يدور في الأشهر الأخيرة صراع "على نار هادئة"، بين المؤسسات الدينية ومعها الأحزاب المتدينة من جهة، وبين القوى والحركات العلمانية من جهة أخرى، حول مسألة "الحلال" للمواد الغذائية، وكافة المرافق التي تبيع وتقدم خدمات لها علاقة بـ "الحلال"، مثل المطاعم والفنادق.
ويؤكد تقرير جديد أن كلفة "الحلال" السنوية على المواد الغذائية وحدها تصل إلى مئات ملايين الدولارات، وهذا يرفع الأسعار بنسب كبيرة، مثلما أظهرت هذا سلسلة من الأبحاث. وآخر هذه الأبحاث بيّن أن مداخيل الحاخامية العليا وحدها من إصدار شهادات "الحلال" تصل إلى 710 ملايين دولار سنويا، ولكن هذا ليس وحده الصرف على هذا المجال.
وفي مركز الجدل الدائر، مسألة احتكار إصدار شهادات "الحلال" بيد الحاخامية العليا أساسا، ولكن أيضا هناك مؤسسة دينية خاصة بالمتدينين المتزمتين "الحريديم" تصدر هي أيضا شهادات بمواصفات أشد. ويستهلك جمهور "الحريديم" تقريبا فقط المواد الغذائية المصادق عليها من مؤسستهم. وتسعى جهات دينية يهودية عدة في إسرائيل والخارج للحصول على الحق في إصدار شهادات "الحلال".
وفي الآونة الأخيرة انتشرت ظاهرة إعلان محلات غذائية من مطاعم وغيرها أنها تعمل بـ "الحلال" وفق الشريعة اليهودية بناء على فحص ذاتي، بمعنى أن المحل لا توجد لديه شهادة "حلال" من المؤسسة المحتكرة، فبدأت تصدر أوامر وزارية تلزم هذه المحال بعدم استخدام كلمة "كاشير" (حلال)، طالما لم تحصل على شهادة من الحاخامية العليا، وانتقل الموضوع إلى مسار التشريعات، لسن قانون تحت عنوان "منع الخداع في الحلال".
ويقول بحث أخير إن مداخيل الحاخامية العليا وحدها من إصدار شهادات "الحلال" بالمعدل السنوي للسنوات الأخيرة هي 8ر2 مليار شيكل، وهو ما يعادل 710 ملايين دولار، بمعنى أن هذا لا يشمل مداخيل مؤسسة "الحريديم"، كما سنرى أن هذا ليس الصرف الإجمالي على ضمان "الحلال اليهودي". ويظهر من البحث أن 2ر1 مليار شيكل من أصل هذا المبلغ (303 ملايين دولار) هي كلفة مسالخ الطيور، و439 مليون شيكل (110 ملايين دولار) من مسالخ المواشي، و322 مليون شيكل (81 مليون دولار) من استيراد الأبقار، و209 ملايين شيكل (53 مليون دولار) من قطاع الفنادق، و114 مليون شيكل من المطاعم، وقرابة 90 مليون شيكل من مرافق متعددة.
وكانت سلسلة من الأبحاث على مر السنين قد أكدت أن شروط إصدار شهادات "الحلال"، وما يتبعها من صرف المرافق الاقتصادية على مختلف مستوياتها بعد إصدار هذه الشهادات، ترفع أسعار المواد الغذائية بما بين 22% إلى 30%، وأعلاها اللحوم، فحتى اللحوم غير الخاضعة للحلال اليهودي يتأثر سعرها من سعر اللحوم العام.
ولا تقتصر تكاليف "الحلال" بطبيعة الحال على الأغذية المستوردة، فإن كانت الكلفة ترفع أسعار اللحوم المجمّدة المستوردة بنسبة تصل إلى 30%، فإنها ترفع أسعار اللحوم الطازجة في إسرائيل بما بين 15% إلى 20%.
