قبل أحد عشر عاما انتخب إيهود باراك بأغلبية ساحقة رئيسا جديداً لحكومة إسرائيل، وقد تعهد بالخروج من لبنان والتوصل إلى تسوية دائمة مع الفلسطينيين. ولكن بعد مرور 18 شهرا أقصي باراك عن سدة الحكم، ودخلت إسرائيل في مواجهة ونزاع مع العالم المحيط بها: مواجهة بقوة منخفضة مع الفلسطينيين، ومعركتان عسكريتان بقوة متوسطة في لبنان وقطاع غزة، فيما تلوح في الأفق حرب (مواجهة بقوة مرتفعة) يتحدثون عنها كما لو أنها قدر محتوم.
لا يمكن للتصريحات التي أدلى بها رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو في الأشهر الأخيرة حول عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية، إلا أن تثير الدهشة والاستغراب. فقد بدا من تصريحاته وكأنه يبذل المستحيل من أجل الشروع في مفاوضات مباشرة مع الفلسطينيين في أسرع وقت، وأن الحديث يدور، حسب قوله، على مفاوضات ماراثونية تمهيدا للتوصل إلى تسوية شاملة (موضحا أن طريقة "التسوية على مراحل" فشلت ولن يتم العودة لها). والحجة التي يسوقها نتنياهو هي أن الوضع في الشرق الأوسط "متقلب جداً"، وأن هذه اللحظة، كما قال مؤكداً، هي اللحظة المناسبة للتوصل إلى تسوية. وشدد على أنه يتعين على الفلسطينيين الكف عن الاعتقاد الواهم بأن طرفا خارجيا، أي الولايات المتحدة، سيقدم لهم تسوية جاهزة، وقال إنه لا بديل من إجراء مفاوضات إسرائيلية- فلسطينية مباشرة.
في نطاق "الموضة" الجديدة لخطب الزعماء في الشرق الأوسط، والتي استهلها الرئيس الأميركي باراك أوباما في خطابه في القاهرة، ألقى رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" خالد مشعل خطاباً في الخامس والعشرين من حزيران الماضي رد فيه على خطابي أوباما ورئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو. وتكمن أهمية خطاب مشعل في أنه عرض الرؤية السياسية الكاملة والمحدَّثة لحركة "حماس"، وحسم بذلك أيضاً الجدل الدائر داخل الحركة ذاتها بين الذين يوصفون بالمعتدلين وأولئك الذين يوصفون بالمتطرفين، لصالح معسكر المعتدلين.
إن مشاهد القتل والدمار في غزة فظيعة، في حين ما زال سكان جنوب إسرائيل تحت قصف صاروخي لا يتوقف. هذا الوضع يدعو إلى الغضب والحزن والتمرد. في زمن النزاع الدامي يصعب في الحقيقة النظر إلى ما هو أبعد من العنف، ولكن نظرة من هذا القبيل تعتبر حسب رأيي ضرورية وملحة بغية فهم ما يحدث أمام أعيننا.
قال أحد الكتاب القدماء في أستراليا ذات مرة، في أثناء النضال من أجل حقوق الأطفال: "حيثما تمتد البقعة الجغرافية القومية، يكون زمننا ميتا. لكن زمننا له أيضاً عادة العودة بعد الموت". وهذه الملاحظة يمكن أن تساعد في فهم ما يحصل في غزة.
تدلّ العملية العسكرية ضد "حماس" في قطاع غزة، والتي يهاجم الجيش الإسرائيلي خلالها ليس فقط خلايا مطلقي صواريخ القسام وغراد وإنما أيضاً مؤسسات ومقار السلطة (الشرطة ووزارات الحكومة)، على فشل أساسي في تفكير القيادة السياسية والعسكرية في إسرائيل. وهذا الفشل، الذي تجلى في أثناء حرب لبنان الثانية في مواجهة منظمة "حزب الله" وقبل ذلك في مواجهة الانتفاضة الفلسطينية الثانية، ينبع من حقيقة أن صانعي القرارات في إسرائيل لا يدركون ضرورة التمييز بين المس بمن يمارس العنف ضد إسرائيل وبين من يمكن، عاجلاً أم أجلاً، أن ينجح في إقامة سلطة مستقرة- وإن لم تكن بالضرورة مؤيدة- في الجانب الآخر.
الأزمات الاقتصادية الخطرة ليست معزولة عن مسألة الأمن القومي. فمثل هذه الأزمات تمس بالمناعة القومية وتؤثر على قدرة الدول على تحقيق أهدافها القومية. فهي تزيد من الأعباء والضغوطات المالية على أجهزة الأمن وتحد من هامش المناورة السياسية وتهدد رفاهية الجمهور وتفاقم الإجرام وربما تخلق منفذاً لسيرورات اجتماعية خطرة. لذلك من المهم معالجتها بسرعة وبحزم ومن خلال رؤية شمولية.
الصفحة 5 من 119