يؤكد تقرير لبنك إسرائيل المركزي، وتقديرات عدد من الخبراء، أن الاقتصاد الإسرائيلي لم يعد يتأثر بقدر كبير من أجواء الحرب، وهذا ظهر منذ الحربين على لبنان وقطاع غزة في العام 2006، إذ أن الضرر الاقتصادي كان آنيا، وسرعان ما استرد الاقتصاد خسائره، وفي غضون أشهر.
وهذا الأمر يعود إلى التطور الكبير في الاقتصاد الإسرائيلي في العقدين الأخيرين، وتغيير موازين وحسابات الناتج العام، ومؤثرات النمو الاقتصادي. فحتى العام 1999، لم تكن مساهمة الصادرات كبيرة في النمو، ولكن منذ ذلك الحين، تضاعفت الصادرات بما بين ثلاثة إلى أربعة أضعاف، وبالتالي زاد وزنها في حسابات النمو، على حساب قطاعات تقليدية أخرى، ويبقى الأساس هو حجم الاستهلاك الفردي والعام، الذي يحسب له 60% من إجمالي الناتج العام.
ويبقى القطاع الأكثر تأثرا بأجواء الحروب هو قطاع السياحة والتي تسجل في كل واحدة من السنوات الأخيرة ذروة لها، ومن المتوقع، على سبيل المثال، أن تجتاز هذا العام حاجز 5ر4 مليون سائح، ولكن أيضا في هذا القطاع فإن التأثر هو لفترة قصيرة، ثم يعود إلى مساره، ما قبل الصدام العسكري.
وهذه القضية ظهرت من جديد في أعقاب العدوان الأخير على قطاع غزة، الذي بدأ فجر يوم 12 الجاري، ووصلت القذائف من قطاع غزة إلى جنوب منطقة تل أبيب الكبرى، ما أدى إلى شل الحياة العامة في قلب الاقتصاد الإسرائيلي ليومين. ثم تقلص الشلل ليسري على الجنوب، قبل إعلان وقف إطلاق النار، بعد 3 أيام من العدوان.
وقالت التقارير الاقتصادية إن تأثير هذا العدوان انعكس بشكل مباشر على نفقات جيش الاحتلال، ووفقا للتقديرات، فإن كل يوم عدوان كالذي كان على قطاع غزة، يكلف الجيش ما بين 20 مليون إلى 28 مليون دولار. وجاء هذا في الوقت الذي يطالب فيه الجيش بزيادة ميزانيته السنوية، مدعوما من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، الذي يطالب بزيادة ثابتة للجيش، بمقدار 1ر1 مليار دولار سنويا، حتى العام 2030.
ويقول المحلل أدريان بايلوت، في مقال له في صحيفة "كالكاليست" الاقتصادية، إنه "ما زال من السابق لأوانه تقييم الأضرار الناجمة عن قصف الصواريخ التي سقطت على جنوب إسرائيل ووسطها على الاقتصاد الإسرائيلي، لكن البحث والخبرة من الجولات الأمنية السابقة أمر مشجع.
فهناك اتفاق بالرأي واسع النطاق بين كبار الاقتصاديين والمسؤولين في الحكومة، على أنه بما أن الحدث محدود في الزمان والمكان، فإن الضرر سيكون ضئيلا وسيتمكن الاقتصاد الإسرائيلي من التعافي من الحروب والعمليات ومن التعويض في الأشهر المقبلة".
ويستعرض بايلوت دراسة أجراها بنك إسرائيل نُشرت في آذار 2015 لدراسة تأثير الحوادث الأمنية في الاقتصاد، وجاء فيها أن الحرب على لبنان في العام 2006، أسفرت عن فقدان الناتج العام ما بين 35ر0% إلى 5ر0%. ووفقا للأسعار الحالية، يتراوح هذا بين 8ر4 مليار شيكل و85ر6 مليار شيكل.
ويقول بايلوت "ولكن من هنا تأتي الأخبار السارة: أثبتت الدراسات أنه من أحداث القتال تلك، كان الاقتصاد يتعافى قريبا في الأشهر القليلة اللاحقة. فعلى سبيل المثال: إذا ألغت العائلات التسوق وتناول الطعام في المطاعم والمقاهي، فقد أظهرت التجربة أنها "ستعوض" معظم التسوق والوجبات في الأشهر التالية". وهذا ما برز في العام 2014، حينما تساقطت قذائف من قطاع غزة على منطقة تل أبيب، فالأجواء استمرت 50 يوما، وحسب التقديرات، فقد خسر الاقتصاد في حينه 3ر0% من الناتج العام، ما يعادل 1ر4 مليار شيكل، وفق تقديرات بنك إسرائيل. ويضيف "وهذا يعني أن تأثير الحوادث الأمنية على الاقتصاد قد انخفض مع مرور الوقت. وعند النظر في العواقب الطويلة الأجل لتلك الحوادث الأمنية، فإن النتائج متشابهة: كان حجم الاستثمارات الطويلة الأجل المباشرة في الاقتصاد الإسرائيلي أقل تأثرا بمرور الوقت، حتى كنتيجة للحوادث الأمنية".
ويقول بايلوت كذلك "وفقا لدراسة بنك اسرائيل، يبدو أنه على عكس الاعتقاد السائد بأن الضرر الذي يلحق بالاقتصاد يتم من خلال "الطلب" وليس من خلال "العرض"، لم ير اقتصاديو بنك إسرائيل تأثيرا كبيرا على الإنتاج الصناعي، ووجدوا أن الانخفاض يرجع إلى انخفاض الاستهلاك الخاص والضعف في السياحة، المسجلة في ميزان المدفوعات كتصدير للخدمات المتعلقة بالطلب".