ويقول مستوردون للحوم إن استيراد اللحوم من أميركا اللاتينية يستوجب إرسال ما بين 10 إلى 14 رجل دين يهوديا إلى كل مسلخ سيتم الاستيراد منه، وكلفة كل رجل دين كهذا تتراوح ما بين 6 آلاف إلى 7 آلاف دولار شهريا إضافة إلى تكاليف أخرى، ما يعني كلفة شهرية تصل إلى 100 ألف دولار من أجل استيراد 500 طن من اللحوم المجمّدة.
وتقول الأبحاث إن متطلبات "الحلال" في إسرائيل عديدة جدا، وترفض إسرائيل الاعتراف بأي شهادات حلال يهودية تأتي من الخارج، رغم أن دولا فيها نسبة كبيرة من اليهود المتزمتين "الحريديم"، وحتى من الفرق الأشد تزمتا، مثل الولايات المتحدة وفرنسا، لديها مؤسسات محلية لمنح شهادات "حلال"، ويأكل المتزمتون من ذلك الطعام، إلا أن إسرائيل ترفض تلك الشهادات، وتريدها حكرا على مؤسسة الحاخامية الكبرى لديها.
بالإضافة إلى ذلك فإن احتكار إصدار الشهادات له أيضا دوافع اقتصادية وفئوية، فمثلا الجهات الداعية لكسر الاحتكار تتهم الحاخامية الكبرى بأنها تريد الاهتمام أولا بتشغيل أعضائها، وتكدّس تكاليف مالية كبيرة، مقابل "خدمات الحلال"، ما يؤدي في كثير من الحالات إلى أن الكثير من المنتجين في العالم يرفضون العمل مع السوق الإسرائيلية.
ويطرح الداعون إلى خفض كلفة أنظمة "الحلال" الاعتماد على المؤسسات الدينية اليهودية في تلك الدول، تماما كوزارة الصحة التي تعترف بشهادات صحية للأدوية الصادرة من الدوّل المصدّرة، دون أن ترسل الوزارة مندوبين عنها إلى تلك الدول، ولا يوجد أي سبب لوزارة الأديان والحاخامية الكبرى يمنعهما من الاعتراف بشهادات "حلال" لرجال دين يهود معروفين أيضا لإسرائيل.
وينعكس غلاء المواد الغذائية في إسرائيل مقارنة بما هو قائم في الدول المتطورة على نسبة الصرف على المواد الغذائية من إجمالي مداخيل العائلة، إذ تبلغ النسبة في إسرائيل 46ر12% من إجمالي المداخيل، وتعد من أعلى النسب في دول منظمة التعاون للدول المتطورة OECD. ومن بين الدول التي تسبقها في هذه المنظمة اليونان بنسبة 63ر15%، واليابان بنسبة 18%. إلا أن النسبة في بريطانيا 38ر12%، وفي إيطاليا 76ر11%، وفي فرنسا 74ر10%، وفي فنلندا 6ر10%، وفي كندا 9%، وفي هولندا والسويد 41ر8%، وفي الولايات المتحدة الأميركية 7%.
وتتهم جهات في قطاع الفندقة المؤسسة الدينية بأن تشديدها في معايير إصدار "الحلال" يرفع كلفة الإقامة في الفنادق، وهذا أحد أسباب ارتفاع كلفة الإقامة مقارنة مع معدل الكلفة في المنطقة المجاورة. ولا تستطيع الفنادق الكبرى والمتوسطة الاستغناء عن شهادة "الحلال"، لأن هذا يحد من إمكانية استقبالها للسياحة الداخلية، وخاصة سياحة أعضاء النقابات التي لها قسط جدي في حركة السياحة الداخلية. وحسب التقديرات فإن كل واحد من الفنادق يدفع سنويا حوالي 26 ألف دولار لمراقب "حلال"، عدا عن كلفة إصدار الشهادة وغيرها من احتياجات الحفاظ على "الحلال".