المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

بقلم: غادي الغازي (*)

مؤخراً دمرت قرية بأكملها في إسرائيل.. قرية بدوية اسمها" العراقيب"، وهي إحدى "القرى غير المعترف بها" في النقب الشمالي، على مسافة بضعة كيلومترات إلى الشمال من مدينة بئر السبع. وقد شارك في حملة الهدم المئات من أفراد الشرطة والوحدة البوليسية الخاصة، فيما نجح قرابة ثلاثين من نشطاء اليسار في الوصول من أماكن مختلفة، في اللحظة الأخيرة، من أجل التعبير عن التضامن والاحتجاج. غير أن قوات الشرطة أقامت جدارا حيا فصل بين الأهالي والمتضامنين معهم وبين بيوت القرية، واعتقلت عدداً من النشطاء وقامت بإخلاء النساء والأطفال بالقوة من بيوتهم، لتشق بذلك الطريق أمام البلدوزرات التي تولت هدم وتدمير البيوت والحقول على مرأى من أهالي "العراقيب".

لا شيء يماثل هدم البيوت. صحيح أننا نعلم أن هناك غبنا وتمييزا وإهمالا وخصخصة، ليس في إسرائيل فحسب، بل وفي دول يحلم سياسيون إسرائيليون بالانتماء إليها، ولكن ليس هناك من دولة تخوض حربا ضد مواطنيها وإلى حد هدم بيوتهم.

فحين تحشد الدولة المئات من أفراد قوات الأمن والشرطة والوحدات الخاصة للقيام بعملية تبدأ مع ظهور خيوط الفجر الأولى، وتستخدم الجرافات من أجل هدم بيوت مواطنيها.. حين تعلن عنهم كعدو محتمل وتخرج لدرء الخطر المتخيل بوسائل الهدم والعنف، فإن ذلك يعني الحرب. والحرب "العصرية" ليست دبابات أو طائرات فقط، بل جرافات وأوامر وتراخيص بناء وقرار لجان.. وها هي حكومة إسرائيل تشن باسم دولة إسرائيل حربا مستمرة ضد مواطنيها الفقراء والمغبونين الذين يعانون من ظلم وتمييز. وهي لا تمارس الإهمال فقط، بل تمارس الطرد والتشريد والتهديد والهدم. ولا بد من أن نذكر أن أبناء "العراقيب" هم الذين جرى في الماضي رش حقولهم من الجو بالمبيدات السامة، مما ألحق بهم أضراراً صحية وتسبب بإتلاف وخسارة محاصيلهم الزراعية. في الكنيست تجادل المدافعون عن الرش والهدم حول الكمية الدقيقة للمبيدات التي استخدمت، وحول ما إذا كان سكان "العراقيب" يعانون فعلا من آلام دائمة في الرأس، وما إذا كان بالإمكان استخدام مبيدات بكمية أقل.

ومرت بضع سنوات إلى أن أعلنت المحكمة الإسرائيلية العليا أن رش الحقول بالمبيدات هو سلوك غير قانوني البتة.

العدو الداخلي

لماذا يهدمون بيوتهم إذن؟ قبل يوم واحد فقط (من حملة هدم قرية "العراقيب") نشرت أقوال رئيس الحكومة بينامين نتنياهو، في أثناء نقاش حول قانون الولاء، وقد كان كلام نتنياهو واضحا تماما:

"نحن دولة قومية، وهذا يعني أن السيادة الشاملة على الدولة محفوظة للشعب اليهودي. [...] اليوم يدور صراع دولي ضد تعريف إسرائيل كدولة قومية للشعب اليهودي. أنا لا أريد إبقاء الوضع كما هو، ذلك لأننا نتعرض لهجمة في هذا الصدد. وقد يكون المغزى قيام عناصر وجهات مختلفة بالمطالبة بحقوق قومية وحقوق دولة داخل إسرائيل، في النقب مثلا، إذا أصبح منطقة لا توجد فيها أغلبية يهودية. هذا ما حدث في البلقان، وهو يشكل تهديدا حقيقيا".

كلام واضح: الدولة لليهود فقط. أما المساواة المدنية- الفردية والجماعية- فهي بمنزلة تهديد. كما في لعبة المرآة المعروفة، فإن العدوانية المتخيلة تشرعن العدوانية الحقيقية. وهكذا يتحول البدو في النقب فجأة إلى "تهديد ملموس"، لأنه يمكن أن يحدث هناك شيء ما، كما حدث في البلقان. وما الذي حدث بالضبط في البلقان؟! ما حدث في البلقان هو تطهير عرقي. جميع أنصار التطهير العرقي يدعون أنهم يدافعون عن أنفسهم في مواجهة مجموعة أقلية، يشكل وجودها في حد ذاته تهديداً لهم!

ما هو الذنب الذي اقترفه البدو؟ وكيف نشأ "التهديد الملموس"؟ هذا يكمن في وجودهم بحد ذاته. فقد تنشأ في النقب "منطقة من دون أغلبية يهودية". إنها لطريقة رائعة: يمكن التنقل من منطقة إلى أخرى لنكتشف بأنه لا توجد في منطقة معينة داخل إسرائيل أغلبية يهودية، مثلا بين كفر قرع وأم الفحم، أو بين سخنين وعرابة. وهل لا حاجة عندئذٍ لعمل شيء ما ضد التهديد؟! لكنهم يعملون! يسعون إلى إقامة مدينة (مستوطنة) حريش في وادي عارة، ليس كحل لضائقة السكن أو كجزء من عملية تطوير لصالح عامة السكان، وإنما في إطار محاولة لتوظيف واستخدام ضائقة السكن لدى المتدينين (اليهود) الحريديم كأداة ضد السكان العرب، بهدف منعهم من البناء وتوسيع قراهم وبلداتهم. تماما مثلما أقاموا "المناطير" في الجليل بغية محاصرة وتقطيع أوصال التجمعات العربية، ومحاربة "التهديد" الذي يمثله وجود وحياة العرب في الجليل.

إنها الحرب المستمرة، حرب الاستنزاف ضد جزء من مواطني الدولة، حرب أسلحتها أوامر منع بناء وأوامر هدم ومفتشين و"دورية خضراء". وفي نفس الوقت يطالبون المواطنين العرب بالخدمة المدنية وبإثبات ولائهم للدولة التي لا تكترث لهم. ففي النقب أيضا هدمت السلطات قبل بضعة أسابيع في بلدة رهط، مبنى ناد للجنود البدو.

فما هي الرسالة إذن؟ الرسالة واضحة، ومفادها أن أية خدمة، عسكرية كانت أم مدنية، لا تشكل ضمانة للحقوق. حتى الدروز في الجليل لا يتمتعون بالمساواة، أليس كذلك؟!

لماذا يخلون ويطردون

سكان "العراقيب"؟

سكان "العراقيب" ليسوا غزاة، فقريتهم قائمة منذ ما قبل قيام دولة إسرائيل. وكحال آلاف المواطنين العرب من بدو النقب، فقد تعرض أهالي العراقيب أيضا لحملات طرد وإخلاء وترحيل "مؤقت"، مع وعود، أو بدون وعود بإعادتهم، ليتم بعد ذلك مصادرة أراضيهم. ليست هناك بقعة في النقب تخلو من مجموعات وعشائر بدوية تعرضت باستمرار للتهجير والترحيل القسريين. ربما من السهل على الدولة أن تؤمن بأن البدو قوم من الرحل بلا أرض وبلا حقوق. من السهل عليها أن تقول ذلك لنفسها كي تبرر ترحيلهم القسري من مكان إلى آخر. ويزعمون أن الدولة تسعى إلى توطين البدو وإلى جعلهم أناسا "متحضرين". لكن الدولة في الحقيقة تعمل فعليا على تحويلهم مجدداً إلى بدو رحل من خلال تقويض وزعزعة استقرارهم على الأرض، وتحويلهم إلى مجرد مستودع للأيدي العاملة. يمكن طرد وترحيل البدو من مكان إلى آخر بسبب وضع أمني، كما حدث مثلا في أوائل الخمسينيات، ويمكن طردهم مجدداً كما حدث في السبعينيات، عقب توقيع معاهدة السلام مع مصر وبناء القواعد الجديدة للجيش الإسرائيلي في النقب.. يمكن إخلاؤهم أيضاً لأسباب تتعلق بـ "المناطق الخضراء" و"المناطق المفتوحة" ومن ثم نقل آلاف الدونمات إلى أيدي "أفراد" يهود بالطبع، ليحافظوا على "أراضي الدولة".

في 17 تموز (الماضي) جرى في الحقيقة، دون ضجيج أو إثارة انتباه الناس، تمرير أحد أكثر القوانين أهمية في الفترة الأخيرة، قانون يشرعن الاستيلاء الواسع والمكثف على أراض وموارد، ومنحها لغزاة "جيدين" و"لمغامرين إيجابيين"! لحساب من يجب إخلاء أهالي العراقيب؟ لصالح أعمال تحريج (تشجير) ستقوم بها مؤسسة "الكيرن كييمت". يخلونهم من أراضيهم وبيوتهم من أجل أشجار! هذه الأشجار، وهذا ما اضطر مسؤولون في هذه المؤسسة للاعتراف به، ستزرع بدون خطة هيكلية وبدون أي منطق بيئي أو زراعي، غايتها الحقيقية ضمان السيطرة على الأراضي. مثل هذه الأشجار يمكن رؤيتها بكثرة على مقربة من المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية، أحيانا تكون مغروسة داخل براميل، وذلك لنفس الغاية: السيطرة على الأرض التي يمنع أصحابها الفلسطينيون من الدخول إليها. في النقب، تشكل "العراقيب" مثالا واحداً فقط. فهناك قريتان أخريان (أم حيران وعتير) في شمال النقب، مهددتان بنفس المصير، بحجة إقامة منطقة حرجية ("غابة حيران") على أراضي القريتين "غير المعترف بهما"، رغم مرور أكثر من خمسين عاما على وجودهما. الآن لا وجود لأية أشجار هناك. يقولون إن السكان يشكلون عائقا أمام مشروع الغابة. لكن الحقيقة هي أن هناك مشروع مستوطنة جديدة- لليهود فقط- متخيلة يختبئ خلف مشروع الغابة المتخيلة. هكذا تتم عملية تهويد النقب. إن خطط التطوير الجديدة للنقب ما هي في الواقع إلا خطط جديدة لسلب الأراضي من المواطنين البدو.

لقد عانى عرب النقب من موجة سلب وترحيل قسري كبرى في بداية الخمسينيات من القرن الماضي، تلتها موجة كبرى أخرى في السبعينيات، حين دفعوا ثمن اتفاقية السلام مع مصر، وجردوا من القليل مما تبقى لهم من أراضٍ وهم الآن أمام موجة سلب كبرى ثالثة قادمة.

والجدير بالذكر أن هذه الحملة التي تقضي على إمكانيات تطوير محلية للنقب، يستفيد منها جميع سكانه، لصالح تهويده، وهي ثمرة تعاون رساميل خاصة وشركات كبرى مع الدولة الإسرائيلية. فالخطة المستقبلية للنقب أعدها مكتب استشارات أميركي بتمويل من "الصندوق القومي" الإسرائيلي فرع الولايات المتحدة (JNF- USA) الذي يترأسه الملياردير اليهودي - الأميركي اليميني رون لاودر.

إذن فإن "الخطة الجديدة لتطوير النقب" هي نتاج شراكة ضخمة للدولة مع رساميل خاصة وأجنبية، وهي خطة ساهم رئيس الدولة شمعون بيريس بحماس في دفعها قدما. وتعمل "الكيرن كييمت" على دفع خطط ومشاريع الاستيطان الجديدة في الجليل والنقب بالتعاون مع حركة "أور- مهمات قومية"، التي تهدف علنا إلى تهويد الحيز في هاتين المنطقتين.

هناك فرضية أساس تقبع طوال الوقت خلف كل ذلك، ويتم بموجبها حل المشاكل دائما عن طريق التهجير والترحيل وسلب الأراضي، وإحلال "فئات قوية" مكان "فئات ضعيفة"، يهود مكان عرب، إخلاء- بناء وهكذا دواليك... لا يكتفون فقط بسلب الأراضي والممتلكات، بل يدمرون أيضا النسيج الاجتماعي عن طريق الاقتلاع والتفتيت والتشتيت. هذا السلوك لا يقتصر على قرى عرب النقب فحسب، بل سيطال أيضا مصير قرى وأحياء عربية بأكملها في أماكن أخرى، مثل قرية "دهمش" الواقعة بين اللد والرملة وحي "العجمي" في مدينة يافا.

_______________________

(*) رئيس قسم التاريخ العام في جامعة تل أبيب. ترجمة خاصة.

المصطلحات المستخدمة:

الكنيست, رئيس الحكومة, تهويد, اللد

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات