بتاريخ 17 أيار 2022، نشر الموقع الرسمي لوزارة العدل الإسرائيلية نصّ مشروع قانون لإنشاء شركة مصرفية جديدة تعمل على إعادة تنظيم العلاقات المالية بين البنوك الإسرائيلية والبنوك الفلسطينية. يحمل البنك الجديد اسم "شركة خدمات المراسلة المساهمة المحدودة" (Correspondence Bank Ltd.)، على أن تتم إتاحة المجال أمام الجمهور الإسرائيلي للاطلاع على القانون وتقديم ملاحظات أو اعتراضات، قبل أن يدخل إلى حيز التنفيذ بموجب قرار يتخذه وزير المالية ومحافظ البنك المركزي الإسرائيلي عندما تعلن الشركة أنها باتت جاهزة للشروع بعملها، وهو أمر يحتاج إلى فترة قصيرة على ما يبدو. تستعرض هذه المقالة عمل هذه الشركة الجديدة، التي ستتحول إلى البوابة الإسرائيلية الوحيدة للتعامل مع البنوك الفلسطينية، بموجب اتفاق باريس الاقتصادي، بحيث تتركز كل المراسلات والتعاملات بين الطرفين من خلالها. وزارة العدل الاسرائيلية، مذكرة قانون خدمات المراسلات للعام 2022 (وزارة العدل الإسرائيلية، 17 أيار 2022). أنظر/ي الرابط التالي: https://bit.ly/3QhGcGz
تم نظم العلاقة المالية بين البنوك الفلسطينية والبنوك الإسرائيلية بموجب بروتوكول باريس الاقتصادي في العام 1994. ولأن السلطة الفلسطينية غير قادرة على صك عملة فلسطينية، فإنها تحتاج إلى التعامل بعملة الشيكل، باعتبارها العملة الرئيسة، الأمر الذي يضطرها إلى التعامل المستمر مع البنك المركزي الإسرائيلي. والعلاقة المالية بين البنوك الفلسطينية والإسرائيلية معقدة للغاية، وتحتاج إلى تفصيل في مقالة منفردة. لكن هنا يكفي أن نقول إن هذه العلاقة تنطوي على ثلاثة نشاطات أساسية (طبعا ليست الوحيدة)، وهي: 1) مقاصة الشيكات، أي إدخال شيكات إسرائيلية في بنوك فلسطينية، وصرف هذه الشيكات من خلال لجان تعرف باسم "غرف المقاصة". لكن هذه الخدمة غير متاحة لكل البنوك الفلسطينية. 2) فائض الشيكل، بحيث أن سلطة النقد الفلسطينية تكدس فائض شيكل بشكل سنوي بمبالغ كبيرة، وحيث أن البنك المركزي الإسرائيلي (باعتباره صاحب العملة) مجبر على سحب هذه الفائض من السوق الفلسطينية منعا للأضرار المالية المترتبة على تكديس "الكاش" وعدم استخدامه داخل منطقة السلطة الفلسطينية. 3) تحويل رواتب العمال الفلسطينيين العاملين في إسرائيل من خلال البنوك الإسرائيلية إلى البنوك الفلسطينية. هذه النقطة الأخيرة، قد تنهي جزئيا قضية فائض الشيكل المتكدس داخل البنوك الفلسطينية من خلال صرفه كأجور للعمال بعد تحويل هذه الأجور من البنوك الإسرائيلية، لكنها تحتاج إلى منظومة بنكية لترتيب هذه الحوالات. في العام 2021، بدأت إسرائيل ولأول مرة بتحويل أجور 7 آلاف عامل فلسطيني إلى بنوك فلسطينية كتجربة (pilot)، على أن يتم توسيع هذه العملية الجديدة لتطال معظم العمال الفلسطينيين.
في العام 2016، أعلن بنك هبوعاليم وبنك ديسكونت الإسرائيليان، وهما البنكان الوحيدان في إسرائيل اللذان يتعاملان مع البنوك الفلسطينية (أي لديهما غرف مقاصة)، عن نيتهما التوقف عن التعامل مع البنوك الفلسطينية خوفا من قانون الإرهاب الأميركي. بالنسبة لهذين البنكين، فإن التعامل مع بنوك فلسطينية هو أمر ينطوي على مخاطر جمة، بحيث أن البنوك الإسرائيلية لا تستطيع أن تجزم بأن الحركات المالية بينها وبين البنوك الفلسطينية قد لا تخدم نشاطات سياسية، أو تصل إلى أيدي المقاومة الفلسطينية، أو حتى تصرف كرواتب للأسرى وعائلاتهم. وعليه، قام الكابينيت الإسرائيلي المصغر في العام 2018، وفي أثناء فترة ولاية رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق بنيامين نتنياهو، باقتراح إنشاء بنك إسرائيلي حكومي جديد، يأخذ على عاتقه التعامل مع البنوك الفلسطينية ولا يكون خاضعا، مثل البنوك التجارية الربحية الإسرائيلية، لقوانين السوق، وإنما يتبع مباشرة إلى الحكومة الإسرائيلية. لا يهدف هذا البنك فقط إلى استبدال البنوك الإسرائيلية المتخوفة من قضية الإرهاب، وإنما يحاول أن ينظم كل العلاقة المالية بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية بحيث تتحول إلى علاقة مضبوطة من قبل وزارتي المالية والدفاع الإسرائيليتين بشكل مباشر.
يقع القانون الجديد الذي تم عرضه مؤخرا في 5 مواد و12 بنداً. تفصل المادة الأولى من القانون كل السلطات والهيئات الإسرائيلية التي تتدخل في عمل الشركة البنكية الجديدة، وهي: البنك المركزي الإسرائيلي، هيئة حظر غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وزارة الدفاع الإسرائيلية والوحدات التابعة لها، ديوان رئيس الحكومة خصوصا قسم أمن الدولة، وشرطة إسرائيل. والهدف من إشراك كل هذه الهيئات هو، على ما يبدو، ليس فقط متابعة الحركات المالية في البنوك الفلسطينية والتأكد من وجهتها ومصدرها (منعا لوصولها إلى أطراف لا ترغب بها إسرائيل)، وإنما أيضا تكثيف إجراءات الضبط والرقابة على كل الحركات المالية داخل أراضي السلطة الفلسطينية.
أما المادة الثانية، فتنظم علاقة الشركة البنكية الجديدة مع البنك المركزي الإسرائيلي، حيث أن الشركة ستفتح حسابا خاصا داخل بنك إسرائيل المركزي، وبالتالي تتحول الشركة إلى بنك رسمي لا يطرح خدماته للجمهور عامة، وإنما يخدم فقط البنوك الفلسطينية من خلال رقابة كل من وزير الدفاع (المسؤول أيضا عن الإدارة المدنية)، ووزير المالية (وكيل وزارة المالية هو المسؤول المباشر عن العلاقات الاقتصادية الفلسطينية- الإسرائيلية).
في المادة الثالثة من القانون، والتي تحمل اسم "مادة السريات"، ينص القانون على أن كل البيانات التي تجمعها الشركة عن البنوك الفلسطينية، وحركاتها المالية، ستظل سرية. وقد تعني هذه المادة أن قانون الشفافية وحق الجهور الإسرائيلي بالوصول إلى المعلومات قد لا يسري على عمل هذه الشركة التي ستكون على دراية بكل الحركات المالية الفلسطينية، بما فيها تحويلات إلى الخارج، والتي عادة ما يتم تفسيرها على أنها "غسيل أموال" أو حركات مشكوك فيها.
أما المواد الأخيرة من القانون فتعنى بإجراءات وتقنيات التعامل بين الشركة والبنوك الفلسطينية.سلطة منع تبيض الأموال ومكافحة الإرهاب، نشرت وزارة المالية مذكرة قانون خدمات المراسلات، -2022 للتعليق العام (وزارة العدل الإسرائيلية، 22 أيار 2022). أنظر/ي الرابط التالي: https://www.gov.il/he/departments/news/treasury_correspondence
وقد بررت إسرائيل حاجتها إلى هذا القانون بشكل تبسيطي لا يعكس تماما التبعات الكبرى لمثل هذه الشركة. حسب إسرائيل، فإنها تنوي "التسهيل على العمال الفلسطينيين" العاملين داخل إسرائيل الذين لا يتمكنون دائما من تحويل أجورهم الشهرية إلى عائلاتهم لأنهم يبيتون داخل إسرائيل لفترات طويلة تصل إلى أشهر. إن تحويل الأموال من العمال إلى عائلات العمال من خلال حوالات مالية من البنوك الإسرائيلية إلى البنوك الفلسطينية من شأنه، حسب إسرائيل، أن يسهل حياة العمال وعائلاتهم، وقد يساهم في إنهاء قضية تداول "الكاش" بكميات كبيرة بين المقاولين الإسرائيليين وهو أمر لا تحبذه إسرائيل. من هنا، بعد رفض بنك هبوعاليم وبنك ديسكونت القيام بهذه الحوالات، فإن الشركة الجديدة، باعتبارها شركة حكومية، ستقوم بهذه الحوالات. لكن من قراءة قانون الشركة الجديدة، فإن للأمر تبعات أكبر بكثير من "النوايا الإنسانية" التي تدعيها إسرائيل في ما يخص العمال. فالقانون يتيح لإسرائيل إمكان تكثيف رقابتها على البنوك الفلسطينية، والتحكم بشكل مباشر في العديد من العمليات المالية، رفض بعضها، المصادقة على بعضها الآخر، والتحكم في شريان حياة الاقتصاد الفلسطيني.
ويجدر هنا ذكر أن تحويل رواتب العمال الفلسطينيين العاملين في إسرائيل إلى البنوك الفلسطينية قد يعني أيضا إدخال أكثر من 100-120 ألف عامل فلسطيني إلى المنظومة البنكية الفلسطينية، وبالتالي سيستطيعون الحصول على ائتمانات وقروض، والتمتع بكل الخدمات البنكية الفلسطينية التي تمنح فقط لكل من يحصل على راتب عن طريق البنك. لكن في المقابل، وعلى الرغم من الفائدة الربحية التي ستحظى بها البنوك الفلسطينية من ذلك، فإن البنوك الفلسطينية ستكون مكشوفة بشكل أكبر للرقابة الأمنية والمالية الإسرائيلية، وهو أمر قد يعتبر تعديلا حقيقيا أحادي الجانب على بروتوكول باريس التجاري.