يعلن الجيش الإسرائيلي أنه يجري تدريبات عسكرية متواصلة منذ سنوات استعدادا لحرب متوقعة بين إسرائيل وحزب الله. وشددت وثيقة "إستراتيجية الجيش الإسرائيلي"، التي نشرها رئيس هيئة أركان الجيش، غادي آيزنكوت، في نهاية العام 2015، وتشكل بوصلة لبناء القوة العسكرية وتفعيلها، على أن حربا ضد حزب الله هي سيناريو ينبغي الاستعداد له.
ورأى التقييم الإستراتيجي الأخير للحكومة الإسرائيلية أن حزب الله هو الذراع التنفيذي "للمحور الشيعي" بزعامة إيران، وأنه الآن يشكل "التهديد العسكري المركزي على إسرائيل".
على ضوء هذا المفهوم الإسرائيلي، صدر في مطلع الشهر الحالي عن "معهد أبحاث الأمن القومي" في جامعة تل أبيب كتاب تضمن مجموعة دراسات بعنوان "العقد الهادئ – حرب لبنان الثانية ونتائجها، 2006 – 2016". واستعرضت دراسات الكتاب الظروف السياسية والجيو - إستراتيجية التي اندلعت فيها هذه الحرب، ونتائجها وتبعاتها على إسرائيل والشرق الأوسط والعلاقات الإسرائيلية – الأميركية، إلى جانب التوقعات حيال حرب مقبلة محتملة. وصرح ضباط ومسؤولون أمنيون إسرائيليون بأن حربا كهذه هي مسألة وقت وحسب.
ويعتبر هؤلاء الضباط والمسؤولون الأمنيون الإسرائيليون أن الحرب الدائرة في سورية ربما أرجأت نشوب حرب كهذه، لكنها في الوقت نفسه تدفع باحتمال نشوبها، وذلك لعدة أسباب أولها إمكانية أن يقيم حزب الله قاعدة عسكرية له في هضبة الجولان المحررة، وهو ما تعتبره إسرائيل "خطا أحمر" ولن تسمح بحصوله، وتؤكد أنها ستتعامل مع خطوة كهذه مثلما تتعامل مع عمليات نقل أسلحة من سورية إلى حزب الله في لبنان، أي شن غارات وقصف مواقع حزب الله في الجولان. وسبب آخر لاحتمال نشوب حرب يتعلق بسعي إسرائيل إلى وقف عملية تسلح حزب الله وتعاظم قوته، وسط توجس إسرائيلي واضح من اكتساب حزب الله خبرة كبيرة جدا في القتال البري من خلال مشاركته في الحرب إلى جانب قوات النظام السوري.
تأجيل حرب مقبلة
أشار الباحث في الشؤون العسكرية، غابي سيفوني، في دراسة حول "دروس الجيش الإسرائيلي من حرب لبنان الثانية وتطبيقها"، إلى أن انسحاب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان، في أيار العام 2000، والانتفاضة الفلسطينية الثانية، 2000 – 2005، "ألزمت الجيش الإسرائيلي بتنفيذ تغييرات بعيدة المدى في مفهوم ممارسة نشاطه والحرية العملانية التي تم منحها للقوات في ميدان الأحداث".
وأضاف سيفوني أن تركيز الجيش الإسرائيلي على القتال ضد الأنشطة الفلسطينية خلال الانتفاضة والتغييرات التي مرّت على الجيش في أعقاب ذلك "جبت ثمنا على شكل تراجع حاد في جهوزية الجيش الإسرائيلي للعمل في مواجهة (عسكرية) واسعة النطاق، تشمل تفعيل أطر كبيرة واستيفاء قدرات فرق عسكرية متنوعة كما هو مطلوب في الحرب. وتضاءل حجم الموارد التي تم رصدها للحفاظ على القدرات القتالية المتكاملة، وبالكاد جرى تأهيل ضباط وتدريب وحدات".
إلى جانب ذلك، "تطورت بصورة حادة فجوة إدراكية جوهرية، إذ استند مفهوم محاربة الإرهاب الداخلي (الانتفاضة) بالأساس إلى نشاط بوليسي لإحباط (عمليات)، من خلال التنسيق مع باقي الجهات الأمنية. وهذا المفهوم لم يوفر أساسا من الخبرة لقتال واسع ومتكامل (بمشاركة أسلحة متعددة) في لبنان مثلا. ولذلك فإنه ليس عجيبا أن قدرات الجيش الإسرائيلي كانت متدنية في محاربة حزب الله، في العام 2006. ودلّت التحقيقات التي جرت لاحقا على وجود إخفاقات غير قليلة سواء في بنية قوة الجيش الإسرائيلي أو في استخدامها. وألزمت هذه الإخفاقات إجراء عملية تصحيح عميقة. وإلى جانب ذلك، وفي موازاته، ازداد إدراك الجيش الإسرائيلي لملامح التهديد الذي يضعه حزب الله في شمال الدولة وحماس والمنظمات الأخرى في جنوبها. ولا تزال عملية استخلاص الدروس من حرب لبنان الثانية مستمرة".
ووفقا لسيفوني، فإن الجيش الإسرائيلي عاد إلى مهمته التقليدية المتمثلة بالاعتماد على "الاجتياح البري التقليدي، الذي يعتبر أداة مركزية في أي قتال يخوضه، وذلك إلى جانب نيران التشكيلات العسكرية". ولهذا الغرض "شكّل الجيش الإسرائيلي مقرات قيادة من أجل تفعيل قوات خاصة وعمليات في العمق، وحتى لواء كوماندوس. والحديث عن ضرورة الاجتياح البري يتعلق أيضا بجوانب إدراكية متعلقة بالصعوبة المتزايدة في تحقيق حسم بمفهومه الكلاسيكي أمام لاعبين غير دولتيين. ولذلك تتزايد الحاجة بشكل كبير إلى بلورة رد متكامل من أجل تحقيق حسم سريع ضد العدو والقضاء على قدرات عمله. وبالإمكان القيام بذلك بواسطة احتلال منطقة، القضاء على بنية تحتية وقوات وإزالة تهديدات داهمة، من خلال نقل القتال الأساسي إلى أرض العدو وممارسة القوة في وقت واحد وبصورة متعددة الأبعاد، تدمج ما بين الاحتلال الفوري والعنيف مع النيران الدقيقة للتشكيلات العسكرية المتنوعة".
ولفت سيفوني إلى أنه يتزايد الإدراك في الجيش الإسرائيلي أن تأجيل الحرب المقبلة هو أحد أهداف الجيش المركزية. "والوسيلة التي يستخدمها الجيش الإسرائيلي من أجل تحقيق هذا الهدف هي "المعركة بين الحروب"، وغاياتها هي تعظيم إنجازات الحرب الماضية، الحفاظ على الردع وتصعيده، إضعاف العدو وتقليص تعاظم قوته، خلق ظروف أفضل للحرب المقبلة، تحسين الشرعية لعملية إسرائيلية وسحب الأساس الشرعي لنشاط العدو".
حرب ليست مطلوبة
اعتبر القائم بأعمال رئيس "معهد أبحاث الأمن القومي"، أودي ديكل، أنه "على الرغم من القرارات الإشكالية والإخفاقات في جهوزية وتفعيل القوة من جانب الجيش الإسرائيلي في حرب لبنان الثانية، فإن الفجوة في القوة العسكرية بينه وبين حزب الله أبقى المنظمة اللبنانية متضررة جدا واضطرها إلى تغيير طبيعة أنشطتها وأدائها الإستراتيجي ضد إسرائيل. وكان القدر في السنوات التي أعقبت الحرب أن دخل حزب الله إلى الحرب الأهلية في سورية، وهكذا حظيت إسرائيل بعقد من الهدوء عند حدودها الشمالية".
إلا أن ديكل حذر من شن إسرائيل حربا جديدة ضد حزب الله "من أجل تصحيح نتائج وصورة الحرب السابقة. وينبغي دراسة أي حرب بموجب السياق الإستراتيجي الخاص والمتغير وتوجيه ممارسة القوة وفقا لغايات إستراتيجية تضعها حكومة إسرائيل".
وأضاف أنه "يحظر أن يؤثر شعور ’إهدار فرصة’ وعدم استنفادها في توجيه ضربة شديدة لحزب الله في حرب لبنان الثانية على الهدف الإستراتيجي لحرب مستقبلية ضد الحزب. وبالإمكان القول إنه في الوضع الإستراتيجي الراهن، الاحتمال الأكبر هو أن حربا كهذه ليست مطلوبة".
الجبهة الداخلية الإسرائيلية غير جاهزة
تناولت دراسة وضعها عدد من الباحثين موضوع الجبهة الداخلية أثناء حرب لبنان الثانية، وقد لفتوا إلى أن هذه الحرب "وُصفت من جانب الكثيرين بأنها كانت نقطة تحول في التعامل مع التهديد على الجبهة الداخلية الإسرائيلية واستعدادها للتهديدات الأمنية عامة وتهديدات الصواريخ خاصة".
وأكد الباحثون أنه "في العام 2006 لم تكن الجبهة المدنية جاهزة بالشكل الكافي للهجمات الصاروخية من جانب حزب الله. ويبدو أن الفشل لم يكن وظائفيا فقط، وإنما كان بالأساس إدراكيا – إستراتيجيا، من ناحية غياب إدراك كاف للقيادة الأمنية والمدنية لمركزية التهديد على السكان في الرؤية الشاملة للأمن القومي الإسرائيلي".
وأشاروا إلى أنه منذ انتهاء هذه الحرب، "تركزت جل جهود أجهزة الجبهة المدنية في إسرائيل على الاستعداد لسيناريوهات متنوعة من الهجمات بالصواريخ والقذائف الصاروخية. وهكذا، طرأ تقدم ملحوظ في مركبات الرد الإسرائيلي على سيناريوهات من هذا القبيل. كما أن الجبهة المدنية استعدت أيضا لمواجهة تهديدات إرهابية وهجمات من نوع آخر، بينها هجمات سايبر وكوارث طبيعية". وشملت هذه الاستعدادات "تطوير منظومات تكنولوجية متطورة في مجال الدفاع الفعال، رصد موارد أوسع، زيادة لفت أنظار الجمهور وغرس واسع لبرامج في مجال تعزيز المناعة المجتمعية".
رغم ذلك، شدد الباحثون على أن "القفزة المطلوبة من أجل سد الفجوات في جهوزية الجبهة الداخلية لم تحدث بعد، لأن التهديدات الأمنية على الجبهة الداخلية ازدادت كثيرا، كما ونوعا، وكذلك لأن عملية تنظيم الجبهة المدنية ما زالت تجري ببطء. وهكذا نشأت فجوة كبيرة بين التهديدات المحتملة والرد المتوفر على تهديدات السيناريوهات الأمنية، وحتى أن الفجوة أكبر إزاء السيناريوهات الأخرى، مثل هزة أرضية هدامة".
ردع متبادل
تناولت دراسة أخرى في الكتاب مفهوم حزب الله لردع إسرائيل بعد الحرب، كما تجلى من خلال خطابات أمين عام الحزب، حسن نصر الله. وكتب الباحثان كرميت فالنسي ويورام شفايتسر أن "تحليل خطاباته (نصر الله) يدل على تطور في مفهوم الردع وأسسه. ويعكس هذا التغيير الظروف الداخلية والإقليمية التي يعمل حزب الله في إطارها، وكذلك عملية التعلم وبناء قوة الحزب في السنوات الأخيرة".
ورأى الباحثان أنه "حتى بداية سنوات الـ2000، تميز خطاب الردع لحزب الله في إبراز الفوائد الكامنة في حرب الأنصار وعجز إسرائيل عن مواجهة هذا النوع من التهديد. وبدءا من العام 2006، في أعقاب إنجازات حزب الله في حرب لبنان الثانية، أبرزت خطابات نصر الله قدرة الحزب على مزج شكل قتالي تقليدي مع حرب أنصار وإرهاب، واستعرض هذا المزج على أنه مفهوم قتالي جديد، يتحدى بشكل أكبر قدرات الرد من جانب جيوش نظامية".
وأضافا أنه "منذ العام 2008، وعلى ضوء اغتيال ’رئيس هيئة الأركان العامة’ للحزب، عماد مغنية، تناول جزء كبير من خطاب الردع من جانب نصر الله أنشطة حزب الله ضد أهداف إسرائيلية ويهودية في العالم، وما يصفه بـ’الحرب المفتوحة’".
لكن الباحثين اعتبرا أن "الجهود من أجل تنفيذ هجمات ضد إسرائيل في الحلبة الدولية نابع على الأرجح من الردع الذي تمارسه إسرائيل ضد الحزب في الحلبة الإقليمية، وكذلك من اعتبارات داخلية، في أساسها الرغبة بالامتناع عن (الدخول في) مواجهة أخرى مع إسرائيل. وتُبرز خطابات نصر الله، من العقد الثاني لسنوات الألفين، محاولته لصنع مساواة إستراتيجية مع إسرائيل، أي استعراض قدرات هجومية متطورة ليس أقل من قدرات إسرائيلية العسكرية، وذلك إلى جانب مواصلة الجهود الهجومية للحزب في الحلبة الدولية".
وتابع الباحثان أن "سبب انشغال نصر الله بمبدأ ’السن بالسن’ هو الضرر الحاصل في ميزان الردع لحزب الله ضد إسرائيل في أعقاب ضلوعه العميق في الحرب في سورية، الذي أدى إلى غياب صراع الحزب المباشر ضد الجيش الإسرائيلي. وعلى هذه الخلفية، تتناول خطابات نصر الله، بشكل كبير، الفوائد التي يستخلصها حزب الله من القتال في سورية، وهي فوائد نافذة تمنح الحزب قدرات هجومية، وهي ليست أقل تطورا من تلك المنسوبة لإسرائيل".
وأردف الباحثان أنه "فعلا فإن خبرة حزب الله المتراكمة وتطور قدراته العسكرية منذ اندلاع الحرب في سورية زادا بشكل كبير التهديد على إسرائيل من جانبه. إضافة إلى ذلك، وعلى الرغم من أن الانشغال بإسرائيل يحظى بمكان مقلص أكثر قياسا بتصريحات نصر الله منذ تدخل الحزب في القتال في سورية، فإن الحزب ما زال يرى بحرب لبنان الثانية مصدر نسب لنجاحاته ولإبراز ضعف إسرائيل. وذكر هذه الحرب ونتائجها ما زال مركبا مركزيا في مفهوم الردع لديه. وتدل خطابات نصر الله على اعتراف بوجود ردع متبادل بين حزب الله وإسرائيل".
وأشار الباحثان إلى أن حزب الله لا يريد حربا أخرى مع إسرائيل، "وعمليا هو يخشى منها، وذلك ليس بسبب الأضرار التي تكبدها في العام 2006، وإنما أيضا على ضوء إدراكه للتحسن الذي طرأ على القدرات الهجومية للجيش الإسرائيلي منذ حرب لبنان الثانية. ويتم التعبير عن نجاح الردع الإسرائيلي ضد حزب الله، أولا، من خلال موقفه بأنه ليس معنيا بالخروج إلى حرب في الظروف الراهنة، ويتكرر صدى ذلك في خطاب نصر الله نفسه. إلا أنه على الرغم من وجود الردع في الجبهة الشمالية الإسرائيلية، فإن أنشطة حزب الله في العالم، بما في ذلك إرسال خلايا من أجل تنفيذ عمليات في أميركا الجنوبية وجنوب شرق آسيا، وكذلك جهود الحزب من أجل الانتقام لاغتيال مغنية، تثبت أنه لا يوجد لدى إسرائيل ردع فعال ضد حزب الله في الحلبة الدولية. والكوابح التي تمارس على الحزب هناك نابعة بالأساس من تعليمات إيرانية أو من اعتبارات تنظيمية داخلية".
واعتبر الباحثان، على غرار تصريحات متكررة لضباط في الجيش الإسرائيلي، أن الهدوء في الجبهة الإسرائيلية – اللبنانية هش وقابل للانفجار بشكل سريع. فـ"تصريحات حزب الله حول عدم رغبته بالخروج إلى حرب ضد إسرائيل، إلى جانب الثمن الباهظ في الضحايا التي يدفعه الحزب في الحلبة السورية، قد يجعلان الجمهور وصناع القرار في إسرائيل يشعران أن ثمة احتمالا كبيرا بأن يتم الحفاظ على الهدوء عند حدود لبنان لفترة طويلة. (لكن) دروس الماضي تدل على أن الردع هو مصطلح متملص وأنه يكفي أحيانا حدوث تصعيد موضعي أو تغيير في المحيط الإقليمي أو اللبناني الداخلي من أجل إحداث تقدير وضع مختلف لدى حزب الله. والضائقات الداخلية للحزب، إلى جانب رؤيته الأيديولوجية والإستراتيجية بالحفاظ على بعد المقاومة ضد إسرائيل، من شأنهما أن يقلبا الأمور رأسا على عقب وإشعال مواجهة مجددة بين الجانبين".