أصدرت محكمة العدل الدولية (ICJ) في لاهاي، هولندا، يوم الجمعة 19 تموز الجاري، نص "الرأي الاستشاري" الذي توصلت إليه بشأن النتائج والإسقاطات القانونية المترتبة على السياسات والممارسات الإسرائيلية في المناطق الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية. ونحاول في هذه المعالجة توضيح بعض المفاهيم والمصطلحات الأساسية المتعلقة بهذه المحكمة وبالإجراء الذي سلكته مؤخراً: ما هو "الرأي الاستشاري"؟ ما هي الأسئلة المركزية التي طُرحت على المحكمة؟ ما هو ملخص ما توصلت إليه المحكمة في رأيها الاستشاري هذا وما هي النتائج العملية المحتمل أن تترتب عليه؟
اختصاصا المحكمة والفوارق بينهما
بدايةً، وكمدخل عام لفهم الموضوع، من المفيد التذكير بنبذة قصيرة جداً عن "محكمة العدل الدولية" (بالإنكليزية: International Court of Justice؛ واختصاراً: ICJ) التي تُعتبر الهيئة القضائية الرئيسة لمنظمة الأمم المتحدة ومقرها "قصر السلام" في مدينة لاهاي في هولندا، لتكون بذلك الجهاز الوحيد من بين الأجهزة الستة التابعة للأمم المتحدة الذي لا يقع مقره في مدينة نيويورك. لغتا العمل الرسميتان فيها هما الإنكليزية والفرنسية. وقد تأسست في العام 1945 وبدأت تمارس عملها في العام التالي. ومن الضروري بالطبع التمييز بين "محكمة العدل الدولية" و"المحكمة الجنائية الدولية" (وهي في لاهاي أيضاً) بكونهما هيئتين مختلفتين تماماً ولكل منهما اختصاصات مختلفة. فبينما تنظر الأولى (العدل) في قضايا تخص الدول والحكومات، تنظر الثانية (الجنائية) في قضايا تخص الأفراد.
تتألف المحكمة من 15 قاضياً يخدم كل منهم لمدة 9 سنوات، تنتخبهم الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي حسب مفتاح جغرافي. تتكون هيئة المحكمة اليوم من 15 قاضياً من الدول التالية: الولايات المتحدة (رئيسة المحكمة)، فرنسا، اليابان، ألمانيا، أستراليا، سلوفاكيا، البرازيل، جمايكا، الهند، أوغندا، الصين، الصومال، روسيا، لبنان والمغرب. ويترأسها الآن القاضي اللبناني نوّاف سلام.
تضطلع "محكمة العدل الدولية" باختصاصين مركزيين، هما: 1. الفصل في النزاعات القانونية التي تنشأ بين الدول (وهذه مشروطة بموافقة الدولة المُدّعى عليها)؛ يمكن للدول الأعضاء في الأمم المتحدة وتلك التي قبلت اختصاص محكمة العدل الدولية تقديم القضايا (كما حصل في قضية الدعوى التي تقدمت بها جمهورية جنوب أفريقيا ضد إسرائيل بتهمة ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية)؛ 2. إصدار فتاوى قضائية، بصفة استشارية، حسب طلب الهيئة العامة للأمم المتحدة أو منظمات مختلفة تعمل تحت رعاية الأمم المتحدة. ومثل هذه الفتوى هي التي تحمل اسم "الرأي الاستشاري".
خلافاً للقواعد الإجرائية (ثم الجوهرية، بالتالي) المنصوص عليها بشأن الاختصاص الأول (تسوية النزاعات بين الدول)، فإنّ ثمة فارقين أساسيين في قواعد الاختصاص الثاني (الفتاوى القضائية) الإجرائية: 1. طلب إصدار فتوى قضائية في مسألة ما غير مشروط بموافقة الدولة ذات الشأن المباشر في المسألة إياها، 2. ليس من حق الدولة ذات العلاقة المباشرة بموضوع الفتوى تعيين قاضٍ مندوب عنها. لكن في المقابل، يحق للدول الأعضاء في الأمم المتحدة، بما فيها الدولة ذات العلاقة بالقضية العينية، وكذلك لمنظمات الأمم المتحدة المختلفة، تقديم آرائها ومواقفها بشأن القضية العينية إلى المحكمة الدولية.
الرأي الاستشاري، عناصره، مكانته وتأثيراته
يشمل الرأي الاستشاري، في العموم، الأجزاء المكوّنة التالية: 1. عرض للتسلسل الإجرائي الذي سبق الطلب بتقديم الفتوى/ الرأي الاستشاري؛ 2. البحث في صلاحية محكمة العدل الدولية إصدار الرأي الاستشاري. وفي هذا الإطار، تنظر المحكمة، من ضمن أشياء أخرى، في صلاحية الهيئة التي توجهت إليها بطلب إصدار الرأي الاستشاري، ما إذا كان السؤال الموجه إليها هو سؤال قانوني حقاً (خلافاً لمحاولة وضع المحكمة، مثلاً، في موضع الحسم في نزاع بين دولتين تحت غطاء الرأي الاستشاري القانوني)، إذا كانت تتوفر أمام المحكمة الحقائق اللازمة للبحث في الموضوع، وإن كانت ثمة أسباب أخرى ترجح الامتناع عن البحث في الموضوع؛ 3. مناقشة السؤال القانوني العيني الذي تم توجيهه إلى المحكمة.
حتى الآن، ومنذ تأسيسها في العام 1946، أصدرت محكمة العدل الدولية 23 رأياً استشارياً قانونياً توزعت على مواضيع مختلفة وطاولت مسائل إدارية تتعلق بعمل الأمم المتحدة (مثل حقوق الأمم المتحدة وحصاناتها)، مروراً بمسائل قانونية تتعلق بالدول (مثل قانونية استخدام السلاح النووي) وانتهاء بمسائل موضع خلاف بين دول محددة.
مثل اسمه، كذلك هو "الرأي الاستشاري" ـ رأي استشاري، ذو مكانة استشارية فقط. ليس له مكانة قانونية ملزمة تجاه الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، ولا ضد مؤسسات الأمم المتحدة في الغالب (رغم أن ثمة من يقول بأنّ الرأي الاستشاري ملزم للهيئات المهنية التابعة للأمم المتحدة، كأي رأي استشاري قانوني داخليّ). وعليه، لا يتضمن الرأي الاستشاري أوامر فعلية تنفيذية مُلزمة تجاه الدول.
بالرغم من هذا، لا يمكن أن نستبعد كلياً إسقاطات عملية محتملة للرأي الاستشاري، من بينها على سبيل المثال: 1. تأسيساً على مكانة محكمة العدل الدولية وسمعتها المهنية الرفيعة، كما السمعة المهنية الرفيعة للعديد من قضاتها، إلى جانب كونها المؤسسة القضائية الأرفع التابعة لهيئة الأمم المتحدة، يُنظر إلى ما يصدر عن هذه المحكمة باعتباره التفسير القضائي المعتمَد للقانون الدولي. وعليه، فثمة لها تأثيرات قوية على المواقف القضائية الخاصة بالدول؛ 2. قد تكون للتفسيرات والاستنتاجات القضائية التي تتوصل إليها محكمة العدل الدولية تأثيرات على المواقف القانونية والتفسيرات القضائية التي تصدر عن محاكم دولية أخرى، وكذلك عن المحاكم في الدول المختلفة. من هنا، حين نظر قضاة المحكمة الجنائية الدولية (ICC)، مثلاً، فيما إذا كانت لهذه المحكمة صلاحية بشأن الصراع الإسرائيلي ـ العربي، ذهبوا في قرارهم من العام 2021 إلى اقتباس ما خلصت إليه محكمة العدل الدولية في رأي استشاري حول حق الفلسطينيين في تقرير المصير؛ 3. في حال استقرار رأي محكمة العدل الدولية على تقييمات سلبية تجاه دولة ما وممارساتها، فمن المرجح أن تنعكس هذه بصورة سلبية في موقف دول وشركات تجارية ومؤسسات مختلفة حيال تلك الدولة المعنية.
الرأي الاستشاري العيني، خلفيته، مضمونه وأبعاده
هذا "الرأي الاستشاري" الذي صدر عن محكمة العدل الدولية قبل عشرة أيام جاء للإجابة على السؤال الذي وجهته لها الجمعية العمومية للأمم المتحدة في قرارها الذي تبنّته يوم 30 كانون الأول 2022 بأغلبية 87 دولة واعتراض 26 دولة وامتناع 53 دولة عن التصويت. وضمن قرارها الصادر تحت عنوان "الممارسات الإسرائيلية التي تمس حقوق الإنسان للشعب الفلسطيني في الأرض الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية"، قررت الجمعية العامة في الفقرة 18، ووفقاً للمادة 96 من ميثاق الأمم المتحدة، "أن تطلب إلى محكمة العدل الدولية، وعملاً بالمادة 65 من النظام الأساسي للمحكمة، إصدار فتوى (رأي استشاري) بشأن المسألتين التاليتين، مع مراعاة قواعد ومبادئ القانون الدولي، بما في ذلك ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان وقرارات مجلس الأمن والجمعية العامة ومجلس حقوق الإنسان ذات الصلة وفتوى المحكمة المؤرخة في 9 تموز 2004" (هنا المقصود هو "الرأي الاستشاري" الذي أصدرته المحكمة إياها، في التاريخ المذكور، بشأن الآثار القانونية الناجمة عن تشييد جدار الفصل العنصري في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وذلك بناء ـ أيضاً ـ على سؤال وجهته لها الجمعية العامة في 8 كانون الأول 2003 وكان نصّه: "ما هي الآثار القانونية الناشئة عن تشييد الجدار الذي تقوم إسرائيل، السلطة القائمة بالاحتلال، بإقامته في الأرض الفلسطينية المحتلة، بما في ذلك في القدس الشرقية وحولها، على النحو المبين في تقرير الأمين العام، وذلك من حيث قواعد ومبادئ القانون الدولي، بما في ذلك اتفاقية جنيف الرابعة للعام 1949، وقرارات مجلس الأمن والجمعية العامة ذات الصلة؟").
أما "المسالتان التاليتان"، اللتان طلب قرار الجمعية العامة الفتوى القضائية بشأنهما فهما: "1. ما هي الآثار القانونية الناشئة عن انتهاك إسرائيل المستمر لحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، وعن احتلالها طويل الأمد للأرض الفلسطينية المحتلة منذ العام 1967 واستيطانها وضمها لها، بما في ذلك التدابير الرامية إلى تغيير التكوين الديمغرافي لمدينة القدس الشريف وطابعها ووضعها، وعن اعتمادها تشريعات وتدابير تمييزية في هذا الشأن؟ 2. كيف تؤثر سياسات إسرائيل وممارساتها المشار إليها في الفقرة 18 (أ) على الوضع القانوني للاحتلال وما هي الآثار القانونية المترتبة على هذا الوضع بالنسبة لجميع الدول والأمم المتحدة؟"
وأما "ممارساتها المشار إليها في الفقرة 18 (أ)"، فتشمل ـ كما جاء في نص قرار الجمعية العامة إياه ـ "إمعان إسرائيل، السلطة القائمة بالاحتلال، في انتهاك حقوق الإنسان للشعب الفلسطيني بشكل منهجي، بما في ذلك الانتهاكات الناجمة عن الاستخدام المفرط للقوة والعمليات العسكرية التي تؤدي إلى وفاة وإصابة المدنيين الفلسطينيين، بمن فيهم الأطفال والنساء والمشاركون في مظاهرات غير عنيفة وسلمية، وكذلك الصحافيون والموظفون الطبيون والعاملون في مجال تقديم المساعدة الإنسانية". ثم أيضاً: "كما تشجب الجمعية العامة، من خلال القرار، الممارسة المتمثلة في احتجاز جثامين من قتلوا وتدعو إلى الإفراج عنها وإعادتها إلى أقربائها بما يتماشى مع القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، حتى يتسنى لهؤلاء توديع موتاهم بشكل كريم وفقا لمعتقداتهم الدينية وتقاليدهم"؛ وتؤكد أيضا ضرورة "منع جميع أعمال العنف والمضايقة والاستفزاز والتحريض التي يرتكبها المستوطنون الإسرائيليون المتطرفون وجماعات المستوطنين المسلحين، خصوصا ضد المدنيين الفلسطينيين، بمن فيهم الأطفال".
في إجابتها على هذين السؤالين، خلصت محكمة العدل الدولية، في رأيها الاستشاري الذي أصدرته يوم 19 الجاري وامتد على 80 صفحة، إلى النقاط المركزية التالية:
- الممارسات الإسرائيلية في الضفة الغربية والقدس الشرقية تشكل انتهاكاً للقانون الدولي وتشكل ضماً فعلياً؛
- وجود إسرائيل المستمر في المناطق الفلسطينية المحتلة غير قانوني؛
- على إسرائيل إنهاء وجودها في المناطق المحتلة، بأقصى السرعة الممكنة؛
- على إسرائيل التوقف الفوري عن توسيع المستوطنات وإخلاء جميع المستوطنين من الأرض المحتلة؛
- على إسرائيل تعويض السكان الطبيعيين والقانونيين في المناطق الفلسطينية عن الأضرار التي لحقت بهم؛
- على دول العالم والمنظمات الدولية واجب عدم الاعتراف بالوجود الإسرائيلي في المناطق المحتلة كوجود قانوني وعدم مساعدتها في الإبقاء عليه؛
- على الأمم المتحدة النظر في الإجراءات اللازمة لإنهاء الوجود الإسرائيلي في المناطق على وجه السرعة؛
- على الرغم من انسحاب إسرائيل من قطاع غزة في العام 2005، إلا أن إسرائيل بقيت ولا تزال، فعلياً، القوة المحتلة في هذه المنطقة. ذلك أن المعايير التي يمكن بواسطتها الجزم ما إذا كانت إسرائيل تحتل القطاع فعلياً أم لا "هي ليست الوجود المادّي، وإنما القدرة على ممارسة الصلاحية على القطاع ـ على حدوده البرية، المائية والجوية، وعلى عبور البضائع والناس منه وإليه".
من الواضح أن ما توصلت إليه الهيئة القضائية الدولية الأرفع في هذا "الرأي الاستشاري" يشكل نقطة تحول تاريخية في مسار الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني ولا بدّ من أن يشكل "خطوة مهمة في الطريق نحو إنهاء الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية"، كما رأى البروفسور إيال غروس، أستاذ القانون الدولي في جامعة تل أبيب.
لكن، إلى أن يتم إنهاء الاحتلال، ستكون لهذا النص القانوني الهام جداً انعكاسات هامة جداً على المديين القرب والمتوسط، في كل ما يتعلق بمكانة دولة إسرائيل في المجتمع الدولي ومنظومة علاقاتها الدولية، وخاصة في ضوء تأكيد المحكمة الدولية على "واجب دول العالم والمنظمات الدولية عدم الاعتراف بالوجود الإسرائيلي في المناطق المحتلة كوجود قانوني وعدم مساعدتها في الإبقاء عليه" و"واجب الأمم المتحدة النظر في الإجراءات اللازمة لإنهاء الوجود الإسرائيلي في المناطق على وجه السرعة"، الأمر الذي يرجح احتمالات إقدام دول عديدة، ومنها صديقة لإسرائيل أيضاً، على ممارسة الضغوط على إسرائيل وتعزيز المنحى العالمي الجديد الآخذ في التبلور في اتجاه فرض العقوبات على الأشخاص/ الأفراد والتنظيمات المرتبطة بمشروع الاستيطان في المناطق المحتلة. كما أنه لن تكون ثمة أية دولة، ولا حتى الولايات المتحدة ذاتها، مستعدة للمخاطرة بتجاهل الرأي الاستشاري وعدم الالتفات إليه وأخذه في الاعتبار.
على جانب آخر، من المؤكد أنه سيكون لهذا الرأي الاستشاري تأثير واضح على إجراءين قضائيين يتم النظر فيهما ضد إسرائيل في الهيئتين القضائيتين الدوليتين الأعلى ـ في محكمة العدل الدولية: دعوى جمهورية جنوب أفريقيا ضد إسرائيل بتهمة ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة؛ وفي المحكمة الجنائية الدولية: طلب المدعي العام في هذه المحكمة، كريم خان، من قضاتها الثلاثة إصدار أوامر اعتقال دولية بحق رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، ووزير دفاعه، يوآف غالانت ـ وهما الإجراءان اللذان من المنتظر أن تصدر فيهما قرارات نهائية خلال الفترة القريبة القادمة.