ويتابع بايلوت: تعتبر المصادمات العسكرية ضارة بالاستهلاك الخاص، خاصة في استهلاك الخدمات، وهو قسم مهم يمثل حوالي 60% من الناتج المحلي الإجمالي وقاطرة رئيسية للنمو الاقتصادي في السنوات الأخيرة. وهذا ما ظهر خلال العمليتين على قطاع غزة، في العامين 2009 و2014، وخلال حرب لبنان الثانية. ووفقا لبنك إسرائيل، فإن هذه الظاهرة ناتجة عن انخفاض في المكونين الرئيسيين لاستهلاك الخدمات: خدمات النقل والمطاعم والفنادق. ومثل غيرها من المجالات، الاستهلاك الحالي أيضا تعافى بسرعة.
ويشير بايلوت إلى أن أحد استنتاجات تلك الدراسة أن الإنتاج الصناعي الإجمالي ليس حساسا بشكل خاص للعمليات العسكرية، ولكن عند النظر في مؤشر الإنتاج الصناعي وفقا لكثافة التكنولوجيا، تجد المجموعات اختلافات في الاستجابة. ففي صناعات التكنولوجيا العالية، "الهايتيك"، لم يكن هناك انخفاض في انتاجها خلال الاشتباكات العسكرية. وهذه أخبار مهمة للغاية، حيث تمثل صادرات التكنولوجيا الفائقة حوالي 37% من الصادرات الصناعية، حيث يتم تسجيل إنتاجية عالية أيضا، وبالتالي ارتفاع الأجور والمزايا التنافسية للاقتصاد الإسرائيلي.
وبالنسبة للصناعات الأخرى، تبرز صورة مختلفة: في الصناعات المختلطة، كان هناك انخفاض حاد خلال حرب لبنان الثانية، والذي كان يرجع بشكل أساس إلى أضرار كبيرة لأنشطة صناعة النفط والكيماويات المركزة في خليج حيفا. هذه الإصابة غير ذات صلة في حالة منطقتي الوسط والجنوب. وفيما يتعلق بالصناعات التقليدية، حافظت على الاستقرار في حرب لبنان 2006، وتأثرت بشكل معتدل خلال حرب غزة في 2014. ومع ذلك، في حالة الجولة الحالية، سيكون من المهم مراعاة التفاصيل المهمة: على عكس حرب لبنان 2006، فإن الشلل لفترة أطول في تل أبيب والمناطق الجنوبية له عواقب أشد، مقارنة بشلل حيفا والمنطقة الشمالية أو الجنوبية وحدها. ووفقا لبيانات اتحاد الصناعيين، فإن حوالي 49% من إيرادات الصناعات الإسرائيلية في المناطق الوسطى وتل أبيب والمناطق الجنوبية.
والنقطة الأكثر حساسية للاقتصاد خلال الصدامات العسكرية، حسب بايلوت، هي صناعة السياحة، التي بلغ حجمها في عام 2018 حوالي 2ر7 مليار دولار، وهو ما يمثل حوالي 14% من صادرات الخدمات وحوالي 7% من الصادرات الإسرائيلية. "والخبر السار هو أن السياحة الإسرائيلية الداخلية وصلت إلى أعلى مستوياتها على الإطلاق. فوفقا للبيانات الصادرة عن اتحاد الفنادق، زاد عدد الإقامات الليلية بـ48% تراكمية في أربع سنوات. وفقا لأرقام وزارة السياحة، فإن إجمالي السياحة بما في ذلك الداخلية، تولد حوالي 30 مليار شيكل في الناتج المحلي الإجمالي". وفي هذا السياق، من المهم الإشارة إلى أنه منذ حرب لبنان 2006 وحتى حرب غزة 2014، نما تصدير الخدمات بشكل حاد من الصادرات الإسرائيلية.
ويقول خبير اقتصادي في الشركة الاقتصادية الاستثمارية IBIلصحيفة "ذي ماركر"، إن العمليات والصدامات العسكرية عادة يكون لها تأثير ضئيل وقصير الأجل على النشاط الاقتصادي، باستثناء السياحة. كما أن الاستهلاك يتم تعويضه في الفترات اللاحقة كما دلت التجربة. وأضاف: هناك عامل آخر يكتسب زخما في هذا الوقت، هو الوضع الكلي العالمي، طالما كان ذلك معقولا، فسيسهل التعامل بشكل أسهل مع تدهور الوضع الأمني. ومن ناحية أخرى، إذا تدهور الوضع العالمي، لا سيما في ضوء الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، وفي نفس الوقت تدهور الوضع الأمني في إسرائيل، فسيكون هذا بمثابة تحد كبير للاقتصاد الإسرائيلي. إذا نظرنا إلى الأسعار في السوق المحلية، بما في ذلك سوق صرف العملات، فإن احتمال ضرر كبير من العملية الأخيرة هو أقرب إلى الصفر.
ويقول الخبير الاقتصادي أليكس زابزينسكي لصحيفة "ذي ماركر" إن تجربة العقد الماضي توضح أن المستثمرين يجب ألا يتفاعلوا مع الحوادث الأمنية، ولا سيما الذعر. فزيادة التوترات الأمنية خلال فترة زمنية محدودة لا تؤثر على النشاط الاقتصادي بمرور الوقت. وسيتمكن الاقتصاد من التعافي بسرعة من الضرر، حتى في الحالات التي استمرت فيها الأحداث الأمنية عدة أسابيع. فقط في صناعة السياحة كان الضرر ملموسا لفترة أطول.