قال تقرير جديد لـ "معهد سياسة الشعب اليهودي"، التابع للوكالة اليهودية- الصهيونية، إن طبيعة علاقات أبناء الديانة اليهودية في العالم بإسرائيل محكومة لتوجهات كل واحدة من المجموعات والمنظمات، وكذلك التيارات المنتشرة بين اليهود. وأعطى التقرير مثالا واضحا بقوله إن علاقة المجموعات ذات التوجهات الليبرالية بإسرائيل وتأييدها لسياساتها أضعف من المجموعات ذات التوجهات المحافظة. ونذكر، بناء على تقارير أخرى، أن غالبية يهود العالم تتبنى توجهات ليبرالية أو بعيدة عن الديانة وعن المؤسسات الصهيونية.
و"معهد سياسة الشعب اليهودي"، أو حسب تسميته السابقة "معهد تخطيط سياسة الشعب اليهودي"، بدأ عمله في اطار الوكالة الصهيونية في العام 2004، ويرأس مجلسه الإداري، في السنوات الأخيرة ، المستشار السابق للرئيس الأميركي دينيس روس. واضطر المعهد مؤخرا الى اسقاط كلمة "تخطيط" من اسمه، نظرا لما خلقته من حساسية لدى المنظمات اليهودية، التي ستبدو وكأن المعهد، كذراع للوكالة الصهيونية، هو من يحدد لها نهجها المستقبلي. وتنبع أهمية المعهد من حقيقة أن حكومات إسرائيل تبنت الكثير من تقاريره وتوصياته في السنوات الأخيرة.
ويصدر المعهد سنويا تقارير عن أوضاع اليهود في العالم، مع تركيز خاص على علاقاتهم بإسرائيل، إضافة الى تقديم تقارير متخصصة، وخاصة في المواضيع الديمغرافية، إلا أنه أصدر في العام الجاري تقريره السنوي بأجزاء تخصصية، ومنها هذا التقرير الذي يركز فيه بشكل خاص على علاقة اليهود الأمريكان بإسرائيل. وتمهيدا لتقارير بهذا المستوى، يعقد المعهد ندوات وطاولات مستديرة عديدة، لكنه يعترف في هذا التقرير بأن المسح لا يشمل توجهات يهود العالم بالضرورة، إذ أن من يتعاطى مع دعوات المعهد غالبا هم أولئك المعنيون ببلورة المجتمعات اليهودية في أوطانهم والمشاركون في المؤسسات الصهيونية والدينية في الدول المختلفة. بمعنى أن من هم بعيدون عن تلك الأطر لا يشاركون في ندوات كهذه عادة.
ويقول المعهد في تقريره "إن العلاقات بين المجتمعات اليهودية في العالم، وخاصة بين المجتمعين الأكبرين، في الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل، واجهت أحداثا وأجواء سياسية مختلفة تسببت في تعقيد هذه العلاقات. فمكانة إسرائيل في العالم وردها على أحداث سياسية مختلفة تلزم المجتمعات اليهودية بتقييم كيفية انعكاس العلاقات مع إسرائيل على أوضاعها، وبشكل أكبر من ذي قبل.
ويضيف التقرير أن هذه التقييمات تضع الكثير من اليهود أمام مصاعب جدية في بلورة العلاقات مع إسرائيل. وتبرز الصعوبة الأكبر في العالم لدى الأجيال الشابة، التي تختلف أطرها الاجتماعية ومسارات بلورة مواقفها السياسية، اختلافا كبيرا جدا عما هو قائم لدى الأجيال المتقدمة.
وقضية الأجيال الشابة وابتعادها عن اليهودية والشعور بعدم الانتماء للمشروع الصهيوني (إسرائيل) هو أحد الملفات الساخنة التي تعالجها الحركة الصهيونية من خلال معاهدها ومؤسساتها المختلفة، ومن بينها "معهد سياسة الشعب اليهودي". فقد جاء في أحد التقارير الأخيرة أن من بين أسباب ابتعاد الأجيال الشابة عن اليهودية والمؤسسات الصهيونية، هو ابتعاد الأهالي عن هذه المؤسسات وعدم إرسال أبنائهم إليها. فمثلا، 25% "فقط" من اليهود في الولايات المتحدة الأميركية يرسلون أبناءهم إلى مدارس ومؤسسات يهودية، بينما ترتفع هذه النسبة في فرنسا إلى 40% وفي بريطانيا 60% وتهبط في المانيا إلى 20% وفي دول الاتحاد السوفييتي السابق إلى 15%.
وبنظر الحركة الصهيونية وإسرائيل، فإن الانخراط في المدارس والمؤسسات اليهودية يشكل مؤشرا على تمسك الأجيال الناشئة بديانتهم. ورغم إثارة هذه القضية بشكل مكثف خلال العقدين الأخيرين، إلا أن كل الأبحاث والاستطلاعات تدل على تراجع مستمر في نسب المنخرطين في هذه المؤسسات.
وما يعزز هذه الاستنتاجات هي معطيات استطلاع أجري في الولايات المتحدة وكشف الكثير عن ابتعاد اليهود عن هذه المؤسسات وما يحمله ذلك من آثار. ويقول الاستطلاع إن نسبة الزواج المختلط بين اليهود في أميركا بلغت في السنوات الأخيرة 58%، بينما ترتفع بين العلمانيين من اليهود وحدهم إلى 71%. كما قال الاستطلاع إن 32% من اليهود في سن 32 عاما وما دون يعتبرون أنفسهم "من دون ديانة"، وهي نسبة ترتفع باستمرار، حسب البحث الذي رافق الاستطلاع.
ويقول تقرير آخر لمعهد سياسة الشعب اليهودي، عن ابتعاد الأجيال الشابة عن اليهودية والسياسات الإسرائيلية، "إن الكثير من الشبان اليهود الأميركان الذين يرفعون رايات أخلاقية بمستويات عالية، يتوقعون من البلدان التي يشعرون بالانتماء اليها، مثل الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل، أن تتصرف بالمعايير الأخلاقية نفسها. فإلى جانب انتقاداتهم إلى إسرائيل ينتقدون الولايات المتحدة أيضا، ونرى قادة ومثقفين يهودا أميركان يكثرون من وصف أنفسهم بأنهم يؤمنون بالعدالة الاجتماعية، على المستويين العالمي والمحلي".
ويتابع التقرير "إنه على اساس ما جاء، وخلافا لأجيال سابقة، فإن زيارة هذه المجموعات إلى إسرائيل تزيد من انتقاداتهم للسياسة الإسرائيلية. وقد وصف أحد الشبان اليهود مستوى الحياة في إسرائيل وكيفية التعامل مع "تجارة الجنس والعاملين فيها، واضطهاد العمال الاجانب، وقضايا البدو الذين ليا تتوفر لديهم المياه".
ويطرح تقرير "معهد سياسة الشعب اليهودي" الجديد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في صيف 2014 كنموذج لتباين المواقف، إذ يشير إلى إنه الى جانب بيانات التأييد لإسرائيل من المنظمات والشخصيات اليهودية، ظهرت أيضا انتقادات غير قليلة لإسرائيل، من كتاب يهود مؤثـّرين. كذلك، فقد نشبت خلال العام الأخير خلافات حادة بين إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية في مسائل تتعلق بالمفاوضات مع الجانب الفلسطيني. ولكن خلافات أكثر حدة ظهرت إبان المفاوضات بين الدول الكبرى وإيران، والتي انتهت بتوقيع اتفاق. والموقف الإسرائيلي، الذي تميز بالتشدد والحدة، وضع بعض شخصيات المجتمع اليهودي في الولايات المتحدة في وضع حرج.
والحرج نفسه كان، أيضا، من رد فعل إسرائيل على ما أسماه التقرير "الأحداث اللاسامية في العالم، وبالأساس في فرنسا"، إذ أن دعوة إسرائيل اليهود الفرنسيين إلى الهجرة إليها بسبب تلك العمليات سببت حرجا كبيرا، هي أيضا، وتداولت المجتمعات اليهودية سؤال ما إذا كان من المناسب أن تطلق إسرائيل مثل هذه الدعوة بصورة علنية.
ونذكر هنا أن ما أجج هذا الجدل داخل المجتمع الفرنسي اليهودي، تحديدا، هو رد فعل الرئاسة والحكومة الفرنسيتين الغاضب على دعوات إسرائيل، التي واجهت انتقادات علنية من داخل إسرائيل ومن يهود فرنسيين أيضا.
ويشير التقرير بشكل واضح الى نتائج الانتخابات البرلمانية الإسرائيلية في العام الجاري، إذ جاء: "كذلك، تؤثر الأحداث الإسرائيلية الداخلية على العلاقات مع اليهود في العالم. ففي ربيع هذا العام جرت الانتخابات البرلمانية، وقبيل الصيف تشكلت حكومة جديدة تسعى الى تحقيق أهداف لا يتفق معها كثير من يهود العالم، ومنهم يهود الولايات المتحدة أساسا، وخاصة في مسائل العلاقة بين الدين والدولة". كما كان المعهد ذاته قد أشار في تقرير سابق له إلى موقف يهود العالم من قانون "إسرائيل دولة القومية اليهودية"، إذ يعتبرون أنه قانون زائد ولا حاجة له، كما يجدون صعوبة في تفسيره أمام مجتمعاتهم الديمقراطية، عدا كونه يعيد مسألة "من هو يهودي" الى الواجهة.
وتسعى الأحزاب الدينية المتزمتة والصهيونية المشاركة في الحكومة، مثل "يهدوت هتوراة" و"شاس" والبيت اليهودي"، إلى سن سلسلة من القوانين التي تشدد قبضة المؤسسة الدينية على مناحي الحياة العامة، وخاصة في ثلاثة جوانب أساسية: "حلال الأغذية"، "العمل والمواصلات أيام السبت" و"قانون الزواج" (أي، الزواج المدني).
وحتى الأيام الأخيرة، أدرج على جدول أعمال الكنيست حوالي 60 مشروع قانون من المتدينين والعلمانيين، تتعلق كلها بالعلاقة بين الدين والدولة. والائتلاف الحاكم ليس متماسكا في هذا الملف الساخن، إذ أن كتلة "كولانو" (كلنا) تميل إلى المحافظة على الوضع القائم، دون إجراء أي تغيير فيه، لأنها تعارض تشديد القوانين القائمة. وفي المقابل، فهي تعد بعدم تأييد مبادرات لسن قوانين تغير الوضع القائم في اتجاه العلمانية. وهو ما يسعى إليه حزب الليكود الحاكم، أيضا.
كما يشير التقرير إلى أن نصف يهود العالم ليسوا مقتنعين بأن الحكومة الإسرائيلية الحالية تسعى بجدية للتوصل الى اتفاق مع الجانب الفلسطيني، رغم أن غالبية اليهود تؤمن، حسب التقرير، بما يسمى "أخلاقية الجيش الإسرائيلي".
إسرائيل موضوع خلافي
ويقول التقرير إن هنالك حالة من التقاطب الآخذ في التعمق خلال العقدين الأخيرين في المجتمعات اليهودية في العالم، وخاصة في الولايات المتحدة، تؤدي إلى تضاؤل الجمهور الوسطي في مجالات مختلفة، ومن هذه القضايا الخلافية مسألة التقرب من إسرائيل وشكل العلاقة معها. ويشتد هذا الخلاف حينما تكون إسرائيل موضوع جدل دولي في فترات ما، مثل فترات المواجهات المسلحة، مثلما حصل خلال العدوان على غزة في صيف العام 2014، كما أورد التقرير.
ويورد التقرير نتائج استطلاع المعهد الأميركي "بيو"، والتي ظهرت قبل بضعة أشهر، وتطرق الى رد فعل اليهود في الولايات المتحدة على "المواجهات المسلحة"، حسب تسمية التقرير، إذ اتضح أن أصحاب المواقف الليبرالية كانوا أقل ارتباطا بإسرائيل ووقوفا إلى جانبها من أصحاب المواقف المحافظة، ما يعني أن المواقف السياسية تؤثر على الموقف من إسرائيل والعلاقة بها، وخاصة في حالات التوتر.
ويؤكد التقرير أن نتائج هذه الاستطلاع، كما غيره من الاستطلاعات أيضا، تؤكد وجود حالة عدم رضى من السياسة الإسرائيلية يتخللها توجيه انتقادات إليها، وخاصة من الأجيال الشابة غير المتدينة. ويبرز هذا أكثر لدى الأجيال الشابة في الولايات المتحدة وكندا. وهذه الانتقادات تشتد أكثر في كل ما يتعلق بعلاقة الدين بالدولة، في دولة إسرائيل.
وحسب التقرير، ترى المنظمات اليهودية أن لديها الحق في أن تطلب من إسرائيل تنسيق مواقفها معها، لأن سياساتها تؤثر عليها وعلى نشاطها في بلدانها. وفي تلخيصه لهذا الجانب، يقول تقرير "معهد سياسة الشعب اليهودي" إن "اليهود في العالم يفهمون أن إسرائيل موجودة في بيئة خطرة، وأن هذا الوضع يلزمها أحيانا باستخدام القوة العسكرية ضد أعدائها. وهم ليسوا على قناعة بالقدر الكافي بأن إسرائيل تفعل كل ما في وسعها من أجل تجنب المواجهة، إلا أنه في كل ما يتعلق بطابع القتال ومحاولة تجنب المس بالأبرياء، فيبدو أن غالبية اليهود يتقبلون الرواية الإسرائيلية بأنها تبذل جهدا في هذا الشأن".
ويوصي التقرير إسرائيل بأن تكثف حواراتها مع المجتمعات اليهودية، ومع منظماتها المختلفة، على أن يكون الحوار متبادلا، وأن تكون إسرائيل أكثر إصغاء لتوجهات هذه المجتمعات، التي تؤكد على الدوام أن سياسات إسرائيل في كل الجوانب تنعكس عليها مباشرة في أوطانها وفي العالم عامة، وعليه فإن حوارا كهذا، كما يقول التقرير، سيعزز تجند عدد أكبر من اليهود لدعم إسرائيل.