أثار وصول أول سفينة يونانية (منصة عائمة) لاستخراج الغاز وتخزينه إلى حقل "كاريش" على بعد نحو 80 كيلومترا شمال غربي مدينة حيفا، للتنقيب عن الغاز من الحقل الذي تسيطر عليه إسرائيل حاليا، موجة تهديدات وتهديدات مضادّة بين لبنان وحزب الله من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى، ما أعاد الجدل حول ملكية هذا الحقل البحري الواعد، وأين تبدأ الحدود المائية الإقليمية بين إسرائيل ولبنان وأين تنتهي، ومن هي الجهة التي يحق لها أن تحفر وأن تستخرج الغاز الذي تم اكتشافه في هذا الحقل؟ أخذا بالاعتبار الأجواء العدائية التي تميز العلاقات بين الطرفين واحتمالات التصعيد بين إسرائيل والمقاومة اللبنانية التي يمثلها حزب الله والتهديدات الإسرائيلية الدائمة بأنها سوف تستهدف البنى التحتية للبنان في أي مواجهة مقبلة.
الاعتماد المتزايد لإسرائيل على الطاقة وتحولها إلى دولة مصدرة للغاز، إلى جانب أزمة الطاقة العالمية التي اتسعت في اعقاب الحرب الروسية- الأوكرانية، والعقوبات الغربية المفروضة على روسيا، وحالة العداء والحرب غير المعلنة بين حزب الله وإسرائيل، بالتزامن مع التصعيد الإيراني- الإسرائيلي حول الملف النووي، كلها عوامل كفيلة بأن تجعل من هذا الحقل عنصر تفجير وصاعق أزمة قابلة لأن تتحول إلى مواجهة عسكرية.
تصريحات نائب الأمين العام لحزب الله، الشيخ نعيم قاسم، التي أدلى بها لوكالة رويترز في السادس من حزيران الحالي، لم تترك مجالا للشك بأن الخيار العسكري وارد ويلوح في الأفق في حال استمرت إسرائيل في عمليات الحفر "وفشلت المفاوضات في ترسيم الحدود المائية بين البلدين".
تعمد قاسم أن يبقي الباب مواربا أمام الحلول الدبلوماسية، واستنفاد خيار التفاوض الذي ترعاه الأمم المتحدة وتتوسط فيه الولايات المتحدة الأميركية، إلا أنه شدد على أن حزبه "ينتظر تعليمات من قيادة الدولة اللبنانية"، كون القرار قرارا سياديا لبنانيا من اختصاص الدولة، مشددا على أن ما تقوم به إسرائيل الآن يعد "اختراقا للسيادة اللبنانية وموارد لبنان الطبيعية"، وأردف أن حزبه "سيستخدم القوة" من أجل الضغط وخلق حالة رادعة في مواجهة " السطو الإسرائيلي".
تهديد للشركة اليونانية
بعد تصريح قاسم، قال الأمين العام لحزب الله اللبناني حسن نصر الله يوم التاسع من حزيران إن الحزب قادر على "منع إسرائيل من استخراج النفط والغاز من منطقة بحرية متنازع عليها مع لبنان"، داعيا إدارة "السفينة اليونانية" إلى الانسحاب فورا.
لم يكتف نصر الله بالتأكيد على تهديدات نائبه بل ذهب أبعد من ذلك، ووجّه حديثه إلى الشركة اليونانية قائلا إن "هذا الأمر له تبعات كبيرة، وعلى الشركة أن تسحب السفينة سريعا وفورا، وعليها أن تتحمل المسؤولية الكاملة من الآن عما قد يلحق بهذه السفينة ماديا وبشريا" مطالبا إياها بسحبها "على الفور" وفق تعبيره.
تستند تصريحات قادة حزب الله، التي تشدد على دور الدولة اللبنانية، إلى جملة تصريحات أطلقها مسؤولون لبنانيون، كان آخرها ما قاله وزير الخارجية اللبناني في حكومة تصريف الأعمال، عبدالله بو حبيب، بعد لقائه رئيس البرلمان نبيه بري أن "مجيء السفينة اليونانية إلى حقل كاريش من دون أدنى شك يمثل تحدياً قوياً لنا، خاصة أنه لا ترسيم للحدود بعد، وليس معلوماً إذا ما كان الحفر هو في الحدود الفلسطينية المحتلة أو في الحدود اللبنانية المختلف عليها".
الجيش الإسرائيلي بدوره رفع درجة التأهب في محيط الحقل، وأعد خططا لمواجهة "كافة السيناريوهات المحتملة" في أعقاب تصريحات نعيم قاسم، وفق ما نشره المحلل العسكري في موقع "واللا" أمير بوحبوط في العاشر من حزيران الحالي.
أشار بوحبوط إلى تحذيرات قادة أمنيين كبار من أن الجيش الذي يتحضّر للتعامل مع سيناريوهات مختلفة قد يكون أكثرها تطرفا اللجوء لاستخدام المُسيّرات والصواريخ، ربما يحتاج الى قوات أكبر وأدوات أكثر تطورا من أجل حماية الحقل "المتنازع عليه" والذي يتسبب بعده 80 كيلومترا عن الحدود الساحلية الإسرائيلية في جعل عملية الدفاع عن حمايته معقدة جدا، وتحتاج إلى جانب الاستعدادات العسكرية "جهدا دبلوماسيا".
في سياق هذا الجهد الدبلوماسي أطلق كل من وزير الدفاع بيني غانتس، ووزير الخارجية يائير لبيد، ووزيرة الطاقة كارين الهرار، بيانا مشتركا، أعلنوا فيه أن "الحفر لن يكون في المناطق المتنازع عليها في حقل كاريش" والذي بات يعد "ذخرا استراتيجيا إسرائيليا" لن تتوانى اسرائيل في الدفاع عنه، وفق البيان.
عقدة الحدود قبل اكتشاف الغاز وبعده
يمكن التعرف بشكل تفصيلي على وجهة النظر الإسرائيلية من أزمة الحدود المائية مع لبنان من خلال الدراسة المُفصّلة والمُطوّلة التي أعدها الباحث بيني شفانير لجامعة حيفا في العام 2019. فالدراسة تعزو العقدة الأساسية في عدم التوصل إلى اتفاق حول الحقوق الاقتصادية الحصرية لكل بلد في حقول الغاز التي تقع ضمن المنطقة المتنازع عليها، إلى عدم وجود اتفاق سلام بين البلدين وأنهما لم يتفقا في أي مرحلة من تاريخهما على حدود مشتركة بينهما، وأن الحدود المعتمدة الآن تعود إلى ما تم ترسيمه في اتفاق وقف إطلاق النار الذي أبرم في العام 1949 والذي استند إلى الحدود الانتدابية التي أقرتها بريطانيا وفرنسا في العام 1923.
المرحلة الأكثر تقدما في محاولة رسم حدود برية بين البلدين كانت عشية الانسحاب الإسرائيلي من لبنان في العام 2000 في محاولة ترسيم ما عرف بالخط الأزرق الذي استند إلى الحدود الانتدابية.
واجه الخط الازرق الذي أشرفت على ترسيمه الأمم المتحدة صعوبة عدم وجود تعريف واحد متفق عليه للحدود سواء بين بريطانيا وفرنسا، أو إسرائيل ولبنان بسبب قدم الخط، ولكونه رسم على خارطة قديمة وصغيرة الحجم تعاملت بعمومية ودون تدقيق مع المناطق الجغرافية المتداخلة والقرى والأودية والطرق، وهو ما ترك 13 نقطة خلافية لا زالت معلقة حتى الآن.
تواجه الحدود البحرية المعضلات المعقدة ذاتها في التعريف والاتفاق على نقطة القياس وأدواته، ليأتي اكتشاف حقول الغاز فيزيد من تعقيد القضية خاصة على ضوء حاجة البلدين إلى هذا المورد الثمين.
حقول الغاز المكتشفة في الحوض الشرقي من البحر الأبيض المتوسط، في المنطقة التي تتداخل فيها السيادة الاقتصادية بين لبنان وإسرائيل وقبرص، حَوّل القضية إلى عقدة دون مرجعية أو قنوات اتصال تُسهّل عملية التوصل إلى تسوية بشأنها.
كل طرف أودع لدى الأمم المتحدة وثائق ورسائل تفصيلية تثبت ملكيته الحصرية اقتصاديا لهذه الحقول.
من جانبها اعتمدت إسرائيل في تحديد حقوقها الاقتصادية الحصرية في هذه الحقول على اتفاقيات ثنائية وقعت بين مصر وقبرص في العام 2003، وبين لبنان وقبرص في العام 2007 والتي بناء عليها وقعت اتفاقا ثنائيا بينها وبين قبرص في العام 2010.
استبقت الدولة اللبنانية الاتفاق القبرصي- الإسرائيلي برسالة إلى الأمم المتحدة عبّرت فيها عن تمسكها الحازم بحقها في استثمار حقولها التي تسيطر عليها إسرائيل، وعقد اتفاقيات مع شركات دولية للتنقيب عن حصتها في غاز البحر الأبيض المتوسط.
المفاوضات: مكاسب استراتيجية
بمبادرة أميركية أعلن عنها وزير الخارجية الأميركي السابق، مايك بومبيو، وفي مقر الأمم المتحدة في الناقورة وتحت إشرافها، انطلقت في العام 2020 المفاوضات الإسرائيلية- اللبنانية من أجل ترسيم الحدود البحرية بين البلدين.
هدف هذه المفاوضات هو التوصل إلى تسوية حول المنطقة المتنازع عليها (بلوك 9) التي تقدر مساحتها بنحو 860 كيلومترا مربعا وفق مركز أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي في دراسة أعدها في العام 2019، بما يُمَكّن البلدين من الاستثمار في هذه الحقول ويخفف من حدة التوترات الأمنية والتهديد باللجوء إلى القوة.
نشر المركز المقدسي للشؤون العامة والسياسية بحثا حول السمات الخاصة لهذه المفاوضات، وكيف يمكن لإسرائيل أن تستفيد منها بشكل مباشر وغير مباشر في مجالات الأمن والطاقة والبيئة والعلاقات مع دول المنطقة والعالم، كونها تأتي في ظل واقع عربي تشهد فيه المنطقة موجة من الإقبال على التطبيع مع إسرائيل والانفتاح عليها، وهو ما قد يعزز هذه الحالة ويزيد من آفاق التعاون بين الدول العربية وإسرائيل في مجالات مختلفة.
يشدد البحث على أن خصوصية المفاوضات اللبنانية- الإسرائيلية أنها بخلاف الحالات التقليدية في العالم التي تكون الأطراف فيها في حالة سلام وتطبيع علاقات، فإنها تكون أسوة بكل القضايا في الشرق الأوسط، عندما يتعلق الأمر بإسرائيل، مشبعة بالعداء والشكوك المتبادلة وعدم الثقة وتاريخ من الصراع والحروب، مما يقود إلى التصلّب ويحول أصغر القضايا الى أزمات استثنائية ومعقدة.
إلى جانب الأجواء التي تزامن فيها إعلان بدء المفاوضات بين الجانبين اللبناني والإسرائيلي مع توقيع "اتفاقيات أبراهام" التطبيعية، وهو ما يمكن أن يحوّل المفاوضات إلى فرصة للتقارب بين الطرفين، وفرصة لحل الصراع الطويل من خلال المفاوضات، والتعاون في مجالات البيئة والموارد الطبيعية، يبرز أيضا العامل الاقتصادي وحاجة البلدين إلى "مليارات الدولارات" التي ستوفرها حقول الغاز الكامنة في أعماق البحر الأبيض المتوسط.
لا يمكن تحقيق التعاون الإقليمي حول الغاز والموارد الطبيعية في ظل أجواء العداء والتصعيد. كما تعوّل إسرائيل على أن الاستقرار الأمني وحالة الهدوء كفيلة بأن تنهي حالة التردد لدى الشركات الدولية التي تستثمر في مجالات الغاز وتسويقه، وهو سيتحول إلى مصلحة لدى جميع الأطراف. كما أن التعاون الإقليمي بين لبنان وإسرائيل وقبرص ومصر وتركيا سيسهل إنشاء مشاريع عملاقة مثل نقل الغاز إلى أوروبا وحماية الموارد الموجودة في الطبيعة ومحاربة التلوث وما إلى ذلك من قضايا مشابهة.
هذا بالنسبة إلى مكاسب إسرائيل، أما لبنان، فيشير بحث المركز المقدسي إلى أن وثيقة بحثية أعدت في العام 2012 من "صندوق أورينت مونت فلورين" الذي يسعى لخلق تقارب أوروبي- شرق أوسطي، قدرت الثروات الكامنة وفق مسح جيولوجي أجرته الولايات المتحدة في العام 2010 وغير المستثمرة في حوض المتوسط في مجالات الغاز والنفط ب 1.7 مليار برميل نفط و3450 كيلو متر مكعب من الغاز، وهو ما يمكن أن يشكل أملا عظيما للبنان في سداد ديونه المتراكمة وحل أزمة الطاقة المزمنة التي يعيشها هذا البلد وتحقيق الاكتفاء الذاتي من دون أن يبقى مرتبطا بالمحاور الإقليمية والدولية.
يختم المركز المقدسي دراسته بالإشارة إلى أن المصالح الأمنية والاقتصادية والسياسية المعلقة على المفاوضات بين البلدين مرهونة بوجود حسن نوايا ورغبة متبادلة في تقديم تنازلات وتعاون ثنائي متواصل.
رياح الحرب والأمل
إلى جانب التهديد بالتصعيد العسكري وقرع طبول الحرب والاستعدادات الإسرائيلية لتعزيز الحماية حول حقول النفط التي تسيطر عليها في البحر المتوسط، نشر المستشار القانوني السابق ونائب مدير وزارة الخارجية الإسرائيلية، ألين بيكر، قبل عامين، مقالا مطولا على موقع "ميدا" تحت عنوان "المفاوضات حول الحدود البحرية مع لبنان قد تشق طريقا جديدة في العلاقات" بين البلدين، ختمه بعد أن استعرض الأزمة وتعقيداتها وتاريخها بعنوان فرعي (رياح الأمل) اعتبر فيه مجرد حدوث المفاوضات أمرا إيجابيا ويخدم مصالح إسرائيل، وهو إذ يعترف أن هذا "ليس اتفاق سلام مع دولة إقليمية فيها حزب يرفض أي اتصال مع (العدو الصهيوني) مثل حزب الله"، إلا أنها ستكون المرة الأولى التي يجلس فيها الطرفان معا بدون أن يستخدم فيها مصطلح العدو عند الإشارة إلى إسرائيل، على الرغم من أن الاتفاق سيكون محدودا في زمانه ومجاله، إلا أنه سيخلق أمرا واقعا على شكل اعتراف بوجود الدولة الجارة (إسرائيل).
يكمل بيكر بأن "المحادثات في مقر الأمم المتحدة في الناقورة تجلب معها رياح الأمل وتبشر بمناخ جديد هادئ خاصة أنها تأتي بعد التوقيع على اتفاقيات التطبيع مع دول خليجية وعربية".
تأمل إسرائيل في مسعاها للتعجيل في حسم أمر حقل الغاز إلى جانب كل الفوائد الاقتصادية والسياسية، أن تنجح تجربة المفاوضات مع لبنان في ترسيم الحدود البحرية بينهما، وأن تشكل نموذجا للتعاون مع دولة لا تقيم معها اتفاقية سلام، مستفيدة من الأزمة الاقتصادية والسياسية التي يمر بها لبنان.
كما أنها وإذ ترسل سفنا عائمة، وتفرض أمرا واقعا بشكل أحادي، إنما تحاول أن تفرض هيمنتها العسكرية، وأن تتحدى حزب الله في لحظة سياسية ودولية حرجة، وفي قضية حساسة قد لا تشكل مُسَوِّغا كافيا لفتح حرب مدمرة تزيد من تعقيد الموقف اللبناني داخليا.
لم تكن إسرائيل في أي يوم من تاريخها لتتصرف بحسن نوايا، ولا أظهرت احتراما للقانون الدولي والإنساني وحقوق الآخرين التي اعتدت عليها بشكل ممنهج ودون تردد لتعزيز مصالحها ونفوذها، وهو ما يدفع إلى الاعتقاد بأن مخاطر التصعيد قد تتغلب على فرص التعاون وإيجاد حلول وسط في هذه القضية الحساسة التي تزداد أهميتها مع الأزمة العالمية في مجال الطاقة.