المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • مقالات مترجمة
  • 1626

شيئاً فشيئاً، وعلى حين غرة، انقلبت الدوائر وعاد ليحلق مجدداً في سماء الشرق الأوسط عامل الردع العسكري الإسرائيلي بعدما كان قد انحدر إلى دركٍ غير مسبوق نتيجة للثمار البائسة لحرب لبنان الثانية. في البعد المتعلق بالمعطيات الواقعية، لم تتغير المعطيات الأساس في موازين القوى في المنطقة، وباستطاعة الملم بالتفاصيل أن ينعش الفرضية القائلة بأن التفوق النوعي لإسرائيل ما زال قائماً على حاله، إن لم نقل إنه ازداد.

 

 

مع ذلك سيكون من السذاجة التغاضي عن الأمزجة العامة المتكدرة التي سادت لدى الجمهور الإسرائيلي خلال السنة الأخيرة، في مقابل الابتهاج والشموخ الذي اعترى أوساطاً معينة في الشرق الأوسط، وليس بالذات الجانب البراغماتي فيه، والحاجة إلى مواجهة المنطق الأعوج القائل بأن الجيش الإسرائيلي مُني بهزيمة في المواجهة العسكرية مع "حزب الله". وكان انتهاج مقولات من قبيل "كم كان بالحري" أو "كان من باب أولى" في هذا السياق قد خلق مخاوف صادقة من الخطر الداهم المحدق بإسرائيل من جهة جيوش نظامية وبالأساس من التحالف السوري- الإيراني.

 

الطريقة الرعناء والمتهاونة التي أدير بها القتال في لبنان، والفجوة بين المرغوب والمتاح والشعور بفقدان الصواب في ظل وفي معطيات حرب غير متكافئة، كل هذه الأمور زعزعت، على الأقل في الوعي، أسس مقومات وجود دولة إسرائيل.

 

وبمنظور سنة أو أكثر، تبدو حرب لبنان الثانية ضرباً من الارتجال الطائش وطرحاً منافياً للعبرة أو العظة الخالدة: قدِّر ثم قرر. أما مراوغات ومناورات القادة والمسؤولين والشعبويين في جانبنا فلن تغير حقيقة أن الحرب كانت في طريقة اندلاعها حرباً اختيارية (غير اضطرارية) في مطلق الأحوال.

 

الصحافة تنزل وتُعلي

 

على الرغم مما أوردناه أعلاه، يخيل أن "الغم الشديد" الذي أصاب المجتمع الإسرائيلي كان إلى حد كبير صنيعة وسائل الإعلام، التي تصرفت بنوع من العداء الأهوج تجاه معظم مؤسسات وأركان الدولة مضيفة بذلك عاملاً من زعزعة الثقة بالنفس والذي لازم الجمهور وكذلك الزعامة بل حتى الجيش والمؤسسة الأمنية برمتها.

 

وبطبيعة الحال فإن وسائل الإعلام ليست مطالبة بتقديم كشف حساب، أو إخضاع نفسها لأية مساءلة، فيما يميل مستهلكو الأخبار إلى التسامح تجاه "المملكة السابعة" أو أنهم يفضلون قلب الصفحة والانصراف إلى متابعة مشاغلهم اليومية. وهكذا إذن يتحول الجيش الإسرائيلي دفعة واحدة من "كيس يتلقى الضربات" إلى محط اعتزاز وإعجاب، وتعود دولة إسرائيل لتتربع على عرش "القوة العظمى الإقليمية".

 

لا ريب في أن تعيين إيهود باراك في منصب وزير الدفاع ارتقى بصورة كبيرة بمكانة الجيش وأعاد روح الإبداع لجهات التخطيط والوحدات التنفيذية على حد سواء. في الدهاليز المهمة سمعت مجدداً مقولة "بالأحابيل تصنع حرباً"، ليس فقط في سياق فكرة مولِّدة ، وإنما أيضاً بجرأة وبتنفيذ عمليات نوعية ذات رسائل. أحياناً تبدو بلورة وصياغة قدرة الردع أسهل من مهمة ترميمها. في السياق الإسرائيلي هناك حاجة بالأساس، كما هو معلوم، لخلق تحول أو انعطافة في الوعي وبصورة تبرهن على أنه يقف خلف مصطلح التفوق النوعي جوهر حقيقي، قادر على جعل الخصم يصاب بالذهول دون قدرة على استيعاب ما حصل سواء على المستوى التنفيذي أو في المجال الاستخباري. أحياناً تكفي رسالة واحدة من هذا القبيل لجعل الخصم يستخلص الاستنتاجات المهنية اللازمة التي يبقى تأثيرها لفترة طويلة.

 

ضربة في غزة كعبرة من الحرب

 

لهذا السبب بالذات، ما زال من الصعب التسليم بالانطباع بشأن عجز وإفلاس الجيش الإسرائيلي عن مواجهة تهديد الصواريخ المتعاظم من جهة قطاع غزة. المقولة القائلة إن ضبط النفس هو دليل على قدرة صمود مدنية وعسكرية، تتراءى كمقولة واهية، زائفة، لا سيما وأن علينا الاحتفاظ بزمام المبادرة لتغيير الوضع، ذلك لأن عناصر "حماس" و"الجهاد الإسلامي" وفروا لنا مئات الأسباب لـ "ذريعة للحرب" وعليه من الأفضل القيام بعمل ما قبل أن نضطر للقيام به حينما يغدو دم الضحايا بمنزلة "القشة التي قسمت ظهر البعير".

 

مؤكد أن الجهات المخولة والمسؤولة لدينا مدركة لحقيقة أنه على الرغم من الصورة المرعبة لوحدات القوة الخاصة لحركة "حماس" و"العصابات" التابعة لها، فإن ذلك ليس كافياً ولا يبرر وضع سقف أعلى من اللازم للجيش الإسرائيلي. كذلك فإن المعلومات حول أنفاق التهريب عبر "محور فيلادلفي" لا يمكنها أن تغير ولو مكونا واحدا في موازين القوى بين الجيش الإسرائيلي وبين حركة "حماس". على الرغم من ذلك فإن كلاماً سخيفاً أمام عدسات التلفزة، يترجم من جانب متحدثين متهورين إلى نوع من السلاح والذخيرة المثيرين للفزع دون أن يكون لذلك أي سند حقيقي.

 

لذلك يبدو أن المؤسسة العسكرية باتت أقرب من أي وقت مضى لاتخاذ قرار بالإيعاز للجيش الإسرائيلي كي يعالج بصورة جذرية التهديد الصاروخي المحيق بالعمق المدني في إسرائيل، وهذا مع الإدراك المسبق أن هذه الخطوة خطوة مشروعة ترتكز إلى معظم قواعد العدل الطبيعي والقانون الدولي. ومن المفترض في هذا السياق أن تجد دروس حرب لبنان الثانية، التي طبقت من قبل الجيش الإسرائيلي على المستويين التكنولوجي والنظري على حد سواء، ترجمة وانعكاسات لها في ساحة المعركة، والتي سيكون لها بالضرورة أثرها على الإنجازات اللازمة في هذه المعركة.

 

لقد بات يتضح أكثر فأكثر أن أصداء العملية الإسرائيلية في المجال الجوي السوري أخذت تنفذ أيضاً إلى وعي زعماء النظام الحاكم في طهران، ويبدو أنها ستترك بصماتها في الملعب الإيراني. لكن ذلك لا يستطيع أن يزيل مخاوفنا فيما يتعلق بالتهديد النووي الآخذ بالتكون إلى الشرق منا، بيد أنه علينا أن نتذكر أن غاية الردع هي جعل الخصم يغمد سلاحه، وإذا كان الجيش الإسرائيلي قد رسم بعمليته اللافتة إشارة تحذير في هذا الاتجاه فقد ثبت مجدداً أن الغاية تبرر الوسيلة.

 

___________________________________

 

 

* كولونيل احتياط خدم سابقاً في شعبة الاستخبارات العسكرية (أمان). المقال ترجمة خاصة بـ "المشهد" (المصدر: شبكة الانترنت).

 

المصطلحات المستخدمة:

باراك

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات