في الخطاب الذي ألقاه في حفل وداعه من رئاسة المحكمة العليا قال القاضي أهارون باراك إن المستقبل هو الذي سيثبت فقط إذا ما كان قد استطاع أن يكتب صفحة في تاريخ إسرائيل القضائي. وقد رأى الكثيرون في أقواله تواضعاً مبالغاً فيه، حتى لا نقول مفتعلاً. لكن باراك، كعادته، كان أبعد نظراً من جمهور مؤيديه وأنصاره. فالسؤال بشأن ما إذا كان تراثه سيترك بصماته بالفعل، لا يتوقف على نوعية وعبقرية أحكامه وقراراته وحسب، وإنما يتوقف بالأساس على الاستعداد لتبنيها وتطبيقها قولاً وعملاً.
ولعله يبدو من الآن أن هذا الاستعداد أخذ يضعف ويتراجع.
هناك درس مركزي في إرث باراك وهو الحزم في تقصي واستنفاد مسؤولية كبار الشخصيات والمسؤولين سواء إزاء مخالفات جنائية، أو شوائب أخلاقية أو بسبب تقصيرات وإخفاقات. وقد وجد هذا الأمر تعبيراً له في "اختبار بوزاغلو"، وفي إصراره- عندما كان في منصب المستشار القضائي للحكومة- على تقديم شخصيات رفيعة لمحاكمة جنائية حتى إذا كان الأمر سيفضي إلى سقوط الحكومة (كما حدث بالفعل في "الانقلاب السياسي" الأول سنة 1977).
هذا التوجه تجلى في سلسلة قرارات وأحكام باراك كقاضٍ، تلك الأحكام التي قضى وأكد فيها أن على كبار الشخصيات في الزعامة أو القيادة الرسمية، بمن في ذلك السياسيون، التخلي عن مناصبهم بسبب شائبة أخلاقية، حتى وإن كانت هذه غير قابلة للإثبات في المحكمة، وذلك على اعتبار أن هؤلاء لم يعودوا مؤهلين لتجسيد "الاستقامة والنزاهة".
وقد عبّر ذلك عن نفسه عندما أكد باراك (مع رئيس المحكمة العليا في حينه إسحق كاهان في تقرير لجنة التحقيق الرسمية في مذابح صبرا وشاتيلا) على وجوب إقالة وإقصاء شخصيات، وبضمن ذلك مسؤولون في المستوى السياسي، إذا أخفقوا في قراراتهم وأدائهم. لم يقبل باراك الإدعاء أو الطرح القائل بأنه لا يجوز إقصاء منتخبين من قبل الجمهور بدعوى أن هذا الامتياز أو الحق يعود للناخبين فقط، وقد أعلن باراك قائلاً: "حكم الجمهور ليس بديلاً عن حكم القضاء".
التنكر لهذا التراث القيمي بات واضحاً وجلياً منذ اليوم. ويبرز هذا التنكر بشكل خاص في قضية رئيس الدولة، موشيه كتساف، الذي يتشبث بمنصبه الرفيع رغم توفر أدلة وإفادات حول ارتكابه لمخالفات جنسية خطيرة، ورغم إعلان المستشار القضائي للحكومة أن الانطباع الذي كونه من إطلاعه على مجريات التحقيق حتى الآن، يُشير إلى أن تلك الإفادات ليست محض افتراء.
لقد فقد الرئيس (كتساف) قدرته على تجسيد الاستقامة والنزاهة، غير أنه شخصياً وكذلك الكنيست- المخوّل بإقصائه عن منصبه- لا يستخلصان العبرة المطلوبة من إرث باراك.
هذا الأمر ينطبق أيضاً على سلوك القيادة السياسية والأمنية التي أخفقت في حرب لبنان الثانية. صحيح أن رئيس الحكومة صرّح بأنه يتحمل كامل المسؤولية عن الإخفاقات والتقصيرات، وأنه لن يشرك أحداً في تحمل هذه المسؤولية. غير أنه، كما هو معلوم، لم يستخلص أي استنتاج شخصي من تحمله لهذه المسؤولية، بل عمل على عرقلة وإحباط استنفادها (سواء تجاه نفسه أو تجاه الآخرين) برفضه لإقامة لجنة تحقيق رسمية موثوقة ذات "أسنان" أو صلاحيات. وذهب رئيس الحكومة (أولمرت) أبعد من ذلك بادعائه أنه لو استخلص العبر وقدم استقالته لكان قد تنصل بذلك من مسؤوليته!
من هنا فإن رفض إقامة لجنة تحقيق رسمية- كان يمكن أن يترأسها القاضي المتقاعد أهارون باراك- يبدو بمثابة "إحباط موضعي" أو "اغتيال" فعلي لإرث باراك.
ليس مفاجئاً البتة، وربما ليس صدفة أيضاً، أنه لا يوجد في اللغة العبرية اصطلاح قصير، مصيب وملائم لكلمة Accountability (قابلية للمحاسبة). غير أنه ثبت هذه المرة أن ثمن عدم استنفاد المسؤولية الشخصية قد يكون خطراً وجودياً، وأن استنفاد المسؤولية أمر حيوي، ليس فقط من أجل "معاقبة" المسؤولين و/أو ردع آخرين عن ارتكاب أخطاء مماثلة، وإنما أيضاً من أجل الحيلولة دون استمرار المسؤولين أنفسهم في التسبب بكوارث ومآس. إذا كان رئيس الوزراء ووزير الدفاع ورئيس الأركان، وكذلك قسم من المرشحين لخلافتهم، أخطأوا حقاً قبل وأثناء الحرب في قرارات حاسمة تتعلق بمصير وحيوات الناس، فإن عدم استنفاد مسؤوليتهم من شأنه، ليس نقض إرث رئيس المحكمة العليا (السابق) وحسب، بل سيكرس وضعاً تكون فيه حياة الجنود والمواطنين، وربما حياة الدولة بأسرها، مودعة أو متروكة في أيدٍ مهملة ومتهورة.
نحن في هذه المرة لا نصطدم فقط بتجلٍّ سافر بشكل خاص لغياب استنفاد المسؤولية الشخصية، بل نصطدم، للمرة الأولى، بمحاولة آثمة، مغرضة، لقلب نقطة ضعف إلى "ميزة إيجابية" وإلى "أيديولوجيا". يقولون لنا بأنه ينبغي حقاً استخلاص العِبر، ولكن لا يجوز بأي حال من الأحوال "قطع رؤوس" لأن ذلك سيمنع أو يعيق الإصلاح الضروري. ولكن هل يمكن استخلاص العِبر والقيام بإصلاح حقيقي دون "قطع رؤوس"؟! أليس من الواجب أن نمنع فوراً، أولئك الذين جُرّوا علينا، بسبب قلة درايتهم وحيلتهم، الفشل والإخفاقات، من العودة لتكرار الفشل والإخفاق؟ هذا يُعيدنا إلى إرث القاضي باراك.
في تقرير لجنة التحقيق الرسمية في مذابح صبرا وشاتيلا، لم يتورع باراك عن "قطع رؤوس" وزير الدفاع وعدد من الجنرالات موضحاً أنه لا يجوز إعفاء المستوى السياسي والمستوى العسكري على السواء "من الخضوع للمحاسبة من ناحية الحق العام عن أعمال أو تقصيرات تُشير إلى عدم نجاعة... وعدم اهتمام كافٍ... وإلى أعمال جرت بتسرع وإهمال وعدم تعقل وروية وعجز عن رؤية واستشراف المستقبل، في الوقت الذي يتعين فيه على الإنسان الذي يشغل منصباً معيناً، وبناء على المؤهلات والصفات الشخصية المطلوبة منه في أدائه لمهام منصبه، أن يرى ويستشرف المستقبل".
كما هو معروف فإن ظاهرة عدم استنفاد المحاسبة، والتنصل من المسؤولية الشخصية، ليست قائمة أو موجودة فقط في الجيش وفي القيادة الأمنية والسياسية، وإنما أيضاً في قطاعات وفروع أخرى، وهي هنا، وإن كانت لا تكلف دماً، إلا أنها تجبي ثمناً باهظاً وخاصة على صعيد الفساد والإفساد. فمسؤول كبير فاسد لا يتم إقصاؤه عن مواقع التأثير والحسم، لن يكف ولن يقلع عن سلوكه الملتوي، كما لا يُرجى منه أن يعين تحته مرؤوسين يتفوقون عليه في كفاءاتهم أو استقامتهم، خشية أن يكشفوا عورته. وفي النهاية فإن الفساد المزمن، الناتج عن عدم استنفاد محاسبة ذات المسؤول الكبير، سينعكس بالضرورة أيضاً على المجال الأمني. إن من اعتاد على تعيين أشخاص غير جديرين بتولي مناصب رسمية، فقط لاعتبارات الراحة السياسية، ولم يعاقب على ذلك، لا بل وجد الطريق ممهداً لوصوله إلى القمة، لن يتورع عن تعيين شخص يفتقد أية مؤهلات لقيادة الهيئة الأمنية وذلك فقط لكون الأمر يخدم راحته السياسية.
كيف يتم تحقيق استنفاد المسؤولية الشخصية؟ من الأفضل بطبيعة الحال أن يبادر الذين انكشفت عورتهم إلى الاستقالة من تلقاء أنفسهم، مثلما فعل إسحق رابين عقب قضية حساب الدولارات، ومناحيم بيغن إثر حرب لبنان الأولى (1982)، وغولدا مئير عقب حرب "يوم الغفران" 1973. وفي حال لم يفعلوا ذلك، فإن على الجمهور عندئذٍ أن يطالبهم، بالوسائل الديمقراطية المتبعة، باستخلاص العبر الشخصية. غير أن الجمهور الواسع يعاني أيضاً من تآكل في وعي وإدراك ضرورة استنفاد المسؤولية الشخصية. وقد كان باستطاعتنا ملاحظة ذلك قبل وقت طويل من التواجد الهزيل في خيام الاحتجاج الذي نظمته الحركة لجودة الحكم في إسرائيل وأفراد قوات الاحتياط. فإدانة أريئيل شارون في لجنة التحقيق الرسمية (في مذابح صبرا وشاتيلا) بالوقوع في فشل أدائي وأخلاقي خطير خلال حرب لبنان الأولى، واعتباره بناء على ذلك غير جدير بقيادة المؤسسة الأمنية، فضلاً عن الدعم الذي قدمه جهاز القضاء (برفضه لدعوى القذف والتشهير التي رفعها شارون ضد صحيفة "هآرتس") للإدعاء القائل أن الوزير شارون ضلل رئيس الوزراء مناحيم بيغن، كل ذلك لم يمنع ولم يردع الجمهور عن انتخاب شارون مرتين، وبأغلبية كبيرة، لرئاسة الحكومة.
إذا كان من غير الممكن الاعتماد على الزعماء والقادة أنفسهم، أو على الجمهور، في الحرص والإصرار على استنفاد المسؤولية، فإنه لا مناص عندئذٍ، وكخيار اضطراري، من الاستعانة بأجهزة وهيئات خارجية كي تفرض ذلك على المؤسسة السياسية، ومثل هذه الأجهزة متوفرة لدينا. فقد سبق للمستشار القضائي للحكومة ولمراقب الدولة والمحكمة العليا ولجان التحقيق الرسمية أن فرضوا على مسؤولين كبار فاحت رائحة عفنهم وفسادهم استنفاد المسؤولية الشخصية، والتنحي عن مناصبهم. غير أن هذه الأجهزة أيضاً أصيبت بالضعف والوهن سواء بسبب ثغرات في القوانين المؤسسة لها، أو بسبب محاولات السياسيين المغرضة لقصقصة أجنحتها.
من هنا فإن سن قانون يطور ويرتقي بأجهزة الإلزام هذه (مثلاً قانون يسهل إقامة لجنة تحقيق رسمية حتى رغم إرادة الحكومة، أو قانون يحدُّ من حصانة رئيس الدولة ويخول المحكمة العليا إقصاءه عن منصبه) بات بمثابة "أمر الساعة" المُلح.
هناك من يقول إن العلة ليست في أجهزة الإلزام وإنما في تربية القادة والجمهور على استنفاد المسؤولية الشخصية. المشكلة هي أن التربية عملية طويلة ومضنية، وبالتالي لا يجوز لنا ترك مصيرنا ومصير أبنائنا وديمقراطيتنا في أيدي قادة فاشلين إلى أن تكتمل العملية التربوية. إضافة إلى ذلك، ليس هناك أي تعارض بين التربية على المسؤولية الشخصية وبين فرض أو استنفاد هذه المسؤولية: على العكس، فاستنفاد المسؤولية الشخصية بشكل منهجي وثابت من قبل أجهزة إلزام مستقلة يمكن له، في حد ذاته، أن يغرس ويرسخ في أذهان الجمهور الوعي والتبصر بحقيقة أن الوضع الذي يستمر بموجبه المسؤولون عن الإخفاقات الكبرى في قيادتنا هو وضع غير محتمل في ديمقراطية سليمة، وأن ضرورة الإطاحة بهم هي مسألة مصيرية بالنسبة لنا لن نَحيد عنها.
____________________________
* موشيه نغبي- خبير ومعلق قانوني ومحاضر كبير في الجامعة العبرية- القدس وكلية نتانيا.