المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 3144
  • سليم سلامة

العالم كله يعيش حالة من الترقب والتوتر والتكهن، وليس الشعب الفلسطيني ودولة إسرائيل ودولة جنوب أفريقيا فحسب. ولا مغالاة في هذا القول، قطّ، لوصف حالة الانتظار في الأيام ما بين انتهاء يومين من المداولات في "محكمة العدل الدولية" في لاهاي (هولندا) وبين صدور قرار المحكمة في الدعوى التي قدمتها إليها جمهورية جنوب أفريقيا ضد دولة إسرائيل. فقد استمعت المحكمة، يوميّ الخميس والجمعة الأخيرين، إلى ادعاءات الطرفين المتنازعين إذ عرض الفريق القضائي الممثل لدولة جنوب أفريقيا، يوم الخميس، لائحة اتهامه مُطالباً بإدانة إسرائيل بتنفيذ / بالسعي إلى الإبادة الجماعيّة بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، ثم بتقديم تدابير الحماية المؤقتة للفلسطينيين. وردّ عليها الفريق القضائي الممثل لدولة إسرائيل، يوم الجمعة، فعرض لائحة دفاعه ومسوّغات طلبه من المحكمة ردّ الدعوى وعدم إصدار أي أمر ضد دولة إسرائيل. في هذه المقالة، نقدم عرضاً معلوماتياً حول المحكمة، جريمة الإبادة، الدعوى، ادعاءات الطرفين والنتائج القضائية المحتملة التي يمكن أن تنتهي إليها الدعوى في خاتمة المطاف.

محكمة العدل الدولية

 (بالإنكليزية: International Court of Justice؛‏ واختصاراً: ICJ) ويُشار إليها أيضاً باسم "المحكمة العالمية". هي الهيئة القضائية الرئيسية لمنظمة الأمم المتحدة. يقع مقرها في "قصر السلام" في مدينة لاهاي في هولندا وهي الجهاز الوحيد من بين الأجهزة الستة التابعة للأمم المتحدة الذي لا يقع مقره في مدينة نيويورك. لغتا العمل الرسميتان فيها هما الإنكليزية والفرنسية. تم تأُسيسها في العام 1945 وبدأت أعمالها في العام التالي فحلّت، بذلك، محل "المحكمة الدائمة للعدالة الدولية" (التي تأسست في العام 1920). وتجدر الإشارة إلى ضرورة التمييز بين "محكمة العدل الدولية" و"المحكمة الجنائية الدولية"، فهما هيئتان مختلفتان لكل منهما اختصاصات مختلفة. وتحاكم الأولى (العدل) الحكومات/ الدول بينما تحاكم الثانية (الجنائية - في لاهاي، أيضاً) الأفراد.

الاختصاصان المركزيان لمحكمة العدل الدولية هما: الأول ـ الفصل في النزاعات القانونية التي تنشأ بين الدول (وهذه مشروطة بموافقة الدولة المُدّعى عليها)؛ يمكن للدول الأعضاء في الأمم المتحدة وتلك التي قبلت اختصاص محكمة العدل الدولية تقديم القضايا. والثاني ـ إصدار فتاوى قضائية، بصفة استشارية، حسب طلب الهيئة العامة للأمم المتحدة أو منظمات مختلفة تعمل تحت رعاية الأمم المتحدة. وهي توفر وسائل سلمية لحل النزاعات القانونية الدولية. وتعالج فقط القضايا التي تتقدم بها الدول وتستند قراراتها على مبادئ القانون الدولي ولا تقبل الاستئناف.

النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية هو الوثيقة الدستورية الرئيسة التي تشكل المحكمة وتنظمها. ويُعد هذا النظام الأساس جزءاً لا يتجزأ من ميثاق منظمة الأمم المتحدة، بحسب منطوق الفصل الرابع عشر من ميثاقها، الذي يُعتبر الأساس القانوني لأنشطة محكمة العدل الدولية من خلال تحديده للمبادئ التنظيمية والنشاط والكفاءة والإجراءات الخاصة بها.

تتألف المحكمة من 15 قاضياً يخدم كل منهم مدة 9 سنوات، تنتخبهم الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي حسب مفتاح جغرافي. يُنتخب ثلث الأعضاء كل ثلاث سنوات. ويجب أن يمثل القضاة كل الحضارات والأنظمة القانونية الرئيسة في العالم. ولا يسمح بوجود قاضيين يحملان الجنسية نفسها. وفي حال توفي أحد القضاة الأعضاء، يُعاد انتخاب قاض بديل يحمل جنسية المتوفي فيشغل كرسيه حتى نهاية فترته. يمكن عزل القاضي عن كرسيه فقط بموجب تصويت سري يجريه أعضاء المحكمة. يجوز للقضاة أن يقدموا حكماً مشتركاً أو أحكاماً مستقلة حسب آراء كل منهم. وتؤخذ القرارات وتقدم الاستشارات وفق نظام الأغلبية. وفي حال تساوي الأصوات، يعتبر صوت رئيس المحكمة مرجِّحاً. تتكون هيئة المحكمة اليوم من 15 قاضياً من الدول التالية: الولايات المتحدة (رئيسة المحكمة)، فرنسا، اليابان، ألمانيا، أستراليا، سلوفاكيا، البرازيل، جمايكا، الهند، أوغندا، الصين، الصومال، روسيا، لبنان والمغرب.

يمكن تعيين قاض خاص من قبل كل طرف في القضايا الخلافية (بين دولتين) وبذلك يصل عدد القضاة في هذه القضية إلى 17. في الدعوى الحالية، عينت جنوب أفريقيا ديكجانج موسينيكي، النائب السابق لرئيس المحكمة العليا في البلاد، قاضياً عنها، وعينت إسرائيل أهارون باراك الرئيس السابق للمحكمة الإسرائيلية العليا قاضياً عنها.

جريمة الإبادة الجماعية

"الإبادة الجماعية" (الجينوسايد) مصطلح صاغه، في أربعينيات القرن العشرين، المحامي اليهودي رفائيل ليمكين، الذي هرب من بولندا (مولده الأصلي) إلى الولايات المتحدة إبان الحرب العالمية الثانية، وذلك في إثر الفظائع التي ارتُكبت خلال المحاولات التي جرت لإبادة طوائف وشعوب على أساس قومي أو عرقي أو ديني أو سياسي. وقد صُنفت هذه كـجريمة دولية في اتفاقية وافقت الأمم المتحدة عليها بالإجماع في 8 كانون الأول 1948 ووضعت موضع التنفيذ العام 1951 وأُطلق عليها اسم "اتفاقية منع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية" والمعروفة اختصاراً بـ CPPCG أو "اتفاقية الإبادة الجماعية – منع ومعاقبة جميع أشكال جرائم الإبادة الجماعية، في أوقات الحرب والسلم على حد سواء". تتكون الاتفاقية من 19 مادة وتنصّ إحداها، أيضاً، على واجب الدول الأطراف في منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها.

بِمُوجِب المادة الثانية من هذه الاتفاقية، تعني الإبادة الجماعية أياً من الأفعال التالية، المرتكبة بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية، بصفتها هذه:

(أ) قتل أعضاء من الجماعة؛

(ب) إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة؛

(ج) إخضاع الجماعة، عمداً، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي، كلياً أو جزئياً؛

(د) فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة؛

(هـ) نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى.

ووفقا للمادة الثالثة من الاتفاقية، يُعاقَب على الأفعال التالية:

(أ) الإبادة الجماعية؛

(ب) التآمر على ارتكاب الإبادة الجماعية؛

(ج) التحريض المباشر والعلني على ارتكاب الإبادة الجماعية؛

(د) محاولة ارتكاب الإبادة الجماعية؛

(هـ) المشاركة في الإبادة الجماعية.

لا يتمتع أي شخص بحصانة ضد تهمة الإبادة الجماعية. فوفقا للمادة الرابعة، يُعاقَب مرتكبو الإبادة الجماعية، أو أي من الأفعال الأخرى المذكورة في المادة الثالثة، سواء كانوا حكاماً دستوريين أو موظفين عامين أو أفراداً. ووفقا للمادة الخامسة، يتعهد الأطراف المتعاقدون بأن يتخذوا، كلٌ طبقا لدستوره، التدابير التشريعية اللازمة لضمان إنفاذ أحكام هذه الاتفاقية، وعلى وجه الخصوص النص على عقوبات جنائية ناجعة لإنزالها بمرتكبي الإبادة الجماعية أو أي من الأفعال الأخرى المذكورة في المادة الثالثة.

وفقا للمادة السادسة، تتم محاكمة الأشخاص المتهمين بارتكاب الإبادة الجماعية، أو أي من الأفعال الأخرى المذكورة في المادة الثالثة، أمام محكمة مختصة من محاكم الدولة التي ارتكب الفعل على أرضها، أو أمام محكمة جزائية دولية تكون ذات اختصاص إزاء من يكون مِن الأطراف المتعاقدة قد اعترف بولايتها.

وحول دور "محكمة العدل الدولية"، تنص المادة التاسعة من الاتفاقية على أنه "تعرض على محكمة العدل الدولية، بناء على طلب أي من الأطراف المتنازعة، النزاعات التي تنشأ بين الأطراف المتعاقدة بشأن تفسير أو تطبيق أو تنفيذ هذه الاتفاقية، بما في ذلك النزاعات المتصلة بمسؤولية دولة ما عن إبادة جماعية أو عن أي من الأفعال الأخرى المذكورة في المادة الثالثة".

في المادتين الثانية والثالثة، تعرّف الاتفاقية إذاً جريمة الإبادة الجماعية بمركِّبَيْن اثنين إلزاميَّيْن. بمعنى، إلزامية إثبات كليهما، معاً، لإثبات تحقق جريمة الإبادة الجماعية وارتكابها، وهما:


1. المُركِّب النفسي (القصد/ النية): "بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو اثنية أو عرقية أو دينية". وهذا المركِّب هو الذي يميِّز "الإبادة الجماعية" عن الجرائم الخطيرة الأخرى التي يعرّفها ويحدّدها القانون الدولي وهو (المركّب) الذي يجعل من الإبادة الجماعية "جريمة الجرائم".

2. المركِّب الفعلي/ العملي (التنفيذ): تنفيذ أي واحد من الأفعال المُفصلة في المادة الثانية من الاتفاقية.

وبحسب خبراء في القانون الدولي، فإنّ "ادعاء الإبادة الجماعية هو أخطر ادعاء قانوني دولي يمكن توجيهه ضد دولة ما".

الدعوى وادعاءات الطرفين

قدمت جمهورية جنوب أفريقيا يوم 29 كانون الأول 2023 الدعوى ضد الحكومة الإسرائيلية إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي واتهمتها فيها بانتهاك "اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها"، وهي الاتفاقية التي وقعت عليها إسرائيل (وكذلك جنوب أفريقيا)، وشددت على أن الهجوم الذي شنته حركة حماس في السابع من تشرين الأول "لا يمكن أن يبرر ما ارتكبته وترتكبه إسرائيل في قطاع غزة منذ ذلك اليوم".

ويضع ملف الدعوى الذي قدمته جنوب أفريقيا التُهم في ما تصفه بأنه "السياق الأوسع لسلوك إسرائيل تجاه الفلسطينيين خلال نظام الفصل العنصري المستمر منذ 75 عاماً، واحتلالها العسكري للأراضي الفلسطينيّة منذ 56 عاماً، وحصارها لقطاع غزة منذ 16 عاماً". ويضيف أن "الأفعال المُرتكبة من جانب إسرائيل... هي ذات طابع إبادة جماعيّة، لأنها تُرتكب بنيّة مُحدَّدة... لتدمير الفلسطينيين في غزة كجزء من المجموعة الوطنيّة والإثنيّة الفلسطينيّة الأوسع". وخلال جلسة المحكمة حاول أعضاء الفريق القانوني الممثل لجنوب أفريقيا إثبات مركّبات هذه الدعوى وإقناع قضاة المحكمة بقبولها والاستجابة لما تضمنته من طلبات.

لإثبات المُركِّب النفسي (القصد/ النية) لدى إسرائيل لتنفيذ جريمة الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين في قطاع غزة، أوردت جنوب أفريقيا تصريحات كثيرة جداً للعديد من السياسيين، العسكريين والإعلاميين الإسرائيليين دعت كلها إلى "إبادة غزة وسكانها"، كما قالت الدعوى، من بين هؤلاء:

ـ رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، الذي وصف الحرب (حرب "السيوف الحديدية") بأنها "حرب أبناء النور ضد أبناء الظلام" وقال إنه "يجب محو ذِكر عماليق"؛

ـ رئيس الدولة، إسحق هرتسوغ، الذي قال إن "أمّة بأكملها هناك هي المسؤولة. الحديث عن مدنيين غير واعين وغير ضالعين هو غير صحيح"؛

ـ وزير الدفاع، يوآف غالانت، الذي قال إن "غزة لن تعود كما كانت. سنقضي على كل شي.... لقد أفلتُ كل الكوابح"؛

ـ وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، الذي قال: "عندما نقول إننا نريد إبادة حماس، فنحن نقصد أيضاً أولئك الذين احتفلوا، أيّدوا ووزعوا الحلوى ـ جميعهم إرهابيون وهم أيضاً يجب إبادتهم"؛

ـ وزير الزراعة، آفي ديختر، الذي أعلن أن "هذه نكبة غزة 2023"؛

ـ وزير التراث، عميحاي إلياهو، الذي قال إنه يجب إلقاء قنبلة نووية على غزة؛

ـ وتصريحات كثيرين من السياسيين الإسرائيليين عن أنه "لا أبرياء في غزة".

لكنّ الدعوى الجنوب أفريقية لا تكتفي بكل هذه التصريحات، بل تضيف أيضاً أن إسرائيل "لم تحرّك ساكناً ولم تفعل أي شيء حيال هذه التصريحات: لم تستنكرها، لم تتنصل منها، لم تُقدم أياً ممن أطلقوها إلى محاكمات تأديبية، لم تفرض أية عقوبات سياسية ولم تجرِ بالطبع أية تحقيقات جنائية". ويشكل هذا الادعاء، من وجهة نظر جنوب أفريقيا، ادعاءً متيناً جداً، لأن "حقيقة إطلاق مسؤولين كبار، سياسيين وعسكريين، لهذه التصريحات من دون أن يكون أي رد رسمي عليها، تثبت وجود النية الإسرائيلية". ذلك أن "التحريض على تنفيذ إبادة جماعية"، كما ينعكس في العديد من التصريحات التي أوردتها جنوب أفريقيا، يشكل جريمة في حد ذاته، حتى بدون علاقة بتنفيذ إبادة جماعية. وحقيقة أن إسرائيل لم تتخذ أي إجراء ـ سياسي أو جنائي ـ ضد هذه التصريحات قد تشكل "خرقاً إسرائيلياً لواجب منع التحريض على إبادة شعب".

لإثبات المركّب الفعلي/ العملي (التنفيذ)، قالت جنوب أفريقيا إن إسرائيل نفّذت أعمالاً تتناسب مع تلك التي تشكل إبادة جماعيّة: القتل الجماعي للفلسطينيين في غزة، تدمير منازلهم، طردهم وتهجيرهم فضلاً عن منع إدخال الغذاء والماء والمساعدات الطبية مما أحدث كارثة إنسانية، ناهيك عن التدمير المنهجي للبنى التحتية. كما فرضت إسرائيل تدابير تمنع الولادات الفلسطينيّة من خلال تدمير الخدمات الصحيّة الأساسية الحيوية لبقاء النساء الحوامل وأطفالهن على قيد الحياة. وقالت الدعوى إن هذه الأعمال كلها "كانت تهدف إلى إبادة الفلسطينيين كمجموعة".

في المقابل، اجتهد الفريق القانوني الذي مثّل إسرائيل في تفنيد الادعاءات الجنوب أفريقية وفي محاولة إقناع هيئة المحكمة بأن هذه الدعوى لها "دوافع سياسية انتقامية" من جانب جنوب أفريقيا ضد إسرائيل "انتقاماً منها على عدم مقاطعتها نظام الفصل العنصري (الأبارتهايد) في جنوب أفريقيا"، والذي انتهى في العام 1994، وبأنّ قبول المحكمة للدعوى الجنوب أفريقية سيكون بمثابة ’مكافأة للإرهاب’"!

في محاولة تفنيد المركّب النفسي (النية/ القصد)، ادعى الفريق الإسرائيلي بأن الاقتباسات التي تضمنتها لائحة الدعوى "قد أخرِجت من سياقها" وأنها، في كل الأحوال، صدرت عن "أشخاص ليسوا من بين متخذي القرارات في إسرائيل ـ أعضاء المجلس الوزاري لشؤون الحرب، رئيس هيئة أركان الجيش وقادته الكبار الذي كانوا يحرصون كل الوقت على التأكيد على أن إسرائيل تحارب حماس ولا تقصد المس بالمدنيين الفلسطينيين"! كما ادعى الفريق الإسرائيلي بأن إسرائيل لم تشنّ الحرب إلا "لتدافع عن نفسها، عن حدودها وعن أراضيها وسكانها".

في تفنيد المركّب العملي (التنفيذ)، ادعى الفريق الإسرائيلي أن إسرائيل تحرص على أن جميع عملياتها العسكرية تجري بمرافقة واستشارة قانونيتين لصيقتين وأنها تعمل وفقاً لقواعد وأحكام القانون الدولي، سواء في مجرد الخروج إلى الحرب الدفاعية عن النفس أو خلال العمليات القتالية ذاتها.

النتائج المحتملة

طلبت جنوب أفريقيا من "محكمة العدل الدولية" إصدار قرار حُكم قضائي نهائي يدين دولة إسرائيل بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني، خلال الحرب الحالية ضد قطاع غزة. ولكن، في انتظار صدور قرار الحكم النهائي (وهو ما قد يستغرق بضع سنوات)، طلبت جنوب أفريقيا من المحكمة إصدار "أمر مؤقت" يأمر إسرائيل بوقف عملياتها العسكرية في غزة وضدّها بصورة فورية، وذلك "لحماية الفلسطينيين في قطاع غزة من المزيد من الضرر الشديد وغير القابل للإصلاح". هذا الأمر المؤقت قد يستغرق إصداره أياماً حتى أسابيع، بغض النظر عمّا سيكون قرار الحكم النهائي ـ هل نفذت إسرائيل جريمة الإبادة الجماعية أم لا ـ وهو يتحدد حسب إجابة المحكمة على السؤال التالي: هل تحتّم الظروف الحالية إصدار الأمر المؤقت لحماية الحقوق المثبتة في "اتفاقية منع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية" والمشتقة منها؟

إلى جانب ذلك، قد تُصدر المحكمة أمراً يُلزم الحكومة الإسرائيلية بالتحقيق مع مُطلقي التصريحات المحرّضة على ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية ومعاقبتهم، بموجب الاتفاقية الدولية وكذلك بموجب القانون الإسرائيلي الذي سنّه الكنيست الإسرائيلي في العام 1950 بغية تطبيق اتفاقية الإبادة الجماعية في القانون الإسرائيلي. ونشير هنا إلى أن الإعدام هو العقوبة التي ينص عليها القانون الإسرائيلي المذكور على جريمة تنفيذ الإبادة الجماعية (سواء أدين بها جندي أو مواطن مدني، جرّاء قتله شخصاً، ولو شخصاً واحداً، عن وعي بأنه يتصرف ضمن منظومة تقصد الإبادة الجماعية)، التحريض على إبادة جماعية ومحاولة المشاركة في إبادة جماعية.

تستطيع محكمة العدل الدولية، أيضاً، إصدار أوامر إلى إسرائيل بإتاحة إدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، بتشكيل لجنة تحقيق مستقلة أو بالسماح بعودة الفلسطينيين المهجّرين من شمال قطاع غزة.   

في كل الأحوال، من الواضح أن إسرائيل قد بذلت وستبذل كل ما في وسعها، سياسياً ودبلوماسياً وقانونياً، لتحقيق هدفها الاستراتيجي المتمثل الآن في أن ترفض الحكمة إصدار أي أمر قضائي مؤقت، ثم أن تمتنع عن إدانة إسرائيل بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية وتقرّ بأنها تعمل وفقاً للقانون الدولي.

فإسرائيل، التي أحجمت خلال سنواتها الـ 75 منذ تأسيسها حتى اليوم، عن الاعتراف بأية صلاحية قضائية لأية محكمة دولية لم توافق إلا على الصلاحية القضائية التي نصت عليها اتفاقية الإبادة الجماعية وأفرَدَتها لمحكمة العدل الدولية. وقد فعلت ذلك (وسنت في العام 1950 القانون المذكور لتطبيق الاتفاقية) لأن هذه الاتفاقية قد وضعتها الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية في ضوء الهولوكوست ـ محاولة إبادة الشعب اليهودي! وتأتي "دولة الشعب اليهودي" الآن لتجلس في قفص الاتهام بتهمة ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني! وهذه ليست فقط المرة الأولى التي تجري فيها محاكمة "الدولة اليهودية" بهذه التهمة، بل إذا ما حصل وأدانتها المحكمة، فستكون المرة الأولى التي تُدان فيها دولة ما، أية دولة، بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية ... وستكون هذه "دولة الشعب اليهودي"! بكل ما يترتب على ذلك من تحديات وتداعيات وآثار، سياسية ودبلوماسية وقانونية واقتصادية، ليس على دولة إسرائيل واليهود في العالم فحسب، وإنما أيضاً على الدول الحليفة لإسرائيل، وفي مقدمتها الولايات المتحدة.

ولا بد من الإشارة إلى أن الإجراء في محكمة العدل الدولية قد يؤثر بصورة مباشرة، وإن غير رسمية، على إجراءات محتملة في المحكمة الجنائية الدولية. فإذا ما أقرت محكمة العدل الدولية بأن ممارسات إسرائيل تشكل جريمة إبادة جماعية، فمن شأن هذا أن يدفع المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية إلى فحص إمكانيات اتخاذ إجراءات ضد مسؤولين إسرائيليين، سياسيين وعسكريين، لضلوعهم في هذه الممارسات.

وكما ذكرنا، فإن جميع أحكام محكمة العدل الدولية نهائية وغير قابلة للاستئناف وملزمة. والجهة المخولة صلاحية تطبيق أوامر المحكمة وتنفيذها هي مجلس الأمن الدولي الذي يخوّله الفصلان السادس والسابع من ميثاق الأمم المتحدة صلاحية اتخاذ جملة من العقوبات ضد الدول التي لا تمتثل لأوامر محكمة العدل الدولية أو قراراتها، بما في ذلك العقوبات الاقتصادية وحظر بيع وشراء السلاح وغيرها.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات