المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • منوعات
  • 1789

في الوقت الذي يتجول فيه وزير التربية والتعليم الإسرائيلي، نفتالي بينيت، هذه الأيام مزنرا بمسدس حول خاصرته، مستعداً لقتل حامل السكين العارض وكأن لا حراس مرافقين له، تعدّ وزارته الطلاب لمواجهة ما تسميه "موجة الإرهاب" الحالية بصورة ليست أقل غرابة.

فقد نشرت الوزارة مؤخرا عددا من الوثائق التي وضعتها جهات مختلفة، من بينها طاقم التربية المدنية، مديرية المجتمع والشباب، مديرية التربية الاستيطانية، مديرية الخدمات النفسية ـ الاستشارية والمديرة العامة للوزارة، والتي يفترض بها (الوثائق) أن تشرح للمدراء والمعلمين سبل مساعدة الطلاب في الوضع المتوتر الراهن. أما القاسم المشترك لهذه الوثائق فهو غياب أي تطرق إلى السياق الأوسع، التاريخي، الذي يمكن أن يفسر الأحداث الدامية الأخيرة.

إحدى هذه الوثائق، بعنوان "ربابنة في بحر هائج ـ حوار في وقت الأزمة"، تتعامل مع مدراء المدارس وكأنهم ربابنة يتعين عليهم قيادة سفينة التربية وتوجيهها في المياه الهائجة، وتتماشى تماما مع الوصف الشائع في وسائل الإعلام لسلسلة الأحداث الأخيرة بأنها "موجة إرهاب".

طبقا لهذا الوصف، فإن أعمال الطعن وإطلاق النار التي ينفذها فلسطينيون في المناطق المحتلة وفي داخل "الخط الأخضر" هي أشبه بظاهرة طبيعية بحرية، كأنها عاصفة إعصار أو موجة تسونامي، هبطت فجأة من السماء الزرقاء الصافية وتهدد بإغراق المسافرين الأبرياء الذين يستجمون ويتسفعون على ظهر السفينة.

منذ ما يقرب من خمسين سنة، يتعرض السكان الفلسطينيون في المناطق إلى اضطهاد متواصل، يشمل بين ما يشمله أيضا عمليات قتل مباشر ينفذها جنود ومستوطنون، مصادرة أراض، سلب حقوق الإنسان الأساسية وإذلال يومي، ولا تزال وزارة التربية والتعليم تصر على عدم رؤية العلاقة بين عنف الاحتلال وردات الفعل العنيفة التي تصدر عن ضحاياه.

وتبزّ المديرة العامة للوزارة، ميخال كوهن، الجميع في رسالتها التي تكتب فيها: "لمزيد أسفنا، نستيقظ كل صباح ليوم إرهاب آخر". تجاهل السياق الواسع المتمثل في ممارسات دولة إسرائيل في المناطق هو وحده القادر على رسم الصورة التي تقابل بين نوم ليلي هادئ وخامل (نومنا نحن) ونور النهار الذي يجلب معه عنفا عشوائيا مزعوما (من طرفهم هم).

كذلك الحل للضائقة التي يشعر بها الطلاب ـ "تهوية المشاعر" ـ يدل على هروب الوزارة من الواقع غير المريح. فالوثيقة التي نشرتها مديرية الخدمات النفسية ـ الاستشارية تقترح إجراء حوار عاطفي وطرح عدد من الأسئلة على الطلاب، مثل: "أين "ضبطكم" النبأ؟ بماذا فكرتم حين سمعتم عن أعمال الإرهاب؟ بماذا شعرتم حين سمعتم عنها؟ أية مشاعر أو ردود فعل تلاحظون لديكم منذ سماعكم بهذه الأعمال؟".

التركيز على المشاعر والأحاسيس فقط يتيح لرجال التربية والتعليم البقاء في المجال الضيق والمقلص الخاص بالفرد ووجهة نظره، دون المجازفة والانتقال، حاشا لله، إلى المجال الخطير ـ الاجتماعي والسياسي.

وحتى حين تظهر مؤشرات انتقال كهذا، فإنه يبقى مجرد كليشيه أجوف. فالقول، مثلا، إن "أعمال الإرهاب هي أعمال وحشية، غير قانونية، غير إنسانية وحكومة إسرائيل، الجيش والشرطة تعمل كل الوقت، أياما وليالي، لمنع هذه الأعمال" يتجاهل الأسباب الحقيقية التي ولّدت الإرهاب، ثم إن تحديد "البدء ببث رسائل أمل وتوقع حل النزاع" كواحد من أهداف المحادثة في الصفّ المدرسي لا يعدو كونه خدعة، بالنظر إلى دور دولة إسرائيل المركزي في تعميق النزاع وتعقيده.

هذه الردود من جانب وزارة التعليم تُبرز ظاهرتين بعيدتيّ المدى يبدو ظاهريا وكأن لا علاقة بينهما: إنكار الاحتلال و"نَفسنة" جهاز التعليم.

وعلى الرغم من أن الحديث يدور عن وضع تمتد جذوره إلى أحداث وقعت قبل 48 عاما، ولذا فقد أصبحت جزءا من التاريخ، إلا أن الاحتلال هو الحاضر الغائب الأكثر أهمية في جهاز التعليم الإسرائيلي. فكتب التدريس تشير، حقا، إلى حرب الأيام الستة (حرب حزيران 1967) ونتائجها الفورية، إلا أن صمتا صاخبا يسود حيال كل ما حدث في المناطق المحتلة منذ ذلك الحين. وهذا هو الحال، أيضا، في تدريس مادة المدنيات التي يجيدون فيها الحديث عن "التصدعات" المختلفة التي تقسّم المجتمع الإسرائيلي ـ بما في ذلك الصدع اليهودي العربي ـ لكنهم ينسون، لسبب ما، الصدع الأكبر، بين مواطني الدولة الشركاء في السيادة وبين الفلسطينيين القابعين تحت حكم عسكري.

لم تكن عبثية محاولة يولي تامير، إبان توليها منصب وزيرة التربية والتعليم، إعادة الخط الأخضر إلى خرائط كتب التدريس، لكن فشلها لم يكن سوى دليلا آخر على قوة قوى الإنكار.

وحتى في برامج التعليم غير الرسمي التي تعالج مسألة المناطق، مثل "الجبل كمهد للأمة"، يكثر الانشغال بـ"جذور" شعب إسرائيل التوراتية العميقة في يهودا والسامرة (الضفة الغربية) وسط تجاهل تام للسكان المقيمين هناك راهنا.

ويضاف إلى هذا، أيضا، التحول النفسيّ الذي حصل في جهاز التعليم خلال تسعينيات القرن الماضي والذي شكل جزءا من عملية الخصخصة النيو ليبرالية التي اجتاحت دولة إسرائيل.

وطبقا لما يقوله عالم الاجتماع نيسيم مزراحي، في مقال نشره في مجلة "ألبايم (ألفان)" (العدد رقم 34 في موضوع التعليم، 2009)، فإن انتشار الطرائق التعليمية المبنية على المنطق النفسيّ تتيح، منذ ذلك الوقت، التركيز على الفرد، على مواهبه، احتياجاته وإنجازاته.

وتؤدي هذه الطرائق إلى تجاهل السياقات الإثنية أو الطبقية التي نشأ فيها وتربى ذلك الفرد نفسه وتعيد إليه هو ـ هو فقط ـ سرّ نجاحه أو فشله. أما الاستمرار "الطبيعي" لهذا الميل وهذا المنحى فهو معالجة "صدمات" الطلاب من دون الخوض في السؤال عن سبب حصولها، كما حدث في حالة أبناء المستوطنين الذين تم إخلاؤهم من "غوش قطيف" (قطاع غزة)، والذين كانوا مقتنعين بأنهم تعرضوا لحدث يذكّر بكارثة (هولوكوست) ثانية.

المبرر الذي تستخدمه وزارة التربية والتعليم لإدارة ظهرها للسياق الواسع هو الحاجة إلى تجنب الخوض في السياسة. هذا الخوف من السياسة يمكن اكتشافه، أيضا، في الوثائق المختلفة التي نشرتها الوزارة في أعقاب "موجة الإرهاب".

هكذا، مثلا، تذكر إحدى الوثائق خوف أولئك القيمين على إدارة النقاش في الصف التدريسي من "مغبة زلة اللسان والإدلاء بتصريح سياسي". وليس صدفة، أيضا، أن تلك الوثيقة نفسها تحيل إلى منشور المديرة العامة للوزارة بعنوان "توجيهات عامة بشأن القيود على النشاط السياسي ـ الحزبي من جانب العاملين في سلك التعليم". ذلك أن المجال السياسي يعتبر "تابو" يُحظر على المعلمين، جميعا، الاقتراب منه، لكنه لم يصبح كذلك إلا لأن قادة الوزارة، وفي مقدمتهم الوزير نفسه، احتكروا لأنفسهم هم، وحدهم، حق الإدلاء بتصريحات ومواقف سياسية.

إن إنكار الاحتلال من جهة، والتركيز على المشاعر وحدها من جهة أخرى، هما مجرد نموذجين فقط عن كون مناهج التدريس، كتب التدريس والتعليم غير الرسمي مشبعة بالسياسة. وحين يعود نفتالي بينيت ويدعي بأن "الشعب لا يمكن أن يكون محتلا في وطنه" فإنما هو يعبر، في الحقيقة، عن سياسة وزارته، الجوهرية والأساسية. فهل ثمة ما هو سياسي أكثر من هذا؟؟

__________________________
(*) أستاذ تاريخ التربية في جامعة تل أبيب وعضو سكرتارية "فوروم التعايش في النقب للمساواة المدنية". نقلا عن موقع "هعوكتس" الإلكتروني. ترجمة خاصة.

المصطلحات المستخدمة:

الخط الأخضر, ليلي, نفتالي بينيت

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات