لا يزال موضوع الرقعة (او الرقع) الجغرافية، التي تهيئها حكومة أريئيل شارون ل"توطين" المستوطنين الكولون من قطاع غزة الذين سيتم إخلاؤهم من هناك في حالة تطبيق خطة "فك الارتباط" أحادية الجانب، مندرجًا في إطار المسكوت عنه.
وسائل الإعلام الاسرائيلية تعجّ، في الآونة الأخيرة، بتقارير منمّقة حول "تكلفة تطبيق الخطة" وحجم "التعويضات" التي ينتظر أن تتلقاها كل أسرة من المستوطنين وما إلى ذلك، حسبما يوضح في هذا الشأن تقرير منفرد في مكان آخر من "المشهد". غير أن هذه "الوسائل" تملأ فمها ماء حول المكان/ الأرض التي سيتم تخصيصها لإستيعاب هذه "الموجة الجديدة من الهجرة اليهودية" إلى داخل "الخط الأخضر".
لا شك أن في ما يجري إشارة بليغة إلى صمت مبرمج، من طراز الصمت ذي الماركة الصهيونية المسجلة والذي حفل به التأريخ الصهيوني- الاسرائيلي ولا يزال، في كل ما يتعلق بمسألة الأرض/ الجغرافيا وإحالاتها على صيرورة التطهير العرقي لفلسطين.
بالعودة إلى نصّ خطة "فك الارتباط" ينبغي الإشارة إلى غياب أي ذكر لهذه المسألة، وربما ينطوي ذلك على دالة أخرى بخصوص الصمت المبرمج إياه. غير أن تقطيرًا للثرثرة القليلة حول موضوع المكان المعد لمستوطني القطاع من شأنه أن يبيّن ما يلي:
(*) في رسالة "الضمانات" التي وجهها الرئيس الأميركي، جورج بوش، إلى رئيس الوزراء الاسرائيلي، يرد توكيد على أنه "من المهم جلب فرص جديدة للنقب والجليل".
(*) قبل هذه الرسالة أفادت صحيفة "غلوبس" الاسرائيلية بأن الادارة الامريكية وعدت اسرائيل بأن تدرس بشكل ايجابي مسألة منحها هبات ومساعدات اقتصادية، اضافة لتلك التي تحصل عليها سنويا، في مقابل موافقة الحكومة الاسرائيلية على خطة "فك الارتباط".
وأوضحت الصحيفة كذلك أنه تم الاتفاق بين الاسرائيليين والاميركيين على أن لا تقدم اسرائيل طلبات رسمية بهذا الخصوص في هذه المرحلة، وعلى عدم طرح الموضوع لدى زيارة شارون الى واشنطن ولقائه الرئيس جورج بوش. وأضافت ان عدم الحديث عن الموضوع يهدف، ضمن أمور أخرى، الى عدم إظهار هذه الهبات كما لو أنها "مقابل مباشر لإخلاء قطاع غزة". وانما سيتم الحديث عنها بعد إقرار الخطة وتنفيذها "لكي تبدو الهبات على أنها مقابل تمويل مباشر لتطوير النقب ومساعدة مباشرة للحرب ضد الارهاب"، حسبما كتبت الصحيفة نفسها.
وبحسب ما جاء في الصحيفة، فإن اللقاء الذي عقده شارون ،قبيل زيارته الأميركية،مع وزير المالية الاسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في مزرعة الأول، تمحور حول هذا الموضوع. وقال شارون لنتنياهو خلال اللقاء إن "المساعدات الاقتصادية التي ستحصل عليها اسرائيل ستتيح تنفيذ حلم حكومات اسرائيل بتطوير النقب وإقامة بنى تحتية لاستيعاب مئات آلاف المواطنين (وربما مهاجرين جدد أيضا) في المنطقة". وقالت الصحيفة ان نتنياهو يرى بذلك "رافعة لتسريع النمو الاقتصادي"!
(*) لا ننسى طبعًا أن الجليل والنقب تجمعان سكانيان للعرب الفلسطينيين في إسرائيل، الذين سبق أن صودرت معظم أراضيهم، وفي السياق الذي نتحدث فيه سبق أن ذاقوا مرارة عواقب "إخلاء" مستوطنين من أرض عربية، وذلك في إطار "إتفاق السلام مع مصر"، حين تم نقل بعض المستوطنات وبعض معسكرات الجيش الاسرائيلي من سيناء إلى النقب، ما أدى إلى تهجير آلاف المواطنين البدو من أراضيهم. وتأسيسًا على هذه السابقة فإن رسالة النواب العرب من حزب "التجمع" التي تحذر الرئيس الأميركي من مترتبات مماشاة أية خطط إسرائيلية تستهدف "وضع اليد" على المزيد من الأرض العربية في الداخل، تأتي في وقتها.
هكذا يحيل الحديث عن خطة "فك الارتباط" من هذه الزاوية تحديدًا إلى جانب غير بائن تمامًا من جوانبها الأشد والأدهى كافتها. إنه جانب الأرض الفلسطينية، التي كانت أولاً ودائمًا الغاية القصوى، يمكن القول المسكوت عنها، في المخططات السياسية الإسرائيلية المؤدلجة عادة بالفكر الصهيوني الجامح.
ويعيدنا ذلك، بطبيعة الحال، إلى مسألة ضوابط العلاقة التقليدية، في الممارسة الصهيونية، بين الدمغرافيا والجغرافيا التي كان جوهرها، في العمق، حوسلة"الجغرافيا" (أي تحويلها الى وسيلة) لخدمة غايات "الدمغرافيا".
وغالبًا ما كان هذا الجوهر يتبدى في كامل عريه محايثًا لسيرورات "تقسيم الأرض". وربما من المفيد على الدوام إستعادة ما يقوله عالم الاجتماع الاسرائيلي "غرشون شفير"، الذي كتب عن تجليات هذه المسألة في التاريخ الماضي من النزاع على الأرض يقول : إعطاء أفضلية للدمغرافيا (أغلبية يهودية في جزء من فلسطين) على الجغرافيا (أقلية يهودية مسيطرة على كل أجزاء فلسطين) تحوّل الى ماركة متميزة للتيار المركزي في حركة "العمل" الصهيونية.
وتمثلت المصلحة الدمغرافية لحركة العمل في زيادة كثافة السكان اليهود. ونظراً لأن الهجرة اليهودية لم تزود "الأعداد" المطلوبة فإنه لم يكن ممكناً إحراز النتيجة المنشودة إلا عبر الاكتفاء بمنطقة سيطرة يهودية مقلصة نسبياً. ورغم أن جميع الصهيونيين ، بلا استثناء، كانوا في البداية من أنصار "أرض اسرائيل الكاملة" فإنه في سنوات الثلاثين ( في 1937 ضمن سياق برنامج التقسيم للجنة بيل) وفي سنوات الاربعين (في 1947 ضمن التجاوب مع قرار التقسيم الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة) ظهرت جاهزية لدى جزء كبير من حركة العمل لقبول تقسيم البلاد بين دولة يهودية وبين دولة فلسطينية أو أردنية. هذه الجاهزية لم تكن ناجمة عن مسالمة متأصلة في قيم حركة العمل- حسبما يميل الى الاعتقاد باحثون اسرائيليون كثيرون- وإنما كانت ناجمة بالذات عن حربجيتها.. ويمكن القول إن حركة العمل، من منطلق دفاعها العدواني عن المصالح الاقتصادية للعاملين اليهود، انتهجت استراتيجية تقطيع أوصال السوق وإقصاء العمال العرب منه. واستهدفت هذه الاستراتيجية، بالأساس، تقليص المصاعب الاقتصادية التي كانت ماثلة أمام الاستيطان الصهيوني من جراء الواقع الدمغرافي الذي يشكل الفلسطينيون فيه أغلبية السكان (من كتابه "الارض، العمل والنزاع الاسرائيلي- الفلسطيني" الصادر في 1989).
ما يقوله "شفير" قال به غيره طبعًا من الإسرائيليين ومن الفلسطينيين سواء بسواء، المهم فيه أنه يلوّح، الى حد بعيد، بجانب مثير من الخلفية التي مهدّت لخطة "فك الارتباط"، الآن وهنا. وإذ نؤكد على ذلك، دون أن تغفل عيوننا عن الجوانب الأخرى غير قليلة الأهمية، فلكي نعيد إلى الواجهة التقدير الذاهب إلى أن شارون بخطته هذه إنما يعود إلى جذوره القديمة ليس أكثر، وأن هذه العودة لا ينبغي بها أن تشي بأن تغييرًا تحويليًا ما قد طرأ على فكره الصهيوني وتفكيره السياسي.