المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

إن مشاهد القتل والدمار في غزة فظيعة، في حين ما زال سكان جنوب إسرائيل تحت قصف صاروخي لا يتوقف. هذا الوضع يدعو إلى الغضب والحزن والتمرد. في زمن النزاع الدامي يصعب في الحقيقة النظر إلى ما هو أبعد من العنف، ولكن نظرة من هذا القبيل تعتبر حسب رأيي ضرورية وملحة بغية فهم ما يحدث أمام أعيننا.

قال أحد الكتاب القدماء في أستراليا ذات مرة، في أثناء النضال من أجل حقوق الأطفال: "حيثما تمتد البقعة الجغرافية القومية، يكون زمننا ميتا. لكن زمننا له أيضاً عادة العودة بعد الموت". وهذه الملاحظة يمكن أن تساعد في فهم ما يحصل في غزة.

إذا ما نجحنا في تأمل الأحداث العنيفة من خلف ركام الدمار المريع وسحب الدخان وأشلاء الجثث وبقع الدماء وصرخات الأطفال، سنتمكن من فهم هذه الحرب على أنها استمرار للمشروع والسلوك الإقليمي الإسرائيلي الذي تبنى هدفاً متشدداً ووحشياً يتمثل في إسكات الزمن الفلسطيني، أي محو التاريخ الكامل لهذه البلاد. غني عن القول إن إسكات التاريخ يشكل أيضاً محواً للمكان الفلسطيني ومعه الحقوق السياسية الكاملة، تلك الحقوق القائمة بحق مشروعيتها وليس بمنة من إسرائيل. وعليه فإن الغزو الإسرائيلي الحالي لغزة ليس فقط عملية لوقف الصواريخ، أو مسعى لتلميع شخصيات سياسية تمهيداً للانتخابات أو محاولة لترميم الردع الإسرائيلي. الغزو ليس فقط محاولة أخرى "لفرض النظام" لدى آخرين وإسقاط حكومة "حماس" المنتخبة، وليس مسعى إمبريالياً (إسرائيليا- أميركيا) للسيطرة في حيز إسلامي بمستويات متصاعدة من العنف. الغزو الحالي هو كل هذه الأمور بطبيعة الحال، ولكنه أيضاً استمرار لإستراتيجيا مديدة السنوات من إنكار ومحو وشطب أي ذكر لتاريخ هذا المكان في العصور الأخيرة. ومشروع المحو هذا ينخرط فيه الجميع تقريباً: السياسيون والفنانون ووسائل الإعلام والباحثون في الجامعات والمثقفون الإسرائيليون.

إذن، وإزاء محاولات المحو هذه، تعالوا بنا لنتذكر أن قطاع غزة نشأ ككيان مجالي بعد حرب العام 1948، حين نزح وطرد إليه قرابة 150 ألف عربي فلسطيني من جنوب غربي إسرائيل الحالية. جل الطرد جرى أثناء "حملة يوءاڤ" التي اشتهرت بهدفها الرامي إلى "تنظيف" المنطقة من العرب. المطرودون- النازحون تكدسوا بجانب 60 ألف نسمة من الغزيين الأصليين. وتحولت خطوط وقف إطلاق النار مع مصر إلى حدود للدولة، فيما بقي اللاجئون الفلسطينيون محاصرين خلف الحدود، دون أية إمكانية للعودة إلى قراهم وأراضيهم التي دمرت في تلك الأثناء وتحولت إلى أثر بعد عين. أراضي لاجئو غزة صودرت في الخمسينيات لتخصص لبناء عشرات المستوطنات اليهودية التي أقيمت من يافا وحتى بئر السبع. تعداد اللاجئين في قطاع غزة يزيد اليوم عن مليون نسمة (من مجموع 5ر1 مليون) وقد تفاقم وضع هؤلاء اللاجئين الجغرافي بما لا يقاس حيث يعيشون في ازدحام وفقر مدقع.

إسرائيل تهرب من المواجهة

على هذه الأرضية يجب فهم صعود حركة "حماس" التي طرحت بديلا لاتفاقيات أوسلو، وهذه الاتفاقيات التي كان يفترض أن تكون درباً للسلام، تحولت إلى "درب آلام" فلسطيني. ولكن منذ صعود "حماس" في انتخابات ديمقراطية، شددت إسرائيل الخناق على غيتو قطاع غزة بفرضها الحصار على المنظمة وسط فصلها بشكل تام عن الضفة الغربية. من جهتها رفضت "حماس" خدعة "دولتين لشعبين" التي تحولت في حد ذاتها إلى مقولة فارغة من المضمون، تسمح بالاستمرار اللانهائي للاحتلال الكولونيالي. كذلك منحت الحركة صوتاً للاجئين عندما عينت إسماعيل هنية، وهو لاجئ من سكان مخيم الشاطئ، رئيسا للحكومة، وهذا في مقابل نخبة فلسطينية ظلت أسيرة لاتفاقيات أوسلو التي "حظرت" عليها طرح موضوع اللاجئين، أي التاريخ الراهن للبلاد، على الأجندة السياسية.

لا شكّ في أن إطلاق الصواريخ من القطاع على المدنيين الإسرائيليين يستحق كل الشجب والإدانة كعمل إرهابي ضد يهود وكسلوك يلحق أشد الضرر بالشعب الفلسطيني. ولكن فيما عدا ذلك ينبغي فهمه أيضاً كمحاولة لتذكير العالم وإسرائيل وحتى الزعامة الفلسطينية، بأن مسألة اللاجئين ما زالت حية ومطروحة.

في مواجهة هذه الصرخة المستمرة قررت إسرائيل، كعادتها، التهرب من مواجهة المسألة، وانتهاج إرهاب الدولة. وهكذا شرعت بحملة من النار والبارود على القطاع، هدفها التصفية والقتل والتقطيع والمحاصرة. لكن ذلك يمثل قوة ضعيفة من ناحية سياسية وأخلاقية. إن مزيداً من أطنان "الرصاص المسبوك" ومزيداً من قتل الأطفال وإحراق مدن القطاع لن ينجح في إسكات صوت التاريخ. فالزمن الذي ضاع في لجة طبول الحرب والنشوء العنيف لـ "قطاع غزة" سوف يعود بعد موته...

النهاية واضحة: عدا عن وقف إطلاق النار الملح الآن وعلى الفور، فإن وقف العنف الحقيقي يمر فقط عبر "إعادة الزمن" إلى داخل حياتنا السياسية، أي عبر تقص مفتوح ولاذع للتاريخ الذي أوجد علاقات اليهود والفلسطينيين في هذه البلاد، وعبر مواجهة إسرائيلية لرفض وإنكار التاريخ والحقوق الفلسطينية. وفي أثناء تقص من هذا النوع، يكون بطبيعة الحال منوطاً بإنهاء الاحتلال الكولونيالي الإسرائيلي، ستطرح مسألة اللاجئين وفي معيتها مسألة قطاع غزة بأكملها، ولكن ستطرح أيضاً مسائل تتصل بالتاريخ اليهودي الفاجع، وبإمكانيات ضمان مستقبل اليهود في شرق أوسط عربي.

معنى ذلك: إن الاعتراف بالزمن الفلسطيني هو السبيل الوحيد أيضاً للاعتراف بالزمن اليهودي.

فقط عندما يحل التاريخ مكان الأرض- الجغرافيا- كموضوع مركزي للخطاب، أي حينما يُروى تاريخ البلاد وسط شمل وتضمين جميع سكانها ومطروديها، سيشيد الأساس للاعتراف المتبادل بين شعبين متساويين في الحقوق في وطن مشترك. عندئذٍ أيضاً ستتوقف الصواريخ وربما سيحين كذلك زمن المصالحة.

_________________________

(*) البروفسور أورن يفتاحئيل- أستاذ الجغرافيا السياسية في جامعة "بن غوريون" في بئر السبع. ترجمـة خاصة.

المصطلحات المستخدمة:

غيتو

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات