تعيد الحرب الإسرائيلية الحالية على قطاع غزة إلى الصدارة قضية "معاقي الجيش الإسرائيلي"، والامتيازات الممنوحة لهم، ودور الدولة في رعايتهم مدى الحياة، والقوانين المتعلقة بهذه القضية. قبل اندلاع الحرب بأشهر، كانت الحكومة الإسرائيلية قد رصدت ميزانية قيمتها حوالى 150 مليون شيكل لتغطية الامتيازات التي يحصل عليها معاقو الجيش، وهي امتيازات مفضلة على من تم تصنيفهم كمعاقين لأسباب مدنية أخرى. ونجم عن الحرب الحالية (التي لم تنته بعد)، وصول إصابات عديدة إلى المستشفيات الإسرائيلية، وبالتالي ستشهد إسرائيل في السنوات القادمة صراعات قانونية واقتصادية، ستحدد من يحق له الحصول على تصنيف "جندي معاق" وبالتالي الحصول على هذه الامتيازات.
تشكل هذه المقالة حقلة جديدة من سلسلة مقالات تناولنا فيها النقاشات الإسرائيلية حول الترتيبات السياسية لليوم التالي للحرب. مع الانتقال من سياسة "احتواء حماس من خلال ردعها" (2007-2023) إلى سياسة "تفكيك قدرات حماس السلطوية والقتالية" (أهداف الحرب الحالية)، تتوقع إسرائيل نشوء فراغ سلطوي في القطاع في اليوم التالي للحرب. أثار هذا الفراغ "المتوقع" نقاشات إسرائيلية حول شكل نظام الحكم المستقبلي الذي تفضله إسرائيل. ولا بد من التأكيد بأن النقاش الذي نستعرضه أدناه يعكس الرؤى الإسرائيلية بناء على ما هو أفضل لإسرائيل من الناحية النظرية، وليس بناء على مؤشرات عملية تشير إلى أرجحية تطبيقه من عدمها.
الأفكار الواردة أدناه هي قراءة في ما صدر عن مجموعة التفكير الإستراتيجي داخل معهد القدس للإستراتيجية والأمن، وهو معهد تفكير (Think Tank) يقدّم توصيات سياسية وأمنية لصناع القرار الإسرائيلي، ويعزز السياسات البراغماتية التي من شأنها الحفاظ على أمن إسرائيل ويرى أنها تؤدي على المدى الطويل إلى ترتيبات سياسية مستقرة. وهو معهد ذو توجهات يمينية تقوم على "أولوية الأمن" في إبرام الاتفاقيات السياسية مع الفلسطينيين.
مقدمة
منذ هجوم "طوفان الأقصى" صبيحة السابع من أكتوبر المنصرم، سيطرت فرضية "انهيار التصور" الذي كان قائمًا ما قبل السابع من أكتوبر على كتابات ونقاشات السواد الأعظم من المحللين والنخب الإعلامية والسياسية المناهضة لبنيامين نتنياهو، وبحسب هذه الفرضية، فإن ملابسات الهجوم لا تُعبّر عن فشل استخباري وأمني فقط، وإنما عن فشل وانهيار كامل لـ "التصور" الأمني- السياسي الذي وضعه وأرسى أسسه المركزية نتنياهو بهدف منع إقامة دولة فلسطينية، والاستمرار في إدارة الصراع وليس حلّه (حل الصراع) أو حسمه. هذا "التصور" الذي سبق أن تم تسليط الضوء عليه في مساهمات سابقة نشرها مركز "مدار"، كان يقضي بضرورة إضعاف السلطة الفلسطينية (مع الإبقاء عليها حيّة لكن ليست قوية)، مقابل تقوية حركة حماس (مع توجيه ضربات عسكرية من خلال ما يُعرف بالحرب بين الحروب لمنع تعاظم قدراتها العسكرية).
في هذه المقالة (الخامسة في هذه السلسلة) نواصل عرض المفاهيم المركزية الأبرز التي شكلت قاعدة الرؤية الأمنية ـ السياسية الإسرائيلية التي تُجمع قطاعات واسعة جداً في المجتمع الإسرائيلي على حقيقة أنها مُنيت بالفشل الذريع، بل بالانهيار التام، ويوماً بعد يوم تتسع وتتعالى دائرة الأصوات الداعية إلى إعادة النظر فيها، بعد الاجتهاد بداية في تحديدها بصورة عينية ودقيقة، انطلاقاً من القناعة بأن تحديد تلك المفاهيم هو الخطوة الأولى التي لا مناص منها في مسيرة إعادة ترميم ما ينبغي ترميمه في العقيدة السياسية والأمنية الإسرائيلية، ثم في إعادة هيكلة الأجهزة، المنظومات والأذرع المكلفة بتطبيق هذه العقيدة في المستقبل.
الصفحة 83 من 883