يدور في الآونة الأخيرة صراع مرير داخل الطائفة اليهودية الأرثوذكسية، في الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل، حول تأهيل نساء لمنزلة الحاخامية، وسط رفض تام لهذا التأهيل من جانب حاخامين محافظين وتأييد آخرين "منفتحين" ينتمون إلى تيار مستحدث يطلق عليه اسم "الأرثوذكسية العصرية".
وذكرت صحيفة "هآرتس" في تقرير تناولت فيه هذا الصراع، أن رئيس "ييشيفاة حوفيفي توراة" (المعهد الديني عشاق التوراة) في نيويورك، الحاخام دوف لينزر، أعلن من خلال شبكة الانترنت، قبل أسبوعين، أنه سيتناول في موعظته، التي ألقاها يوم السبت قبل الماضي، موضوعا بعنوان "هل كانت رفقة نسوية؟"، في إشارة إلى الشخصية التوراتية رفقة زوجة إسحق ابن إبراهيم الخليل.
ونشر لينزر نص موعظته هذه ي صفحة المعهد الديني في "فيسبوك" وإلى جانبها عبارة "We can do it"، رمز الحركة النسوية.
وإلى جانب رسائل كتبها حاخامون ومقالات في الصحف والمواقع الالكترونية اليهودية والنقاشات في شبكات التواصل الاجتماعي، تناولت مواعظ الحاخامين في الكنس في الولايات المتحدة قرار هيئتين حاخاميتين مركزيتين أميركيتين هاجمتا حاخامين من الجناح الليبرالي وبينهم حاخامو "عشاق التوراة".
ووفقا للصحيفة فإن هذين القرارين يدفعان "الجالية الأرثوذكسية العصرية"، الثرية والتي لديها علاقات سياسية متشعبة، خطوة أخرى باتجاه الانشقاق على خلفية دينية. فقد قرر مجلس حاخامي أميركا، قبل ثلاثة أسابيع، بأغلبية الأصوات عدم الاعتراف بتأهيل نساء كحاخامات ومنع تشغيلهن في مناصب قيادة دينية. وقالت الصحيفة إن هذا القرار يعني تمرير خط في وسط الجالية اليهودية الأرثوذكسية.
ولفتت الصحيفة إلى أن الكثيرين في الجالية الأرثوذكسية يعرفون الحدود غير الدقيقة بين الجناح المركزي للأرثوذكسية العصرية والجناح الليبرالي، "لكن الأفراد يتخذون موقفا عندما تُرسم الحدود، وبضمنهم أولئك الذي يقفون عادة على الحياد".
وتصاعدت حدة التوتر داخل هذه الجالية اليهودية مؤخرا، رغم أن هذا التوتر سائد منذ عدة سنوات. وقد تصاعد الآن بعد أن منحت "ييشيفاة مهرات" في منهاتن في نيويورك، التابعة لـ"عشاق التوراة"، شهادات تأهيل لمنصب حاخام لست نساء. كذلك تم في الشهور الأخيرة منح شهادات تأهيل كهذه لأربع نساء من إسرائيل. كما أن الوضع ليس هادئا في أوساط هذه الجالية في لندن، بعد أن استأجر كنيس مركزي خدمات ناشطة نسوية متدينة، تدعى دينا برافر، وعينها في منصب تربوي هام. وعقب على ذلك الحاخام الأكبر في بريطانيا، أفرايم ميرفيس، بتحذير رؤساء الجالية من تعيين "متحدثين غير لائقين" وألمح إلى برافر، التي تدرس من أجل الحصول على شهادة تأهيل في الحاخامية في موازاة عملها الجديد.
وأشارت "هآرتس" إلى أن عمليات التأهيل هذه على أيدي حاخامين أرثوذكس، ومنح شهادات بعد سنوات من التعليم، تجري بصورة خاصة ومن دون أن يتوقع أحد أن يتم الاعتراف بها حاليا من جانب الحاخامية الرئيسية الإسرائيلية أو من جانب منظمات الحاخامين الكبرى في أميركا وبريطانيا.
ورغم أن رئيس مجلس حاخامي أميركا، الحاخام شالوم باوم، أعلن في تصريح لوكالة الأنباء اليهودية JTR أن لم يؤيد قرار المجلس ورأى أنه لا حاجة لاتخاذه حاليا، إلا أن أغلبية أعضاء المجلس أيدوا قرار عدم الاعتراف بتأهيل النساء للحاخامية. وجاء في قرار المجلس أن "أعضاء مجلس حاخامي أميركا، الذين يتولون مناصب في المؤسسات الأرثوذكسية، لن يؤهلوا نساء كحاخامات أرثوذكسيات، أو السماح بمنحهن لقبا يلمح إلى تأهيل لحاخامية على أيدي من يدرس تعاليم دينية في مؤسسة أرثوذكسية".
وأدى هذا القرار إلى تصعيد النقاش داخل الجالية الأرثوذكسية العصرية، لكن الحاخام يسسخار كاتس، من "عشاق التوراة"، رأى أن الوضع لن يقود إلى انشقاق، أو ليس الآن على الأقل. وقال إنه "لا أصف ذلك انشقاقا، فهذا نوع من التوضيح. وهناك من لم يؤيدوا أحد الجانبين أبدا. والوضع الآن أصبح أصعب قليلا. وعلى الأفراد أن يتخذوا موقفا الآن. وبرأيي، سيتجه المتطرفون نحو اليمين، وهذا سيبقي فراغا في الوسط، وإذا أدرنا الأمور بشكل صحيح، ونجحنا في إقناع الجمهور، الذي يشكك بنا حاليا وبحق، بأننا نعمل في الواقع من أجل استمرارية الأرثوذكسية العصرية، فإننا سنأخذ مكاننا في الوسط".
لكن رئيس "عشاق التوراة"، ليزنر، ذهب أبعد من ذلك، وكتب في صفحته على "فيسبوك" أنه "لا يمكننا الاستمرار في سلب 50% من قدرات جاليتنا، والصوت المميز الذي يتعين أن تحضره النساء كقياديات دينية. كذلك، في الخلاصة، يجب أن يتوقف الرجال عن القول للنساء ما الذي بإمكانهن أو ليس بإمكانهن فعله". كذلك وقع ليزنر على عريضة تؤيد تولي النساء مناصب قيادية دينية في الجالية. كما تتردد في الانترنت أغنية احتجاجية صدرت من داخل الجالية ضد قرار مجلس حاخامي أميركا وحظي بـ11 ألف مشاهدة.
ووصف مدير عام جمعية "عيتيم" الإسرائيلية، الحاخام الدكتور شاؤول برفر، بعد زيارة لنيويورك، الوضع داخل الجالية الأرثوذكسية العصرية بالقول "هذا عالم كان يعيش سوية في الماضي، وكان عالما جميلا، واليوم أخذ يتفكك. ربما ينشأ من ذلك عالم أفضل، لكني أتساءل ما الذي يحدث للأرثوذكسية، التي كان بإمكان الجميع فيها احترام وفهم الآخر؟ يبدو أن العالم الأرثوذكسي يعاني من نجاحه إذا كان يسمح لنفسه بأن يستثمر هذا الكم من الموارد في نقاشات داخلية. وأنا لا أقلل من أهميتهم، لكن التحديات الحقيقية هي الانصهار، والانفصال عن دولة إسرائيل وكذلك انعدام الاستقرار الاقتصادي لدى الكثيرين في هذه الجالية".
وفي الوقت الذي تبدو فيه هذه النقاشات أنها داخل من يطلقون على أنفسهم اسم الأرثوذكسية العصرية، فإن ما يصعد النقاشات والخلاف بشكل أكبر بكثير هو أن الحريديم، وهم اليهود الأرثوذكس المتعصبون جدا، قرروا التدخل في هذا الخلاف. وبعد ثلاثة أيام من صدور قرار مجلس حاخامي أميركا، أعلن "مجلس كبار التوراة" التابع لحركة "أغودات يسرائيل" في أميركا أنه منذ الآن لن يعترف بالحاخامين الرجال في الجناح الليبرالي في الأرثوذكسية العصرية. وجاء في بيانه أنه "من واجبنا الإعلان على الملأ أنه بسبب إخراج أنفسهم عن القاعدة، فإن هذه الحركة ليست جزءا من اليهودية التوراتية ولا توجد أية صلاحية للقب حاخام الذي يمنح من مؤسساتها".
ورغم عدم وجود أي تأثير للنقاش حول النساء في منصب حاخامات في إسرائيل، إلا أن الاعتقاد هو أن بيان الحريديم من شأنه أن يؤثر على الحاخامية الرئيسية الإسرائيلية، الحريدية. ووفقا للصحيفة فإن الحاخامية الرئيسية الإسرائيلية نكلت في السنوات الأخيرة بحاخامين من الجناح الليبرالي في الأرثوذكسية العصرية، وهما الحاخام أفي فايس مؤسس تيار "الأرثوذكسية المفتوحة"، وحاخام مستوطنة "إفرات"، شلومو ريسكين.
ويتعين على الحاخامية الرئيسية الإسرائيلية، التي تنظر في مئات الملفات سنويا المتعلقة باستيضاح يهودية مهاجرين إلى إسرائيل وتسجيل زواج يهود في العالم، أن تعتم على حاخامين من خارج إسرائيل. ولهذا السبب لديها قوائم سرية لا توافق على كشفها أبدا. والحاخامية الرئيسية تعتمد على قسم من الحاخامين وتعتم على قسم آخر. ومن شأن بيان "أغودات يسرائيل" أن يعرض عددا متزايدا من حاخامي الأرثوذكسية العصرية لعدم الاعتراف من جانب الحاخامية الرئيسية الإسرائيلية.