المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • منوعات
  • 5291
  • أنس أبو عريش

(*) الكتاب: "اختراع أرض إسرائيل"
(*) المؤلف: شلومو ساند
(*) الناشر: المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار، 2013. ترجمة: أنطوان شلحت وأسعد زعبي (314 صفحة من القطع المتوسط)

البروفسور شلومو ساند هو أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة تل أبيب، تركزت أبحاثه التاريخية حول القومية، والتاريخ الثقافي. ولد ساند في النمسا عام 1946 لأبوين يهوديين نجوا من الهولوكوست. هاجر مع والديه إلى فلسطين عام 1948، ثم تخرج من جامعة تل أبيب، ثم أكمل دراسة الماجستير والدكتوراه في فرنسا.

 

إن تناول خلفية الكاتب هذه توضح لنا إحدى نقاط قوة هذا الكتاب، وهي أن مؤلفها يهودي مختص في الدراسات التاريخية، وبالتالي فهو يمارس عملية السرد التاريخي بالنقد والتحليل، وربط الأحداث التاريخية مع النصوص الدينية. إن مثل هذه التركيبة ستكون ذات قدرة تعبيرية أكبر، وسيكون لها صدى أوسع في الأوساط الأكاديمية الإسرائيلية في ظل التغييب الكامل للرواية الفلسطينية.

تنبع أهمية هذا الكتاب من كونه يشكل انقلاباً على الأساطير التي اختلقتها الصهيونية حول أرض إسرائيل بوصفها الحق التاريخي التي وعدهم بها الرب، وبذلك يمكن القول إن ساند وبالأدلة المستقاة من التناخ يعيد النظر في عدد كبير من أكاذيب الحركة الصهيونية المتعلقة باختراع أرض إسرائيل وبناء الأساطير حولها عبر إخضاع هذه المسلمات إلى "المحاكمة التاريخية الصارمة" كما يرد في تقديم الكتاب.

إن تفكيك مبدأ الحق التاريخي والروايات القومية المرافقة له التي كانت تهدف إلى منح الشرعية الأخلاقية للاستيلاء على الحيز الجغرافي، كان من أهم أهداف هذا الكتاب بما يشكل خطوة نقدية تتعلق بتاريخ الصهيونية التي حاولت إعادة إحياء اليهودية المنهكة في نفوس اليهود حول العالم.

ويكشف ساند بذلك مجموعة من الحقائق التي استخدمتها الحركة الصهيونية في سياق تبريرها لاستعمار أرض فلسطين عبر استخدام الديانة اليهودية بهدف اقناع اليهود بأن أرض فلسطين هي الأرض التي تركها أجدادهم اليهود عنوة قبل ألفي سنة، وبأن لهم الحق في العودة إليها، وتحريرها من الفلسطينيين، وقد احتاجت هذه الحركة العلمانية منذ بداية مشروعها الاستيطاني إلى حلة دينية للعثور على "أرض الآباء"، ولحفظ وصيانة الحدود الجغرافية للمشروع الاستعماري.

وبالتالي ينطلق هذا الكتاب من أن الحركة الصهيونية قد استخدمت المصطلح الديني "أرض إسرائيل" الذي ظهر على يد المسيحية، وحولته إلى مصطلح سياسي لا تعرف إلى الآن ما هي حدوده، ولا ما هي تطلعاته المستقبلية. ويسهب ساند في هذا الكتاب في شرح ظهور مصطلح أرض إسرائيل عبر التاريخ، وبدايات تغلغله في أوساط اليهود، مروراً باستغلاله من قبل الحركة الصهيونية، وانتهاءً بتحوله إلى مصطلح جيو سياسي يعبر عن مساحة معينة من الأرض تعترف بها الأمم المتحدة.

وكيهودي يشرح ساند عبر التعمق في الأدبيات اليهودية كل ما يتعلق بنشوء هذا المصطلح مبتدئاً بالقول إن أرض فلسطين كانت تسمى "أرض كنعان"، لكن الاسم تغير لاحقاً إلى أرض يهودا قبل خراب الهيكل الثاني. أما المصطلح الذي استخدمته الصهيونية فقد ظهر في الميشناه لكنه لم يكن مطابقاً للبلاد التي منحها الإله لإبراهيم، ولم يكن يتضمن مناطق الخليل وبيت لحم والقدس. في الوقت ذاته استخدم التناخ الاسم الفرعوني للمنطقة وهو أرض كنعان.

أما مصطلح أرض إسرائيل فقد ظهر في الأدبيات اليهودية بعد أن غيرت الامبراطورية الرومانية اسم المكان من يهودا إلى فلستينا (أو سورية فلستينا) وذلك عقب التمرد اليهودي على الرومان عام 132 ميلادي. ويوضح ساند أنه هذا المصطلح ظل إلى وقت بعيد مصطلحاً دينياً يعبر عن قداسة هذا المكان في عقيدة اليهودي، لكن اليهود لم يسعوا في ذلك الوقت –خلافاً لوثيقة قيام دولة إسرائيل- إلى الهجرة إليه أو السكن بالقرب منه، بل على العكس من ذلك يبين ساند أن اليهود تمسكوا بالمنفى مكتفين بالتوق إلى الأرض المقدسة، وبذلك أسست الديانة اليهودية هوية مؤمنيها على أساس الوعي الذاتي بكونهم شعبا مختارا لا يرتبط بأي أرض محددة (ص127).

ويتابع المؤلف تدعيم وجهة نظره بالمعلومات التاريخية بالقول إنه بعد هدم "الهيكل" عام 70 ألغى اليهود فريضة الحج إلى القدس، وحتى بعد سيطرة الرومان على مدينة القدس عام 135 ميلادي وطمسهم معالم المدينة اليهودية وتحولها إلى مدينة مسيحية مقدسة، لم تكن هناك أية محاولات لأتباع الرابانية للحج إلى المدينة. إن فكرة الحج إلى القدس لتكفير الذنوب لم تكن قد تبلورت بعد في الفكر اليهودي، واستمرت الحال على ذلك على مدار أكثر من ألف عام، إذ بدأت فكرة الحج بالظهور في بداية القرن الثالث عشر. وحتى حين ظهرت هذه الفكرة لم تكن لأسباب دينية ولا قومية، بل بسبب المنافسة مع المسيحية على ملكية العهد القديم والأماكن المذكورة فيه. إن هذه المعلومات التي اقتبسها ساند من كتبٍ هامة كتبت تاريخ فلسطين في تلك الفترة توضح أن المخيلة اليهودية لم تكن يوماً تدعي ملكية جماعية لهذه الأرض من قبل اليهود، ولا وجوب الحج إليها.

وفي السنوات التالية لظهور فكرة الحج إلى القدس لم يبد أكبر الحاخامات اليهود رغبة كبيرة في البقاء في القدس، إذ يذكر الكتاب عدداً من المجموعات الرابانية التي وصلت القدس ثم عادت إلى الخارج، ومن بينهم الرامبام موسى ابن ميمون أحد أهم شخصيات اللاهوت اليهودي في القرون الوسطى الذي فضل أن ينتقل إلى مصر بعد وصوله إلى فلسطين.

ويتابع ساند إيراد الأدلة التوراتية التي تثبت أن اليهود الأوائل كانوا مهاجرين وغرباء كلياً عن البلاد التي أتوا إليها، فموسى نبي اليهودية الأول، وإبراهيم أبو الأمة اليهودية وأبناؤه وأحفاده كانوا من المهاجرين إلى أرض كنعان، ولم يقيموا فيها لفترات طويلة، بل على العكس فضلوا الانعزال عن السكان المحليين وعدم الاختلاط بهم لأنهم يدينون بالوثنية، إضافة إلى ذلك حرّم اليهود على أنفسهم الزواج من الكنعانيات، وأمروا من تزوج منهم بتطليق زوجاتهم. وبذلك يكون الكتاب قد استطاع استعراض تاريخ الأدبيات اليهودية على مدار 1700 عام الذي لم يتحدث عن وجوب الحج إلى المدينة المقدسة أو ضرورة الإقامة فيها.

الدلالات التاريخية والمنطقية

يسوق الكاتب بعد ذلك الدلالات التاريخية والمنطقية لتسلسل الأحداث المتعلقة بنشوء مصطلح أرض إسرائيل خدمة لأهداف استعمارية، أنشأتها حاجة الصهيونية إلى خلق مكان يسهم في تحقيق أهدافها، وبذلك يحاول ساند أن يقطع الطريق على من يدعي بأن هذه الأرض كانت أرض الأجداد، ولليهود الحق في العودة إليها بسبب وجودهم التاريخي قبل ألفي عام. ويستخدم في محاولاته هذه لإقناع القارئ الحجج والبراهين المنطقية وبمنهج علمي، فعلى سبيل المثال يتساءل إن كان من المنطقي تأييد مطالب "مفترضة" للعرب والمسلمين اليوم بالهجرة والاستيطان في شبه الجزيرة الإيبيرية بحجة أن أجدادهم العرب المسلمين طردوا منها إثر محاكم التفتيش في العام 1492. وبرأيي أن هذا يوصلنا أيضاً إلى الفكرة القائلة بأن اليهود قد استغلوا تعرضهم للمجازر في أوروبا من أجل تبرير استعمارهم في فلسطين، مع العلم أن محاكم التفتيش مثلاً استهدفت اليهود والمسلمين على حد سواء في تلك الفترة، لكن الصهيونية حاولت أن تغتنم هذه الفرصة لتقنع العالم بأن لليهود قضية مختلفة تستدعي إنشاء دولة خاصة بهم بما يضمن حلاً لمشكلتهم.

ويتابع البروفسور ساند تشكل مفهوم القومية الذي ظهر في أوروبا وكان أحد أسباب ظهور الصهيونية التي عملت على خلق الشعور بالقومية اليهودية، واستملاك أرض بهدف وهبها لهذه القومية، وبما أن هذه الأرض لم تكن واضحة المعالم فقد اختلفت الروايات الصهيونية على تخيل حدودها الاقليمية، فقد امتدت بعضها لتصل إلى مساحات شاسعة من الضفة الشرقية لنهر الأردن (المملكة الأردنية حالياً)، وإلى صيدا في لبنان وإلى مناطق في جنوب الجولان السوري وشبه جزيرة سيناء المصرية. وقد أطلقت الصهيونية اسم أرض إسرائيل على كل تلك المناطق التي شملتها خرائطهم وآمالهم ولم تكتفِ بالحدود التي سيطرت عليها بعد العام 1948 (ص238- 244).

لقد نجح المؤلف في أن يزود وجهة نظره بالأدلة والمعلومات الموثقة المستقاة من مصادر علمية مختلفة باللغتين الإنكليزية والعبرية، بما يشمل الكتب والمقالات والصحف اليومية. وباستخدام لغة جزلة تخرج عن طور الجمود المتبع عادة في شرح وتأويل النصوص الدينية استطاع ساند أن يحافظ على حبك قصته وآرائه بطريقة مقنعة وجذابة تغطي مختلف أوجه القضية التي يناقشها وتفرعاتها.

تاريخ قرية الشيخ مونس

في نهاية الكتاب يستعرض المؤلف تاريخ قرية الشيخ مونس التي أصبحت أثراً بعد عين، بعد أن قامت على أراضيها تل أبيب، التي سعت بدورها إلى طمس كل ما يتعلق بها من آثار، وطالب بتعليق لافتة على مدخل الجامعة تتحدث عن تاريخ القرية التي اختفى أصحابها في المنافي.

إن الهدف الذي يسعى إليه ساند من خلال توظيفه قصة قرية الشيخ مونس في سياق استعراض الحقائق التاريخية، هو أن يكشف للقارئ عمليات إنتاج الذاكرة، وآلية هندسة الثقافة الحضارية للمجتمع الإسرائيلي في سعيه للقضاء على أية ذاكرة تتعلق بأصحاب هذا المكان الأصليين، وإحلال المجتمع الجديد بمهاجريه على هذا المكان، بما يضمن النفي الكامل للرواية العربية. وبذلك يكون ساند قد غرد خارج السرب الذي يسير به كثير من زملائه في قسم التاريخ في جامعة تل أبيب. فالمفترض برأيه أن يكون علماء التاريخ والآثار صادقين فيما يتعلق بمجال معرفتهم، وموضوعيين إلى الحد الذي يدفع بهم إلى الاعتراف على الأقل بما حدث في العام 1948 من قتل وتهجير بحق السكان الأصليين.

وبالرغم من كل نقاط القوة التي استعرضتها آنفاً إلا أن هناك نقطة ضعف واحدة في هذا الكتاب تتمثل في الالتباس الذي يقدمه شلومو ساند فيما يتعلق بالحلول السياسية للقضية الفلسطينية، إذ يقدم المؤلف تصوره القاضي بأن حل الدولتين هو الحل الأقرب للتحقق كحل سياسي، دون أن يدرك أن مؤشرات الواقع السياسي لا تشير إلى أي أمل في إمكانية تحقق مثل هذا الحل، إلى جانب عدم تقديمه أي مقترحات تخص إعادة الحقوق التي اعترف بأن المشروع الصهيوني سلبها من السكان الأصليين، فاكتفى مثلاً بالمطالبة بوضع لافتة على مدخل الحرم الجامعي لجامعة تل أبيب دون استعداده لتقديم تنازلات أكثر بحجة وقوعه تحت ضغط الأمر الواقع. وبالرغم من أن هذه الآراء تشكل انقلاباً على التيار الصهيوني السائد، إلا أنها ليست كافية في مجال استعادة الفلسطينيين حقوقهم المسلوبة.

مهما يكن، يظل هذا الكتاب ذا قيمة علمية وتاريخية منطقية مهمة، ويمكن أن يساعد الباحثين في حقل الدراسات اليهودية والتلمودية، إلى جانب دراسة موضوعات هامة في مراحل مفصلية في التاريخ اليهودي، كما يمكن أن يساعد هذا الكتاب الباحثين في مجال دراسات تاريخ القدس.

المصطلحات المستخدمة:

الصهيونية

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات